في الوحدة والتداعي: قراءة نقدية القسم الثاني
د. يوسف مكي
في معرض الحديث عن العروبة الجديدة، الذي بدأنا بتناوله، طرحنا أسئلة مركزية وعدنا بمحاولة الإجابة عليها: أين تقف العروبة بعد التحولات التاريخية الكبرى التي عاشتها المنطقة العربية، في ما أصبح متعارف عليه بالربيع العربي؟ وهل طويت صفحة العوامل التي أدت إلى بروزها، كفكرة محركة للشارع، ومحرضة على النضال؟ وهل هذه الفكرة، خاضعة كغيرها من الأفكار للتغير ولقانون الحركة والتعاقب؟ وأين نضعها في سياق الأحداث الجارية بالوطن العربي؟ وما هي سبل النهوض بها.
عالجنا بعض معضلات الفكر القومي في بداياته، وتابعنا بقراءة نقدية تطور حركته. وأشرنا إلى تأثره بطبيعة لحظة مقاومة المستعمر في الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الأولى، والثانية، والدور الذي لعبه انشغال الحركة بمعركة التحرر الوطني في تعطيل بناء صياغة نظرية متكاملة لهذا الفكر. وتناولنا تأثيرات ذلك في غياب رؤية واضحة للعلاقة بين الوطني والقومي.
وإذا كانت الأمور بنتائجها، فإن البعثيين تسلموا السلطة في العراق وسوريا، لما يقرب من أربعة عقود في العراق، وما يقترب من خمسة عقود في سوريا. وما شهده المواطن العربي هو فشل نظرية الاصطفاء، وعجز الطليعة الموعودة عن تحقيق أدنى تجانس بين كوادرها… وصراعات بين دمشق وبغداد بلغت حد تراشق التهم بالخيانة والخروج على الشرعية والتنكر لمبادئ الحزب. وفي النهاية انقسم الحزب الذي نذر نفسه إلى تحقيق وحدة الأمة إلى أحزاب، ثم إلى شظايا متناثرة على امتداد الوطن العربي، غير قادرة على الفعل، ولا حتى النهوض بمؤسستها أو مؤسساتها وتجاوز الأزمات التي مرت بها.
ولم يكن الأمر مختلفا في حركة القوميين العرب، التي انتهت كحركة قومية بعد نكسة حزيران مباشرة، وتحولت إلى تنظيمات قطرية، وانقسمت كما انقسم البعث إلى عدة مجموعات. وخاضت صراع سلطة دموي بين أجنحتها في اليمن الجنوبي، ذهب ضحيتها آلاف القتلى، وانتهت بفشل التجربة. أما التنظيم الطليعي الناصري، فتجربته قصيرة جدا، انتهت برحيل القائد الرئيس عبد الناصر. والنتيجة أننا أمام ما يشبه النهاية لمفهومي الطليعة والاصطفاء، الذين تبنتهما الحركة القومية منذ بداية الأربعينيات في القرن المنصرم.
في الستينات من القرن المنصرم، بدأ المفكر القومي الدكتور نديم البيطار، بالكتابة عن آلية أخرى لتحقيق الوحدة العربية، اختزلها في تطبيق مفهوم الإقليم القاعدة. والمقصود بذلك، أن يعمل القوميون على استلام الحكم في أحد الأقطار العربية، ويطبقوا نموذجهم في التنمية المستقلة والعدالة الاجتماعية، بما يجعل من القطر الذي يقود القوميون فيه السلطة منطقة جاذبة ومؤثرة في نشر وتعزيز الفكر القومي، وبالتالي التسريع في تحقيق الوحدة. لكن هذا التنظير ووجه بفشل ذريع، بعد هزيمة الأنظمة القومية في مواجهة المشروع الاستيطاني الصهيوني، وعجزها عن مقابلة استحقاقات الناس في الحرية والكرامة والعدالة، والدفاع عن سلامة وأمن واستقرار البلدان التي تمكنوا من تسلم السلطة فيها.
وتبقى معضلة تحديد المفاهيم التي لازمت الفكر القومي منذ بداياته حتى يومنا هذا، وبضمنها مفهوم القومية ذاته، الذي هو عاطفة ونزوع باطني نحو بشر، وفقا للمنظر القومي الأستاذ الحصري، وحب قبل كل شيء كما يراها مؤسس حزب البعث الأستاذ ميشيل عفلق.
هذه التعريفات وقضايا أخرى ذات علاقة بنقد الفكر القومي، ستكون موضوعا لحديث قادم بإذن الله.
التعليقات مغلقة.