في راهنية الصراع على المنطقة

0

الكون لا يقبل الفراغ، مقولة علمية لعل أفضل تجسيد لها هو الوضع الراهن بالوضع العربي، حيث لا يجادل أي كان في حالة الضعف والتردي الذي بلغه، بما جعل منه ساحة مفتوحة للتنافس وللاختراقات الدولية. ولسنا بحاجة إلى كثير من الاستغراق والتأمل والتفصيل للتأكيد على صعوبة ما يجري في عدد من الأقطار العربية.
فالعراق الجريح، الذي جرى احتلاله عام 2003، من قبل الأمريكيين، لا يزال ينوء بثقل أزماته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بعد مرور أكثر من عقدين على الاحتلال. وحين يتعلق الأمر بسوريا، التي شهدت انبثاق حركة اليقظة العربية، منذ منتصف القرن التاسع عشر، فحدث ولا حرج. فالكل متواجد هناك. قوى دولية وأخرى إقليمية، تتقاسم مناطقها وتعمل على استمرار تشظيها. وحلفاء الدولة الدوليون والإقليميون لا يبدون جادين في العمل على إعادة اللحمة لها. وفي هذا السياق، تكفي الإشارة إلى أن الهجمات المتكررة للجيش الإسرائيلي، على المدن السورية، ومن ضمنها العاصمة دمشق تتم أمام أنظارهم، والمهم بالنسبة لهم، هو أن لا تتعرض تلك الضربات الجوية لمواقعهم، وهذا يكفي الآن.
واليمن مر ولا يزال بظروف صعبة للغاية، وللأسف فإن جل المحاولات لتحقيق وحدته، اصطدمت بتدخلات من خارجه، حالت دون التئام شماله وجنوبه، وقضت على إمكانية وجود نظام سياسي مستقل، يستمد قوته وشرعيته من قبول جميع اليمنيين له. ولا يزال مستقبله مجهولا إلى أمد غير منظور.
والسودان البلد، الذي يمكن أن يشكل سلة غذائية لكل الوطن العربي، منهمك في حرب أهلية، لأكثر من عام، بين الجيش وقوات التدخل السريع أكلت أخضره ويابسه، وحالت دون تقدمه ونمائه. والمعضلة أن كل طرف من المتصارعين، يخدم عن وعي، أو من غير وعي، أهداف واستراتيجيات من خارج المكان.
نقتصر الحديث عن هذه الأمثلة الصارخة، دون أن يعني ذلك، أن بقية الأقطار تعيش واقعا مختلفا، وأفضل بكثير من ذلك الذي تتراكم فيه الصراعات العسكرية والحروب الأهلية. فالأوضاع الاقتصادية سيئة جدا في عدد كبير من الاقطار العربية، والعملة المحلية في أقطار عربية تراجع سعرها كثيرا، مهددة الاستقرار الاجتماعي، ملوحة في كل لحظة بطوافين غضب وانفجارات، لا يعلم أحد مداها.
السؤال الجوهري، الذي ينبغي طرحه في هذا المجال، يتعلق بالينبغيات، وليس بالتمنيات. وهو سؤال منطقي لأنه يتعلق بوجود هذه الأمة ومستقبلها وحقها في الحياة الحرة الكريمة.
والينبغيات، في هذه الحالة يجب أن تنطلق من التسليم بأننا أمة واحدة، تجمعها لغة وتاريخ وجغرافيا ومواريث ومعاناة وأمن جماعي ومصالح حيوية مشتركة. إن وعي هذه الحقيقة، من شأنه أن يلهمنا لمستوى الخطر الذي يمكن أن نتعرض له جميعا في حالة انهيار الأوضاع السياسية في بلد شقيق أو أكثر من بلد.
ومن حسن طالع هذه الأمة أن وعي أبنائها في كثير من الأحيان يضاهي أو يتفوق على وعي الماسكين بمقاديرها. وهذا يعيدنا إلى العنوان الذي تصدر هذا الحديث، راهنية الصراع الدولي على المنطقة، وذلك أمر ماثل لا يحتمل النقاش، سوف يستمر إلى ما لانهاية، طالما وجد الفراغ، الذي قلنا إنه ضد سنن الكون.
لقد رزح الوطن العربي طويلا، تحت هيمنة الاستعمار التقليدي، ولم يخرج هذا الاستعمار من منطقتنا طوعا، بل بملاحم ومواجهات أسطورية، كلفت بلدا واحدا هو الجزائر على سبيل المثال، أكثر من مليون شهيد. وقد انتزعت معظم الأقطار العربية استقلالها، مستغلة ظروف الحرب العالمية الثانية. لكن الشعب المظلوم في فلسطين بقي حتى هذه اللحظة يناضل من أجل قيام دولته المستقلة، فوق ترابه الوطني. ولا يزال أهلنا في غزة، يتعرضون في أكثر من شهرين متواصلين، لأقسى وأشرس حملة عسكرية لا تستهدف آمال الفلسطينيين في الاستقلال فقط، بل وجودهم، بالمعنى الحرفي للكلمة.
إن التأكيد على التمسك بالأمن القومي العربي الجماعي، الذي نص عليه ميثاق جامعة الدول العربية، منذ عام 1945، ووقع عليه القادة العرب، هو السبيل الوحيد لاحترام إرادة هذه الأمة، وضمان استقلالها ووحدتها، والحيلولة دون العبث بمستقبلها ومقدراتها. وهو الوحيد الكفيل بأن نكون موضع احترام الدول على اختلاف سياساتها وتوجهاتها، في عالم ليس فيه مكان للضعفاء. وحينها فقط، نستطيع لجم التدخلات الخارجية في شؤوننا المحلية، وتغيير الحالة الراهنة في الصراع على المنطقة.
ليس هذا وقت لاتخاذ القرارات، بل لتنفيذها، ونقلها من حبر على ورق إلى أمر واقع، بما يضمن حماية الأمن القومي.

التعليقات مغلقة.

د.يوسف مكي