صناعة القرار الأمريكي بين مواجهة الواقع وأوهام القوة

0 351

لا يهدف هذا الحديث أبدا إلى التقليل من حجم القدرة النوعية، بمجالات التصنيع والتسلح والمعرفي العلمي لدى الولايات المتحدة الأمريكية، ولا إلى التشكيك في قدرتها الإقتصادية الهائلة وتربعها على عرش الهيمنة العالمية واحتوائها هيئة الأمم المتحدة وتفردها بصناعة القرارات الدولية الحاسمة، فتلك أمور ليست موضع جدال، بالنسبة لنا على الأقل. ولكنه يجادل في أن القرار الأمريكي، بالدرجة الأولى، قرار إنساني من حيث أن الذي يقوم بصناعته وتنفيذه أفراد تحكمهم في قراراتهم مجموعة من النوازع والرؤى والمصالح. وبناء على ذلك، فإن تلك القرارات، شأنها في ذلك شأن القرارات الأخرى التي تصدر عن الأفراد، عرضة لنواميس لصواب والخطأ.

ولعل ما يعنينا، كعرب، في هذا الشأن هو علاقة تلك القرارات بوجودنا ومصالحنا ومستقبلنا. وبشكل أكثر تحديدا، إن الذي يعنينا هو التهديدات الأمريكية المعلنة والمبطنة التي تطلقها الإدارة الأمريكية هذه الأيام بحق الأمة العربية، وهي تهديدات رغم أن الجميع يسلم بجديتها ومخاطرها على أمننا القومي، فإن أسوء ما تحمله بالنسبة لأمتنا وأمننا ليس أن الولايات المتحدة قادرة فعلا على التعرض وإلحاق الآذى بنا، ولكنه تسليم القيادات والزعامات العربية ابتداء بعدم قدرتها على المقاومة والدفاع عن الأمن والسيادة.. إن أخطر ما في تلك التهديدات هي الهزيمة التي تلحقها في النفس، وبروز مفردات تطالب بالتسليم والإنحناء أمام التهديدات.

والحال هذا الذي تمر به الأمة العربية يذكر بوضع الحضارة الإغريقية أبان حقبة تداعيها، حين حاصرت أسبارطة مدينة أثينا وأنزلت الهزيمة بها في نهاية القرن الخامس قبل الميلاد. فقد تحولت السيادة السياسية من أثينا، منبع الفلسفة اليونانية والفن. وكانت نتيجة ذلك انحطاط العقل الأثنيني واستقلاله. وعندما توفي الإسكندر المقدوني وبدأ التمزق والإنحدار يطبعان الحضارة اليونانية تدفقت عليها الأفكار الخرافية وروح الإستسلام، وبدأ انتشار المذاهب الرواقية والأبيقورية واللاأدرية التي لم تكن تعني غير القبول بالهزيمة، ومحاولة تحقيق التوازن النفسي للشعب المهزوم بإحلال اللذة والسرور.

وفي تلك الحقبة برزت مقولات شبيهة في جوهرها بالمقولات التي تشيع الآن على ألسن بعض القيادات والنخب العربية كالقول الإغريقي: “إذا كان النصر مستحيلا ينبغي احتقاره”. والمعادل له الآن، هو التصريحات الرسمية بأن من غير المملكن الإمتناع عن تقديم التسهيلات لأمريكا حتى لو استخدامها ضد الأقطار العربية الأخرى، لأن هذه الدول مرتبطة باتفاقيات ومعاهدات يصعب تجاوزها مع الإدارة الأمريكية، وأن أمريكا هي القطب الأوحد في السياسة الدولية، وليس بالإمكان الإعتراض رغباتها. والقول اليوناني الآخر: “إن سر السلام يكمن في لا نجعل منجزاتنا متساوية مع رغباتنا” والمعادل له عند بعض القيادات والنخب العربية هو دعوة السلطة الفلسطينية لقبول ما تقدمه إسرائيل بوساطة أمريكية من عروض لتحقيق تسوية سلمية وتصفية الصراع العربي الإسرائيلي، تحت شعار تحقيق الممكن، على حساب الحقوق والثوابت والمبادئ.

 

إن الولايات المتحدة، من وجهة نظر الغالبية من القادة العرب، وقطاع من النخب العربية قدر مقدر لا قبل للعرب جميعا على مواجهته. وفي هذه الحالة، فإن أفضل ما يمكن التوصل إليه أن ننفذ بجلدنا من المواجهة وأن نسلم لها وهي تمارس الإبتزاز والإنقضاض على الأقطار العربية الواحد تلو الأخر، وأكثر ما نستطيع القيام به هو إسداء النصح للبلد المستهدف بأن ينصاع إلى قرارات الشرعية الدولية أو قرارات مجلس الأمن أو رغبات الولايات المتحدة، لا فرق، مع علمنا بأن هناك العشرات من القرارات الصادرة من تلك الجهات بحق الكيان الصهيوني، لم يجر تنفيذ أي منها رغم انقضاء عشرات السنين على تبنيها من قبل المجتمع الدولي كالقرار 181، 242 و 338..

 

ويشارك بعض العرب في المطالبة بنزع أسلحة الدمار الشامل عن بعضهم البعض، مع أن التهديد الذي يواجهونه يتطلب منهم العمل دون كلل على وجود هذه الأسلحة في ترسانتهم، للتلويح بها واستخدامها كأسلحة وقائية في مواجهة الغطرسة والصلف الإسرائيليين.

 

إن الصورة التي يرسمها الإعلام الرسمي لكثير من الدول العربية أن الولايات المتحدة قادرة على تنفيذ كل مخططاتها، وأن لديها من القدرة ما يجعل الإعتراض على رغباتها أمرا غير ممكن. وينسج المهزومون في نفوسهم صورة مفرطة في المبالغة والتعظيم، أشبه بالأسطورة منها إلى الواقع، للقوة الأمريكية. فهذه الولايات المتحدة قادرة على سحق الجميع ولديها من أجهزة الإستشعار ما يجعلها تميز بين الكائنات والموجودات تحت الأرض وخلف الجدران وداخل الكهوف.. بين الإنسان والدواب. بل وبإمكانها أيضا أن تميز بين رائحة شخص وآخر عن طريق الآلة، وبإمكانها اكتشاف مخابئ الأسلحة من الجو والتمييز بين الجندي والقائد وقراءة الصحف والأوراق الموجودة في سلات المهملات.. وتستطيع أن ترسل جنودها إلى المدن والقرى مزودين بطاقيات الإخفاء، فيتحركون داخلها دون خشية، ويقتحمون معسكرات الجيش المعادي ويدمرون ناصبات الصواريخ دون أن يتمكن من رؤيتهم أحد. ويشير كثير من التقارير الصحفية إلى أن ألف جندي أمريكي قد دخلوا فعلا خلف الخطوط العراقية وبدأوا مباشرة في تنفيذ عملياتهم التخريبية.

 

إن حالة الإفتتان هذه بالخصم تخلق أسباب التسليم والإذعان لإرادته، وتخلق غيابا في الوعي يحجب عن الذاكرة حقائق أخرى لا تقل وجاهة عن الإنبهار بلغة القوة. يتجنب المفتونون بالقوة، على سبيل المثال، طرح السؤال لماذا تعجز هذه القوة الكبرى عن إلقاء القبض على قناص، مجرد قناص واحد يتحرك من شارع لآخر، أخذ في الشهر الأخير في بث الذعر لدى المواطنين الأمريكيين المقيمين في مدينة واشنطون دي سي قبالة البيت الأبيض وتمكن من قتل عدد من المدنيين؟ لماذا لم تلاحقه أجهزة الإستشعار الأمريكية المعروفة بدقة رصدها وتلق القبض عليه؟. لماذا ولماذا؟

 

وتتوالى الأسئلة وتلح على الجواب، لماذا تعجز الإدارات الأمريكية المختلفة عن حماية سفاراتها في الخارج؟ وأين كانت أجهزة استشعار الخطر عنها حين هوجمت؟ وكيف تواجه تلك السفارات بأعمال التخريب دون أن تكون مستعدة لها كما حدث مرات ومرات؟!. ولماذا لا تكون البوارج الأمريكية ذات الدقة والكفاءة التدميرية الفائقة قادرة على استشعار وجود قارب مطاطي صغير في مياه البحر العربي يتمكن من الفتك بها في لحظات فيذهب ضحية الهجوم العشرات من الأمريكيين؟. ونقول أيضا، أنه ليس باستطاعة أحد أن يجادلنا في أن هجمات سبتمبر من العام الماضي قد تعرضت لمكمني القوة في الإمبراطورية الأمريكية: الجيش والإقتصاد، وليس مبررا أبدا، بل ويعد تقصيرا فاضحا يصل حد الكارثة أن يكون برجي مركز التجارة الدولي ومبنى البنتاجون خارج دائرة الإستشعار الأمريكي.

 

ونعود من جديد لأن نذكر في صيغة السؤال، أو لم تهزم أمريكا في فياتنام ولاوس وكمبوديا وتجبر على الإنسحاب حاملة معها جثث قتلاها؟ أو لم يكن ذلك خطأ جسيم في الحساب، بدأ به الرئيس كندي حين أرسل 5000 جندي لمساندة الجنرال ديام، وحين تسلم الرئيس جونسون الحكم إثر اغتيال كندي وجد أن الخمسة آلاف جندي ليست كافية لقمع انتفاضة الشعب الفيتنامي، فضاعف العدد، وضاعفه مرة أخرى، ثم تضاعف مرة ثالثة وهكذا في متتاليات تكشف العجز عن الحسم، حتى بلغ عدد الجنود الأمريكيين في فياتنام أكثر من 500 ألف جندي وبلغ عدد القتلى منهم أكثر من 50 ألف جندي، أما الجرحى فقد تجاوزوا الربع مليون.

 

سيقال لنا أن ما حدث في الهند الصينية أخذ مكانه أثناء الحرب الباردة. لا بأس، لكن الذين قاموا بهزيمة أمريكا في تلك الحرب لم يكونوا السوفييت ولا الصينيون بل السكان المحليون. سيقال لنا ولكنه السلاح السوفييتي الذي انتصر. وسنجيب ما باله إذن لم ينتصر في مماركنا؟! وهل ينقصنا السلاح الآن!.

 

إذن لم تكن هي الحرب الباردة التي صنعت الهزيمة الأمريكية في جنوب شرق آسيا ولكنه استبسال شعوبها في طرد الغزاة. ونذكر المفتونين أن الولايات المتحدة قد خرجت أيضا تحمل جثث قتلاها من لبنان، ومن الصومال أيضا دون أن يكون هناك دعم سوفييتي للبنانيين أو الصوماليين، وعجزت حتى الآن عن حسم معركتها في أفغانستان. ولم يسجل في التاريخ حتى الآن أن مريكا تمكنت من حسم معركة فاصلة بمفردها.

 

وتتيه في زحمة الأسئلة والضجيج والصخب مواثيق ومعاهدات عربية وأواصر قربي ودين ولغة وعلاقات دم وتاريخ مشترك. ويتناسى الكثير من القادة العرب أن هناك أيضا ميثاقا لجامعة الدول العربية، ومعاهدة للدفاع العربي المشترك، ومحاضر اجتماعات مكثفة كثيرة لوزراء الدفاع والخارجية والإعلام العرب يكتظ بها أرشيف مقر الجامعة في القاهرة، وكلها تشير إلى أن الدول العربية تعتبر أي عدوان على أية دولة عربية عدوانا على العرب جميعا يجب التصدي له، وأن القادة العرب ملتزمون في هذا الصدد بمفهوم الأمن القومي العربي الجماعي. وهكذا فإن التسليم بالإملاءات الأمريكية ليس له إلا معنى واحدا، هو انهيار مفهوم التضامن العربي والأمن القومي الجماعي، وإعلان موت كل المعاهدات والإتفاقيات التي وقعها القادة العرب مع بعضهم البعض، باعتبارهم قادة ينتمون إلى أمة واحدة.

 

فهل من مراجعة عربية لهذه المواقف قبل أن يعصف بنا الطوفان؟!

 

 

 

 

 

 

 

 

د. يوسف مكي

تاريخ الماده:- 2002-10-22

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

اثنان × 1 =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي