نحو اهتمام أكبر بمراكز البحث العلمي

1

يشكل حضور مراكز البحوث، بالعالم المعاصر، معيارا يقاس بموجبه مستوى نهضة الأمم. ولم تعد أنشطة هذه المراكز مقتصرة على مجالات معينة، بل عملت بطرق أفقية، لمعالجة مختلف القضايا العلمية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية. وصار كل مركز يهتم بحقل خاص، يستجلب المختصين والباحثين، في مجال عمله. وحيث تنشط هذه المراكز، تبرز معالم التنمية والتصنيع ومكننة الزراعة، وتتسع دائرة المؤسسات العلمية، وحيث يغيب حضورها، تغدو الأحوال بعكس ذلك.
لقد باتت هذه المراكز، من أهم أدوات التأثير في عملية صنع السياسة العامة بالدول الحديثة. وفي هذا السياق أشار تقرير صادر عام 2016، عن جامعة بنسلفانيا، إلى أن من أهم أسباب الصعود الكبير، لهذه المراكز، منذ منتصف القرن العشرين، الثورة المعلوماتية والتكنولوجية، ونهاية احتكار المعلومات، بسب الانتشار الواسع للشبكة العنقودية. إضافة إلى زيادة التعقيدات، والطبيعة التكنولوجية، للقضايا الإجرائية، وتضخم أجهزة الدولة. علاوة على تضاعف أزمة الثقة في الحكومات ومسؤولي الأجهزة التشريعية في الغرب.
ويؤكد التقرير على دور العولمة ونمو أدوار الفاعلين خارج أجهزة الدولة، في النمو المطرد لمراكز البحوث والدراسات، والحاجة إلى معلومات سريعة ودقيقة، وتحليلها بطريقة مناسبة، ومن قبل أشخاص مؤهلين وفي الوقت المناسب. لقد جعلت هذه الأسباب مراكز البحوث والدراسات، من أهم الفاعلين في صنع السياسات المحلية والإقليمية والدولية، بسبب الطبيعة المعقدة للمشكلات اليومية المعاصرة، التي نتجت عن الثورة المعلوماتية، والاستخدام الواسع للشبكة العنكبوتية.
كما أضفت هذه التطورات، أوضاعا مركبة، على عمليات صنع القرار. مما أوجب، اعتماد درجة عالية من الحرفية، لكي يكون بالإمكان صناعة قرارات وسياسات صائبة، بكفاءة وفاعلية.
ولذلك برزت الحاجة الماسة، لمراكز الفكر، لتكون جسرا واصلا بين الأكاديميين وصناع السياسة العامة. وقد غدت هذه المراكز من أهم ركائز الحكم الرشيد في النظم الحديثة، حيث تقوم بتقديم توصيات وسياسات بديلة، لمساعدة صانعي القرار، على تبني قرارات صحيحة، وصياغة سياسات تعكس حاجات المجتمع، وتتسق مع التحولات بالساحة الدولية، وبما لا يتعارض مع المصلحة العامة.
لقد تمحورت مهمة هذه المراكز، في تقديم المشورة والنصح لصناع القرار، وتقييم البرامج للدول، وتأدية دور الجسر لتبادل الأفكار والآراء، وبوابة لتأهيل الأفراد لتولي مواقع قيادية بالدولة، وبعضها يضطلع بمهمة تبرير سياسات الحكومة وكسب تأييد الرأي العام لمصلحتها. ويختلف تأثير هذه المراكز، بحسب قربها أو بعدها من صانع القرار، وتأثيرها يتوقف على مدى الاستجابة لها. ويبرز ذلك بوضوح، عند دراسة السياسات التي تتبناها الحكومات، كنوع من الاستجابة لتوصيات تلك المراكز.
ولكي تكون للممارسة البحثية تأثيرها، في إيجاد نوع من التراكم المعرفي والأكاديمي في فهم وتحليل النظم السياسية، فإن من الأهمية بمكان، أن تستند إلى عدة مرتكزات، أهمها أن من يقوم بتنفيذها والمشاركة في إعدادها ينبغي أن يكونوا باحثين ينتمون إلى التخصصات التي يتناولون مجالاتها، كالاقتصاد والاجتماع والسياسية والإدارة والأنثروبولوجيا والتاريخ. ذلك أن من أبرز خصوصيات السياسة في البلدان العربية، ارتباطها بالتاريخ والتقاليد والثقافة والهياكل الاجتماعية. وبالتالي فإن فهم الحياة السياسية، بشكل علمي وأدق، في أي بلد عربي، يتطلب من ناحية، معرفة بهذه المجالات، ومن ناحية أخرى تكاملا منهجيا، في تحليل الظواهر السياسية.
وفي هذا السياق، من المهم تشجيع البحوث التجريبية، في دراسة قضايا ومشكلات التطور السياسي في الوطن العربي، وتحقيق التكامل بين التحليل الكمي والتحليل الكيفي في دراسة هذه القضايا.
ويستتبع ذلك بالضرورة الاهتمام بالدراسات المقارنة، لأنها تتيح فهم المتغيرات السياسية التي تحدث، بشكل أفضل، وإدراك حدود الخاص والعام في التطورات السياسية الجارية. ولعل من المفيد أكثر أن تشمل المقارنة على ما هو أكثر من حالتين.
إن تحقيق المهمات التي أشرنا لها، يقتضي بالضرورة، تطوير أداء المؤسسات البحثية، المتخصصة في الدراسات السياسية بالوطن العربي، وفي مقدمتها أقسام العلوم السياسية في الجامعات، والمراكز المتخصصة، الحكومية والخاصة، باعتبارها الأطر المؤسسية، المسؤولة والمعنية بالبحث في مختلف المجالات العلمية. وعلى ضوء ذلك، فإن هناك حاجة ماسة للإستمرار، في إعادة تقييم حالة هذه المؤسسات وأدائها بهدف تطويرها.
ولا جدال في إن تطوير المؤسسات البحثية، يقتضي التركيز على نقطة البداية، وهي الاهتمام بالمناهج البحثية، بالجامعات، ومعاهد الدراسات العليا، والانتقال بالبحوث من الجانب الوصفي إلى الجانب التحليلي.
تلك خطوات أساسية لا بد منها إذا أريد للأمة أن تسهم في النهضة العلمية التي تجري بسرعة فلكية بين الأمم، ولا خيار آخر.

التعليقات مغلقة.

د.يوسف مكي