السياسة الأمريكية وضرورة وعي المغيب من التاريخ

0 390

يبدو أن للإدارة الأمريكية الحالية فهما جديدا، من نوع خاص، في ما تطلق عليه بالحرب على الإرهاب. وهو فهم لا يتساوق مع النظرية العلمية التي تقول بأن الخط المستقيم هو أقصر الطرق للوصول إلى الهدف. فرغم تصاعد العمليات التي تشن ضد وجودها ومصالحها في مناطق مختلفة من العالم، وفي أماكن تعتبر صديقة وحليفة لسياساتها، كالفبلبين واندونيسيا والكويت وباكستان، فإنها تركز أنظارها على بؤرتين رئيسيتين هما العراق وفلسطين. ويلاحظ في هذا الصدد تراجع خطاب صانع السياسة الأمريكي ضد إيران وكوريا الشمالية، اللذين اعتبرهما الرئيس الأمريكي، جورج بوش، إضافة إلى العراق، محورا للشر.

فالنسبة لإيران، لم تعد الإدارة الأمريكية تجد من الضرورة استخدام لغة التشدد ضد قيادتها، إلا بالقدر الذي يجبرها على التناسق مع الموقف الأمريكي تجاه العراق. ومادامت إيران قد غضت الطرف عن مشاركة أطراف المعارضة العراقية المنضوين تحت لوائها وخطها الأيديولوجي، وربما شجعتهم على المضي قدما في هذا الطريق، فإن تأجيل المواجهة معها أصبح محتما ولازما، لكي يستكمل برنامج احتلال العراق وتنصيب جنرال أمريكي عسكري عليه، حتى تبلغ المعارضة سن الرشد وتكون قادرة على الإيفاء بالاستحقاقات الأمريكية المطلوبة منها، وهذا ما لا يستطيع أحد الآن التنبؤ بكم سيستغرق من السنين.

 

أما كوريا الشمالية، وهي القطب الثاني في محور الشر الذي جرى التغاضي عنه، فقد اعترفت أخيرا، أنها عملت فعلا على تصنيع أسلحة الدمار، وأنها أنجزت تصنيع قنبلتها النووية، بل وتملك رؤوسا نووية جاهزة للإنطلاق, وهذا ما يؤهلها عمليا للدخول في نادي الدول النووية. بما يعني أنها لم تعد ضمن قائمة الدول التي تخضع للإبتزاز الأمريكي.

 

هذا المنطق معقد وصعب، وغريب علينا نحن البسطاء. إنه ببساطة يقدم الدليل القاطع على أن الطريق الصحيح لرد العدوان عنا هو الحصول على أسلحة الدمار الشامل. وما لم نحصل عليه فسوف نبقى عرضة للتهديد والوعيد الأمريكي. فكوريا الشمالية دولة مارقة، في القاموس الأمريكي، قبل أن تمتلك القنبلة النووية، وعرضة للتهديد والإبتزاز، أما وأنها قد توصلت إلى ما توصلت إليه فإن الرئيس جورج بوش لا يتورع عن التصريح بأن وضع كوريا الشمالية مختلف عن العراق، وأنه يمكن التفاهم مع النظام فيها، والتوصل إلى حلول بشأن ما تمتلك من أسلحة، في حين يصرح الرئيس الكوري الشمالي أن ما توصلت له بلاده من إنجازات على صعيد تصينع السلاح قد تم بسواعد أبنائها ومن قوتهم وعرقهم، وأنها ليست على استعداد للتخلي عن برنامجها والتراجع عنه.

 

قولوا لنا بربكم، إذن بعد كل هذا: هل التلويح بالحرب على العراق فعلا من أجل نزع أسلحة الدمار الشامل؟. كوريا الشمالية، كانت بالصوت الأمريكي الفصيح حتى الأمس القريب دولة مارقة، والآن لم تعد كذلك، مع أنها لم تبدل سياساتها ولم توافق على نزع أسلحتها، ومضت قدما في برامجها، وتمكنت من تحقيق نجاهات باهرة لا جدال عليها. أما تاريخ صراعها من الأمريكان فتشهد به سجلات الحرب الكورية في الخمسينيات، وليس هذا مكان تناول مناقشة أحداث تلك الحرب.

 

لا بد إذن أن تكون الحملة ضد العراق لأسباب أخرى، كما هي الحرب الجارية فوق أرض الأنبياء، فلسطين. إنها استمرار لصراع بدأه الغرب مع الأمة العربية، أيام الحروب الصليبية، واستمر هذا الصراع، وعلى دربه كانت لنا محطات، تم خلالها احتلال معظم أقطار الوطن العربي، وجرى تمزيق الأمة وتوزيعها حصصا. وكانت اتفاقية سايكس-بيكو ووعد بلفور إعلانا غربيا صريحا بتداخل صراع المصالح ضد العرب والمسلمين بصراع الحضارات. وهو قول ربما يعترض كثير عليه. لكننا نحن لسنا صناعه والمنظرون له، ونفي واقع تاريخي، أو واقعة تاريخية ما لا يكفي لإلغائها. لم يضع أحد من العرب كلمات في فم الإمبراطور ريتشارد قلب الأسد، وهو يقتحم أسوار مدينة القدس معلنا أنه جاء إلى أرضنا تلبية لنداء الرب، تماما كما يقول الآن جورج بوش بأنه يلبي نداء التاريخ والفضيلة حين يسحق أطفال العراق.

 

ويبدو أن الرئيس جورج بوش يحاول أن يعيد البوصلة مرة أخرى إلى الماضي السحيق، إنه قد استغرق كثيرا في تفاؤله وفي عقده العزم على أن يلوي ذيل التاريخ. ويعود إلى زمن والده، الذي لم تسعفه براعته في الإحتفاظ بكرسي الرئاسة لدورة ثانية. ولعل القارئ يتذكر أن بوش الأب قد أعطى دعما كبيرا لزعيم الليكود إسحق شامير، وعقد معه صفقات ضخمة. لكنه بعد حرب الخليج الأولى، وطرح مشروع مؤتمر مدريد، اكتشف أن وجود زعيم، يمنيني متطرف كشامير سيكون معطلا لما أطلق عليه مجازا بالعملية السلمية، وسيشكل إحراجا لبعض القيادات العربية التي ستجد صعوبة في التعامل معه، فكان أن تواطأ مع وزير خارجيته جيمس بيكر وعملا على إفشال شامير والإطاحة به في الإنتخابات ومناصرة إسحق رابين. وتحقق ذلك فعلا، وأصبح رابين رئيسا لوزراء الكيان الصهيوني. واستمرت مفاوضات واشنطون، التي كانت استكمالا لمؤتمر مدريد بين الفلسطينيين والإسرائيليين. ولكن الذي قبض ثمرة نجاح تلك المفاوضات لم يكن الرئيس بوش بل خلفه الرئيس بيل كلينتون، الذي احتفل مع كل من السيد عرفات ورابين بتوقيع اتفاقية أوسلو في حديقة مبنى البيت الأبيض.

 

من جديد، يغرق الإبن في تفاؤل سبقه إليه والده، فيجري تشجيع أعضاء الحكومة الإسرائيلية من حزب العمل على الإنسحاب من حكومة أرييل شارون، حتى يتم تأهيلهم أمريكيا لاستلام الحكم في المرحلة المقبلة… مرحلة ما بعد احتلال العراق. وفي خلال هذه الحقبة يتحقق، من وجهة النظر الأمريكية غرضان، الأول هو قيام حكومة إسرائيلية متطرفة، من اليمين الخالص، تقوم بتركيع الفلسطينيين، وإخضاعهم أمام سمع ونظر العالم أجمع وبتواطئ أمريكي، في الوقت الذي تكون فيه الإدارة الأمريكية قد انتهت من تنفيذ برنامجها في احتلال العراق.

 

وحين تنتهي الحرب، تبدأ مرحلة إعادة رسم الخارطة السياسية العربية، في أجواء يتوقع أقطاب اليمين الأمريكي الحاكم، أنها ستكون أقل توترا. فيعود شيمون بيريز، أو من يكون بديلا عنه من حزب العمل إلى رئيس وزراء الكيان الصهيوني، وتجري المفاوضات بين قادة فلسطينيين معتدلين، يقبلون بالمقترحات الأمريكية والتعايش بسلام وتعاون مع الكيان الصهيوني.

 

الفارق بين مشروع الأب والإبن، هو أن الأول تمكن من تنفيذ جزء من برنامجه، وضمن وجود تحالف دولي إلى جانبه في حرب الخليج الأولى، لكن نجاحه كان على حساب الناخب الأمريكي الذي صوت له، حيث زادت نسبة البطالة، وتراجع مستوى الإنتاج، وحدث كساد اقتصادي شامل في نهاية رئاسته. وكانت النتيجة أن فقد الأب سدة الحكم، وتسلم بيل كلينتون الذي وعد الأمريكيين بمعالجة مشاكلهم الإقتصادية الرئاسة من بعده.

 

أما الأبن، فلم ينجح مشروعه حتى الآن في شيء. لقد استقبلته العواصف قاسية عاتية، الواحدة تلو الأخرى، منذ أيام الإنتخابات، وفاجأته حوادث سبتمبر المروعة بما لم يكن متوقعا. وذهب في حرب إلى أفغانستان، ووعد بعقاب المتسببين في كارثة سبتمبر، ومضى أكثر من عام دون أن يستطيع الإمساك بشخصية مهمة من أحد المتهمين. وجنوده يواجهون يوميا بهجمات وضربات في بقاع كثيرة من العالم، ليس بينها العراق ولا فلسطين، ومع ذلك يصر على أن يكونا هدفه المباشر، دون غيرهما. إضافة إلى ذلك، يفتقد الإبن الدعم والتأييد الدولي، كما يواجه برفض لسياساته العدوانية من معظم الحكومات العربية. وعلى صعيد المشاكل الداخلية، فإن الواقع الإقتصادي الأمريكي الآن أسوأ بكثير مما كان عليه في نهاية عهد والده الذي سقط ضحية ذلك الواقع.

 

ولا جدال في أن الرفض الشعبي العالمي لقرع طبول الحرب، قد وصل إلى كل مكان، وبدلا طبول الحرب، تحيط طبول السلام، بالحديقة المطلة على البيت الأبيض في واشنطون، حيث يتجمع المتظاهرون المناوئون لفكرة الحرب كل يوم. ومع كل ذلك يرفض الرئيس الأمريكي أن يصغ للنداءات الدولية المتتالية باللجوء إلى الحوار وقواعد القانون في حل المشكلات المستعصية. كما يرفض أن يتعلم من دروس التاريخ. إن رقاصه يتحرك باستمرار.. لكن عجلته لا تعود أبدا إلى الخلف.

 

إن المنطقة العربية برمتها، مجرد آبار نفط، ليس عليها بشر في المخيلة الأمريكية، وهذا ما يجعلها مختلفة عن كوريا الشمالية.. وأكبر دروس التاريخ التي تغيب أن المنطقة يمتد عمرها سحيقا في التاريخ. وأنها مهد الأنبياء، علمت الحرف وأنارت الطريق، ومنها انبثقت أعظم الرسالات.. وحين وطأت أقدام المستعمر ربوعها، تقدمت جحافل المؤمنين والمجاهدين، ودافعوا بجسارة وشجاعة عن أرضهم وكرامتهم وسطروا بدمائهم وثائق الحرية والسيادة والإستقلال. فعسى أن تتعلم الإدارة الأمريكية برئاسة جورج بوش كيف تصيغ برامجها على ضوء ما هو مغيب من دروس التاريخ.

 

 

 

 

 

 

د. يوسف مكي

تاريخ الماده:- 2002-11-06

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

20 − ثلاثة عشر =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي