الإنتفاضة بين العصيان المدني والكفاح المسلح

0 348

تدخل الإنتفاضة الفلسطينية عامها الثالث، وسط جدل محتدم بين مختلف الفصائل الوطنية حول جدوى استمرارية العمليات الإستشهادية والعمليات العسكرية داخل الأراضي التي احتلها الصهاينة عام 1948 تارة، وتارة أخرى حول فكرة الكفاح المسلح ذاتها في عموم الأراضي الفلسطينية. ويستند الذين يطالبون بأن تتخذ الإنتفاضة شكل العصيان المدني، وتقتصر على الأراضي التي احتلتها إسرائيل في حرب حزيران عام 1967 على مجموعة من الأسباب، منها أن الكيان الصهيوني، أصبح دولة معترفا بها من قبل المجتمع الدولي، وأن الفلسطينيين بقبولهم القرار 242 وتوقيعهم لاتفاقية أوسلو قد سلموا بوجود إسرائيل وأبدوا استعدادهم للتعايش السلمي معها. ومن جانب آخر، فإن أي حل عملي، يستطيع الفلسطينيون من خلاله إنجاز مشروعهم الوطني في إقامة الدولة المستقلة لن يتحقق إلا من خلال الدعم الأمريكي له. فالولايات المتحدة هي القوة الأعظم التي تستطيع ممارسة الضغط على اسرائيل وانتزاع حقوق الفلسطينيين منها. ومن الأهمية بمكان أن يضع الفلسطينيون في اعتبارهم عند صياغة برامجهم النضالية طبيعة العلاقة والتحالف الإستراتيجي بين الكيان الصهيوني وأمريكا، وأن لا تتضمن هذه البرامج ما يغضب الأخيرة فيجعلها تنأى عن تقديم الدعم والتأييد للمشروع الوطني الفلسطيني. ويؤكد دعاة المنهج السلمي أن الرأي العام العالمي الذي تعاطف مع الإنتفاضة الفلسطينية الأولى التي اكتفت بالعصيان المدني وإلقاء الحجارة من قبل الأطفال، لم يمنح ذات التأييد للإنتفاضة الأخيرة، وأن سبب ذلك يعود إلى العنف الذي تميزت به. وقد أدى ذلك إلى تمكين الكيان الصهيوني من استخدام العنف بقسوة وبشكل غير مسبوق، وكان المتضرر في النهاية هو الشعب الفلسطيني. إن الفلسطينيين يقفون لوحدهم في هذه المعركة ويجب أن تكون هذه الحقيقة حاضرة في أذهانهم عند صياغتهم لاستراتيجياتهم وتكتيكاتهم.. ويقارن هؤلاء بين النضال الفلسطيني ضد العنصرية الصهيونية ونضال شعب جنوب أفريقيا ضد نظام الفصل العنصري. ويشيرون إلى أن هذا الشعب قد تمكن من تحقيق أهدافه من خلال تحشيد الرأي العالمي لنصرة قضيته. والواقع أن الشهور الأخيرة من عمر الإنتفاضة، قد شهدت تراجعا في تأييد الشارع العربي والتفافه حولها. كما شهدت اختلافا واضحا بين موقف السلطة الفلسطينية من استراتيجية المواجهة مع الصهاينة، وموقف الفصائل الوطنية الأخرى، وبخاصة حركتى الجهاد الإسلامي وحماس والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. وقد أدى ذلك إلى تعدد الخنادق والإنشغال في صراعات داخلية، بدلا من أن تتجه كل الجهود لمواجهة العدو المشترك. ورغم ما يبدو على التنظير للإكتفاء بالعصيان المدني من وجاهة، فإن القراءة المتأنية له سرعان ما تكشف عن جملة من نقاط الضعف فيه. إن الملفت للنظر أن القوى التي تطالب بوضع موقف الولايات المتحدة الأمريكية والرأي العام العالمي في أعلى القائمة عند صياغة البرنامج الوطني الفلسطيني هي ذاتها التي تنتقد خصومها بالإلتفات دائما إلى الآخر، دون الإهتمام بالعوامل الذاتية. ولا شك أن من بديهيات العمل السياسي، تحديد الهدف، أو جملة الأهداف المطلوب تحقيقها، ومن ثم صياغة الإستراتيجيات والتكتيكات المطلوبة لتحقيقه، بعد أن تكون الحركة الوطنية قد درست بعمق طبيعة العدو والمرتكزات التي يتكئ عليها في وجوده، والأدوات المطلوبة لمواجهة مشروعه وإلحاق الهزيمة به. ولا بأس في هذه الحالة من إجراء مقاربات ومقارنات مع الحركات الوطنية العالمية الأخرى التي أنجزت أهدافها، لكن ذلك في كل الأحوال يجب أن لا يغيب حقيقة استحالة تكرار أي تجربة إنسانية بنفس الصيغ والأساليب التي جرى تبنيها من قبل. فكما أن لكل إنسان بصمة خاصة، فإن التجارب الإنسانية تحمل في رحمها خصوصية المكان والظرف الذي انطلقت منه. والمؤكد في حالة الإنتفاضة الفلسطينية، أن الهدف الرئيس من النضال الفلسطيني هو طرد الإحتلال وتحقيق الإستقلال وضمان عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم. والعدو في هذه الحالة هو الكيان الصهيوني، ومع أنه من حيث كونه كيانا استيطانيا قريب الشبه بالإستيطان الأوروبي العنصري في جنوب أفريقيا، فإن التشابه غير متطابق تماما. فنحن في فلسطين إزاء مشروع لم يستكمل بنيانه البشري بعد، ولا زال في طور التكون. والقوى البشرية من اليهود، بغض النظر عن هوياتها القومية هي عماد هذا المشروع. لم تكن هناك، في جنوب أفريقيا هجرة مطلوب إيقافها والحيلولة دون نموها كما هو الحال في فلسطين. فالمهاجرون الأوروبيون استقروا في جنوب أفريقيا منذ زمن طويل وتوالدوا فيها وأصبحوا جزءا من بنيانها الإجتماعي. وكان الهدف من حرب التحرير التي شنتها غالبيية السكان الأصليين تحقيق العدل والمساواة السياسية، واعتبارهم مواطنين لهم كامل الحقوق والأهلية في المشاركة في تداول السلطة. في فلسطين الوضع مختلف تماما، فالمواجهة هي مع عدو استيطاني، يقيم على جزء من فلسطين ويتطلع بمشروعه إلى ما حوله من أراض ومياه وثروات. ويلتزم في تنفيذ مشروعه ببرنامج مرحلي صارم. وقد استمد هذا المشروع قوته من قدرة قادة الحركة الصهيونية على التكيف مع الظروف والمتغيرات التي يواجهها. فبنى وجوده على مجموعة من المرتكزات أهمها استمرار الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وتثبيت نظرية الأمن الإسرائيلي المرتبطة بقدرة هذا الكيان على هزيمة الجيوش العربية مجتمعة، وصد إي اختراق عسكري إلى العمق.. وبشكل خاص في الأراضي التي جرى احتلالها عام 1948. ومن جانب آخر، فإن نقص القوى البشرية قد جعل الكيان يعتمد بشكل حاسم على نظرية الشعب المعسكر.. بحيث يصعب الفصل تماما بين دور المؤسسة العسكرية ودور السكان الآخرين. وهكذا أصبح دور الجيش/ الشعب مختلطا ومتداخلا في الحرب والإعمار. إن أي استراتيجية كفاحية لاسترجاع فلسطين يجب أن تأخذ في اعتبارها ضرب العدو في مكمن قوته: إيقاف الهجرة، وهز نظرية الأمن الإسرائيلي في جذورها، وإحداث الخلخلة في المؤسسة العسكرية والإجتماعية الإسرائيلية، وعدم تمكينها من تحديد الأولويات في المواجهة. وتلك في اعتقادنا السبيل لتسليم المعتدي، سلما أو حربا بالحقوق الوطنية الفلسطينية. أما التركيز على العصيان المدني وحده، فإنه ربما يحدث تعاطفا عالميا مع قضية الشعب الفلسطيني، لكنه بالتأكيد لن يلحق الآذى بأي من المفاصل الرئيسية التي يتستند عليها الوجود الصهيوني. ولذلك فليس متوقعا من هذا الكيان أن يغير سياساته أمام ضغط عالمي، خاصة وأن سجله في ممارسة القمع والإرهاب، وعدم الإلتزام بالقواعد الأخلاقية والقانونية ليس بجديد.

وفي هذا السجل محطات مرعبة تقشعر لها الأبدان، في دير ياسين وبئر السبع وقبية والسموع وبحر البقر ومعامل أبو زعبل وصبرا وشاتيلا وقانا وجنين.. ورغم علم العالم ومعرفته بتلك المجازر، وتعاطف قطاع واسع من الشرفاء في سائر أنحاء العالم، فإن قضية تحرير فلسطين لم تتحرك قيد أنملة إلى الأمام. ولا يبدو أن ما يحدث الآن من تدمير وقمع وقتل للمدنيين قد أحدث أثرا في الأسرة الدولية باتجاه الضغط على الكيان الصهيوني لكي يرفع يده عن الضفة الغربية وقطاع غزة. فالولايات المتحدة تقف بالمرصاد في مجلس الأمن بحق أي قرار يدين الممارسات الصهيونية وتسلط سيف حق النقض لمنع صدوره. لقد تمكنت الإنتفاضة الفلسطينية الباسلة عن طريق رفعها راية الكفاح المسلح من إحداث خلخلة شاملة في المرتكزات التي يستند عليها الوجود الصهيوني. فقد توقفت الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وحدث بدلا عنها هجرة معاكسة بلغت أكثر من مليون فرد.. بمعنى أن العدو الصهيوني فقد 20% من قدراته البشرية، وبالمثل تراجع سعر الشيكل 20% بفعل تراجع النشاط السياحي، وهزت نظرية الأمن الإسرائيلي من جذورها بفعل الضربات الموجعة التي أحدثها الفلسطينيون في العمق من الكيان الصهيوني. وحدث اهتزاز في نظرية الجيش للإعمار والحرب. والتي اعتمدت فيما مضى استخدام مؤسسة الجيش في حروب خاطفة لا تتجاوز حقبتها عدة أسابيع. ومع تفهم دواعي قلق السلطة الفلسطينية على المنجزات والإمتيازات التي تحققت لها من خلال اتفاقية أوسلو، وحرصها على استمرار المفاوضات باتجاه استكمال بنود تلك الإتفاقية. إلا أن المؤكد الآن أنه لا الأمريكيين ولا الإسرائيليين يرغبون في استكمال مسيرة أوسلو. فالذي على الأجندة حاليا هو شن الحرب على العراق.. وهي حرب لن تنتهي أبدا كما تروج لها الإدارة الأمريكية بإسقاط النظام أو تركيعه، فذلك أمر صعب المنال فالعراق ليست أفغانستان، لكن المؤكد أيضا أن تلك الحرب عندما تنتهي ستكون ادارة الرئيس بوش قد خاضت حربا أخرى في المنطقة بالنيابة عن إسرائيل ودمرت قوة عربية رئيسية. وهي حرب دأب الكيان الصهيوني فيما مضى على شنها بحق العرب عند نهاية كل عقد منذ اغتصابه لأرض فلسطين..

 

 

 

د. يوسف مكي

تاريخ الماده:- 2002-10-04

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

اثنا عشر − اثنا عشر =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي