الإرهاب والحرب

0 351

الأحداث التي أخذت مكانها هذا الأسبوع توحي بوجود علاقة طردية بين ما يدعى بالحرب على الإرهاب وبين نمو وتصاعد حالات العنف على مستوى العالم بأسره. فكلما تصاعد استعار أوار الحملة التي تشنها الولايات المتحدة الأمريكية بحق شعوب العالم المناهضة للهيمنتها، تحت ذرائع مختلفة، كلما أمعنت هذه الشعوب في تصعيد مقاومتها لها، بحيث اخذت المقاومة في النهاية طابعا غير عقلاني، يذهب ضحيته العشرات من الأبرياء، في مواجهة عدو متفوق عليها في القوة والعدد والعدة.

ولدينا في هذا الإستنتاج كثير من الأمثلة التي تدعمه، لعل أوضحها تزامن موافقة الكونجرس الأمريكي بتفويض الرئيس جورج بوش شن الحرب على العراق، متى ما وجد أن ذلك في مصلحة الأمن القومي الأمريكي، مع تصاعد غير مسبوق في التعرض للأفراد والمصالح الغربية في العالم بأسره.

ففي اليمن، أوضح المسؤولون اليمنيون بعد تلكأ وتردد أن الإنفجار الذي حدث في الناقلة الفرنسية قبالة ساحل المكلا نتج عن عمل تخريبي.

وفي الكويت تعرضت البحرية الأمريكية لهجوم مسلح قتل فيه أحد أفراد مشاة البحرية, وفي اليوم التالي انفجر لغم في الحدود الشمالية الكويتية أدى إلى جرح جندي أمريكي، وفي يوم الإثنين، بعد يوم واحد فقط من إعلان وزير الداخلية الكويتي في مؤتمر صحفي عن تمكن بلاده من احتواء الموقف وإلقاء القبض على خلية مكونة من خمسة عشر فردا، كان يقودها الشخص الذي قتل في الهجوم على مشاة البحرية الأمريكية، أعلن من جديد عن تعرض القوات الأمريكية لإطلاق نار من عناصر مجهولة.

 

وقد دفعت تلك الحوادث بمسؤولين أمريكيين للإعراب عن خشيتهم من أن تكون هذه الهجمات، التي تزامنت برسائل مسجلة لأسامة بن لادن وأيمن الظواهري، بداية موجة جديدة من النشاط العسكري ضد التجمعات والمصالح الأمريكية، وربما تكون مقدمة لهجوم كبير محتمل. وفي هذا الصدد، أشارت جريدة الـ “نيويورك تايمز” إلى إن ما حدث خلال هذا الأسبوع ربما يعني أن تنظيم “القاعدة” تمكن من إعادة ترتيب أوضاعه وأنه يستعد لمرحلة جديدة من المواجهة. وقالت أن المسؤولين الأمريكيين تلقوا تحليلات استخباراتية في الأسبوع الماضي تحدثت عن ارتفاع في عدد التهديدات ضد المصالح الأمريكية في الخارج

 

وفي أندونيسيا قتل 187 شخصا وجرح 130 أخرون معظمهم من الأجانب في انفجار عدة قنابل في منطقة ملاه مكتظة بالرواد في جزيرة بالي السياحية الهادئة عادة. وجاءت تلك التفجيرات بعد تقارير متوالية عن أن تنظيم “القاعدة” يحاول إيجاد موطئ قدم له في أكبر لدول الإسلامية من حيث عدد السكان. وأفادت الشرطة أن من بين القتلى مواطنين من أستراليا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا والسويد، وأفادت متحدثة رسمية باسم السفارة الأمريكية في جاكرتا أن أغلب الضرر نتج عن انفجار سيارة ملغومة أمام ملهى ساري في منطقة حياة الليل الصاخبة كوتا بيتش.

 

في سيدني استعار رئيس الوزراء الأسترالي جون هاوارد منطق الإدارة الأمريكية في مواجهاتها للأحداث فقال إن هذه التفجيرات تؤكد أن الحرب على الإرهاب يجب أن تستمر..

 

لكن أحدا لا يستطيع التنبأ إلى متى ستستمر هذه الحرب وإلى أين ستتجه!.

 

وفي الولايات المتحدة، أعلنت الخارجية الأمريكية سحب بعض العاملين بالسفارة من إندونيسيا وطالبت الرعايا الأمريكان بمغادرة البلاد فورا.

 

ماذا نستنتج من كل ذلك؟!

 

حين نعود بالذاكرة قليلا إلى الوراء، نجد أن حالة الفوضى التي تسود العالم الآن بدأت مع سقوط الإتحاد السوفياتي وصياغة الولايات المتحدة الأمريكية للنظام العالمي الجديد الذي تلخص في مفهومي العولمة، التي هي احتكار الدول الصناعية الغربية السوق العالمية، والتفرد الأمريكي على عرش الهيمنة في الساحة الدولية، ونشرها لقواعدها العسكرية وأساطيلها في كل مكان، وتحولها إلى امبراطورية لا تغيب عنها الشمس. ويلاحظ أن خط العنف المتبادل قد أخذ منذ ذلك الحين في التصاعد بيانيا، وأن السيف الأمريكي امتد إلى بقاع كثيرة من العالم مؤديا إلى سقوط عشرات الآلاف من القتلى في دول العالم الثالث، في العراق والصومال وفلسطين وأفغانستان والكونغو.

 

ومن خلال حملات الإبادة هذه اكتشفت العناصر الغاضبة من تلك الشعوب حيلها الدفاعية وطورت من أساليب مقاومتها للتفرد والغطرسة الأمريكيين، فكانت محطات مواجهة ضد التواجد والمصالح الأمريكية في كل مكان بلغت ذروتها بتدمير برجي مركز التجارة في نيويورك ومبنى البنتاجون في واشنطون. وإذا كان قتل المدنيين والأبرياء عملا مدانا إنسانيا وأخلاقيا، وتقف بالضد منه كافة الشرائع السماوية والقوانين الوضعية فإن بواعثه وعوامل التحريض عليه تظل مفهومة.

 

وكان أن قامت الولايات المتحدة تحت ذريعة الرد على تلك الهجمات بحرب تدمير أفغانستان والقضاء على حكومة طالبان وتنظيم القاعدة.. وحدث مالم يكن في حسبان الإدارة الأمريكية.. وهو خطأ جسيم وقعت فيه القيادة السوفييتية ومختلف الغزاة الذين تعاقبوا على أفغانستان من قبل. لقد احتل الأمريكيون أفغانستان ولكنهم لم يتمكنوا من إلقاء القبض على زعماء طالبان أو القاعدة.. والنتيجة أن السحر انقلب على الساحر. فلقد بدأت المقاومة الأفغانية للوجود الأمريكي وانضم إليها من لم يكونوا أطرافا في الحرب من قبل.

 

وإذا كانت جماعة القاعدة، حسب منطقها الخاص، قد ملكت سابقا من الأسباب ما جعلها تتعرض بالتخريب المنظم للمصالح الأمريكية، فإن هذه الأسباب قد تضاعفت الآن وتحولت إلى ثارات مشحونة تؤججها المشاعر والدماء العزيرة التي سالت فوق جبال أفغانستان وأوديتها، وهي ثارات مشتركة لا يعلم أحدا كم ستجر إلى ويلات وكوارث على البشرية جمعاء.

 

والمؤسف أن الإدارة الأمريكية، رغم قسوة الدروس التي مرت بها الإدارات الأمريكية المتعاقبة، فإنها ترفض أن تصغ لصوت التاريخ وأن تتعلم من تلك الدروس، وأهمها أن الحرب لا يمكن أن تكون الطريق إلى السلام. وأن العنف لا يولد الأمن، وأن الطريق إلى السلام هو السلام ذاته. وعلى هذا الأساس، فإن الإرهاب التي تمارسه الشعوب المسحوقة لن يتوقف أبدا إلا بالتوقف “الآخر” “المدجج بأعتى آلات التدمير، عن قرع طبول الحرب، والاعتراف بالمصالح المشتركة وتحقيق علاقات متوازنة تِأخذ بعين الإعتبار حقوق الشعوب، بما في ذلك حق الفلسطينيين في ديارهم، وتغليب لغة الحوار.

 

افد جعل الشعور بالتفرد والتضخم إدارة الرئيس الأمريكي بوش تجر جيوشها وحجافلها من جديد إلى المنطقة، وبإعلان واضح وصريح هذه المرة.. الهدف منه احتلال العراق وتنصيب حاكم عسكري أمريكي عليه لفترة طويلة، كما فعلت أمريكا في اليابان وألمانيا من قبل.. حسب ما تناقلته وسائل الإعلام الأمريكية المرئية وغير المرئية وبضمنها الواشنطون بوست ونيويورك تايمز.. وإذن فهي ليست الديموقراطية ولا نزع أسلحة الدمار الشامل ولا الدفاع عن جيران العراق، ولكن عودة أخرى للإستعمار التقليدي القديم الذي تجاوزه الزمن.

 

ولا شك أن الإدارة الأمريكية بخطواتها المعلنة تجاه العراق، تتحدى المجتمع الدولي، وقرارات الشرعية الدولية ومبادئ الأمم المتحدة، وتضع سابقة خطيرة في العلاقات الدولية، خاصة وأن بؤر التوتر في العالم ليست مقتصرة على المصالح والصراعات الأمريكية، بل تتعداها إلى مناطق أخرى كثيرة. كيف سيكون العالم، مثلا، إذا أقدمت الصين على احتلال جزيرة فرموزا، وهي جزيرة تابعة لها بحكم الجغرافيا والتاريخ والسيادة؟ وكيف سيكون إذا أقدمت الهند على احتلال باكستان وكشمير، وكلاهما تابع لها حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، بحكم الجغرافيا والتاريخ والسيادة؟ وكيف سيكون الوضع إذا أقدمت روسيا على احتلال جورجيا والشيشان وكلاهما كانتا جزءا من الإمبراطورية السوفييتية حتى سقوطها عام 1990م؟ وكيف سيكون الوضع إذا أقدمت تركيا على احتلال قبرص وهي جزيرة ترتبط بها بحكم الجغرافيا والتاريخ؟ وكيف سيكون الوضع إذا أقدمت حكومة المغرب على احتلال موريتانيا والمنطقة الصحراوية وكلتاهما ارتبطتا بها سياديا بحكم الجغرافيا والتاريخ؟ كيف وكيف؟ وهناك الكثير من عشرات الأمثلة.

 

من المؤكد أن كثيرا من تلك الإحتلالات لها ما يبررها منطقيا وموضوعيا، وقد يحقق الغزاة معظم أهدافهم أو بعض منها، فيما لو أقدمت تلك الدول على خوض الحروب، لكن المؤكد أيضا، أن العالم بأسره سوف تسوده شريعة الغاب وتنعدم فيه المعايير وقوانين العدل، وستكون سيادة هذه الأوضاع مدعاة لبروز أهداف وغايات كامنة أو مغيبة تجد في الفوضى الجديدة فرصتها للظهور، كما ستبرز مطالب وأطماع مكبوتة من قبل كثيرين لم يكن مقبولا طرحها من قبل.

 

ومرة أخرى يغيب درس التاريخ الآخر عن أذهان عتاة الساسة في أمريكا.. فيتناسون أن المنطقة العربية ليست مختلفة في مقاومتها للغزاة عن أفغانستان، وأنها أيضا لا تطيق غريبا طامعا فيها، وأن باستطاعتها أن تدافع عن نفسها مهما زلت بها أقدام التاريخ.

 

سيقف العرب جميعا في خندق واحد للدفاع عن العراق، وسيرحل الغزاة عنه عنوة قبل انبلاج فجره المجيد.

 

فهل ستسود لغة العقل قبل فوات الأوان؟!

 

تاريخ الماده:- 2002-10-16

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

ستة عشر − 9 =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي