في اللغة والسياسة

0
د. يوسف مكي
اللغة والسياسة مفهومان بدأ حضورهما منذ وقت مبكر، وارتبط وجودهما بالإجتماع الانساني. لكنهما شأنهما شأن معظم المفاهيم التي ارتبطت بالإنسان، نتاج التاريخ، بما يعني تاريخيتهما وخضوعهما لقانون الحركة والتعاقب والتغير.
اللغة كما أشرنا في حديث سابق، نظام له وظيفة وغاية محددتان، هما التعبير والتواصل. وتعتمد وسائل معينة كالإيماء والحركة واللسان لبلوغ أهدافها. وكان الإغريق من أوائل الذين أبدوا اهتماما واسعا بموضوعها، حيث ناقش الفيلسوف افلاطون علاقة الاشياء بالأسماء، وأن الإسم هو انعكاس عن المسمى/ وهو مشتق من مكوناته وتركيباته. وأفلاطون بتعريفه هذا، يؤكد على تاريخية اللغة وعدم سكونها.
أما السياسة فإنها في مدلولاتها الأولية عنت فن الممكن، كما ارتبطت بشكل مباشر بسلوك الحاكم تجاه الجمهور، ولذلك اعتبرت دراستها جزءا من دراسة علم الأخلاق. لكنها مع التطور التاريخي، وبروز الإمبراطوريات والممالك والدول، باتت مرتبطة بالحكم، فغدا مفهومها فن إدارة الحكم، وانتقلت من مطلب أخلاقي إلى منهج براجماتي، عماده المنفعة.
والسياسة كما اللغة تتغير وظائفها ومفرداتها من مرحلة إلى أخرى. فما لدينا الآن من أشكال وتعابير سياسية هي بالتأكيد مختلفة عما كانت علية الأمور في بداية التطور الانساني، وما مرت به البشرية من تغيرات كبيرة وهائلة في النظم السياسية من عبودية وإلى اقطاع، وثورات صناعية وعلاقات تعاقدية.
ويمكن القول، أن اللغة بمختلف تجلياتها، الفنية والأدبية، كانت باستمرار أداة في خدمة السياسة. وهي في هذه الحالة، تستخدم في صيغة المفعول به. فكل فعل سياسي يحتاج إلى مفردات ولغة ليعبر بها عن ذاته. والتبشير بفكرة سياسية يستخدم فن اللغة بكل طرقها وتشبعاتها للإقناع بتلك الفكرة. وفي هذا السياق، يحضر دور اللغة في السياسية، توصيفات وتوجيهات وأوامر.
وما وصل لنا من أفكار سياسية، تشكلت منذ أقدم العصور، واستمرت في التجدد والتغير حتى يومنا هذا، حصلنا عليه بلغات مكتوبة، ولم تكن من وسيلة لإدراكنا لها من غير ذلك.
الأديان السماوية، بدورها اعتمدت اللغة وسيلة للتبشير بمبادئها ونشر فضائلها. وكانت بداية القرآن الكريم أية إقرأ. والقرآن الكريم، حمل آيات مختلفة، دعت إلى الحوار الهادئ مع الخصم كما في قوله تعالى: (ولو كنت فضا غليظ القلب لنفضوا من حولك) سورة أل عمران الآية 159 وفي أية أخرى: (وجادلهم بالتي هي أحس فإذا الذي بيتك وبينه عداوة كأنه ولي حميم). سورة النحل أية 123.
لكن هذا الأمر لا ياخذه القران الكريم، على اطلاقه، فهناك آيات كريمة تحض على القتال والصبر. قال تعالى: (وإذ يوحى ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتتوا اللذين آمنو سألقي في قلوب اللين كفرو الرعب فاضربوا فوف الأعناق واضربوا منهم كل بنان) سورة الانفال آيه 12 وقوله تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة) سورة البقرة الآية ١٩٣.
في الآيات الكريمة السالفة نلحظ أن التوجيه الإلهي، ارتبط باللحظة التاريخية التي نزلت فيها الآية الكريمة. فلحظة السلم والتبشير، كما رأينا مختلفة تماما عن لحظة المواجهة والحرب.
وليس من شك في أن اللغة التي تستخدمها السياسة الآن ليست اللغة التي سادت بالعصور الوسطى. فالنظام السياسي القديم استند على نظرية الحق الإلهي. هذا الأمر تغير بشكل جذري بعد الثورة الفرنسية حيث نص دستورها على أن الناس يولدون أحرارا متساوون أمام القانون في الحقوق والواجبات.
في العصر الحديث لدينا في الوطن العربي أمثلة كثيرة على كيفية استخدام الساسة من قبل المستعمرين للغة لتحقيق أهدافهم. فمفردات الحماية والوصاية والانتداب التي صدرت عن عصبة الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الأولى أقرت هيمنة بريطانيا وفرنسا على أجزاء كبيرة من الوطن العربي ومنحت الاحتلال اغطية انسانية، حين أوحت بأن الاستعمار سينقل المجتمعات العربية من حال التخلف لحال التقدم والرقي. في المقابل كانت الحركة المناهضة للاستعمار تستعمل مفردات خاصة، كالحرية والاستقلال والكرامة الانسانية والجهاد.
لكن هذه القراءة ينبغي أن لا تؤخذ على علاتها. فاللغة شأن لا بستهان به وفي أحيان كثيرة تقود اللغة الفعل السياسي حين تكون سابقة عليه. فالتبشير بالأفكار السياسية كالحرية والديمقراطية والعدل الاجتماعي غالبا ما يكون سابق على الفعل السياسي. بمعنى آخر إن غلبة السياسي على اللغوي هي حالة نسبية. والصحيح أن الواقع التاريخي هو الذي يحدد غلبة أحدهم على الأخر. لكن حضور كل منهما دائم ومستمر طالما بقيت الحياة رحبة وفسيحة…

التعليقات مغلقة.

د.يوسف مكي