سوريا لا تقبل القسمة

2

​​​​د. يوسف مكي
سوريا المجد والتاريخ وقلبها النابض دمشق، حاضرة الأمويين، والمركز الذي تم فيه صك أول عملة عربية، وفيها تأسست أول دواوين الدولة العربية. من دمشق بدأ عصر الفتوح، لتصل دولة الخلافة إلى بوابات الصين شرقا، واسبانيا غربا. وكما كانت دمشق نقطة البداية في تأسيس الحضارة العربية، فإن لمدينة حلب الشهباء، دور تاريخي مهم، حيث كانت المنطلق للفتوحات العربية، في الشمال. وكان لها الفضل في دخول أقوام كبيرة، من قوميات مختلفة لدار الإسلام، من ضمنها تركيا وألبانيا، وصربيا، وعدد آخر من البلدان.
ولسوريا ولبنان، دور كبير، في تأسيس حركة اليقظة العربية، التي ناضلت ضد الاستبداد العثماني، والمطالبة في المراحل الأولى بالحكم الذاتي، ولتتطور لاحقا تلك المطالبات بالكفاح من أجل تحقيق الاستقلال التام.
وعلى هذا الطريق تقدمت قوافل الشهداء، المطالبة بالحقوق القومية والثقافية لبلاد الشام. وكان الأبرز بين تلك القوافل، شهداء آيار/ مايو عام 1916، في دمشق واللاذقية وبيروت. وكان بينهم عدد كبير من زعماء النهضة العربية، أدباء ومفكرون وباحثون، أحالهم جمال باشا السفاح، لمحاكم عرفية، قضت بتنفيذ حكم الإعدام بحقهم.
وكان الأبرز في قائمة شهداء آيار/ مايو 1916 الشيخ عبد الحميد الزهراوي، من حمص والأمير عمر الجزائري حفيد الشهيد المقاوم للاستعمار الفرنسي بالجزائر الشيخ عبد القادر الجزائري، وعبد الغني العريسي، والشيخ أحمد طبارة، وشكري العسلي، وشفيق مؤيد العظم، وعشرات غيرهم.
وحين انتهت الحرب العالمية الأولى، غدت سوريا من أكثر المتضررين بنتائجها، وبشكل خاص اتفاقية سايكس- بيكو التي قسمت المشرق العربي بين الفرنسيين والبريطانيين. وكان الجانب الأخطر، في نتائج الحرب، هو إعلان وعد بلفور بتأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين.
وفيما بين الحربين تأسست للمرة الأولى، في تاريخ العرب المعاصر، الحركة القومية، وما كان لها أن تجد بيئة مثالية لهذا التأسيس أكثر من بلاد الشام، وكان حسم موضوع الهوية من أهم القضايا التي واجهها الجدل الفكري في هذه الحركة.
ومرة أخرى، ما كان لهذا الجدل الفكري بالوطن العربي، أن يجد بيئة ملائمة له أفضل من بلاد الشام. فمنذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر، غدت الشام، كما أشرنا، مركز لحركة اليقظة العربية، التي تصدت للاحتلال التركي، ومنه انطلقت حركة القومية العربية، التي كتب عنها جورج انطونيوس في كتابة حركة اليقظة العربية. وقد هيأت تلك الحركة للثورة العربية التي اطلقها الشريف حسين من مكة المكرمة.
في الشام أيضا، حدثت أول مواجهة عربية مشرقية مع الاستعمار الفرنسي في معركة ميسلون، بقيادة يوسف العظمة. وفيما بين الحربين تمكنت سوريا من انجاز استقلالها وألحقت الهزيمة بالفرنسيين، لتبدأ مرحلة التكالب على بلاد الشام، بين الغربيين أنفسهم، في مرحلة كانت الولايات المتحدة الأمريكية، تتهيأ فيها لإزاحة الاستعمارين التقليديين، البريطاني والفرنسي والحلول محلهما.
عبرت مرحلة التكالب عن ذاتها، في شكل انقلابات، أبطالها ضباط عسكريون سوريون، لكنهم للأسف كانوا ينفذون أجندات خارجية، من بينهم حسني الزعيم وسامي الحفناوي وأديب الشيشكلي. لكن سوريا تمكنت من الحفاظ على استقلالها وعروبتها.
ومرة أخرى، كان التهديد من الشمال، في محاولات اجبار سوريا على الالتحاق بحلف بغداد الذي وقفت خلفه أمريكا وبريطانيا، وضم باكستان وايران والعراق وتركيا، ولجأت سوريا إلى عروبتها لتنقذها من الهجمة، فعملت على تحقيق الوحدة الاندماجية مع مصر. وقد عبرت قبل ذلك أثناء العدوان الثلاثي: البريطاني الفرنسي الإسرائيلي على مصر عام 1956، عن تضامن ضد العدوان، قل له نظير، شمل إذاعة دمشق، في جملة باتت معروفة لكل متابع للتاريخ السوري: هنا القاهرة من دمشق…
بقيت سوريا حرة أبية محافظة على عهدها، رافضة مختلف الضغوط التي مورست بحقها لكي تنضم إلى حلف بغداد، الذي تشكل أثناء استعار الحرب الباردة. وللأسف كانت الضغوط على سوريا، في الخمسينيات، كما هي اليوم تمارس مباشرة من تركيا، للتخلي عن عروبتها وهويتها.
لقد واصلت سوريا دفع أثمان مواقفها التاريخية، وهويتها القومية، ولعلنا لا نجاوب الصواب، حين نرجع ما جرى من تطورات في الأيام الأخيرة، وآخرها سقوط رأس النظام في الدولة السورية، كجزء من ضريبة تلك المواقف.
ليس الهدف من هذا الحديث دفاع عن نظام سياسي حكم سوريا منذ عدة عقود، فقد بات الحكم عليه من شأن التاريخ، بل هو دفاع عن سوريا ووحدتها، والتصدي لمن يعمل على تفتيتها. والقول بتبعية حلب لتركيا، وتأييد البرلمان التاريخي ليس بحاجة إلى دليل، رغم أن أعضاء البرلمان التركي يدركون أن حلب مدينة سورية، أبي من أبي وستظل كذلك بحكم الجغرافيا والتاريخ.
وستظل سوريا عربية، والأمل كبير في تجاوزها لمحنتها، وبقائها موحدة رغم كل محاولات التفتيت، وستظل بلاد الشام، بيضة القبان، التي تحكم التوازنات الاقليمية، والدولية، ولن يكون في صالح السوريين، ولا الشرفاء من الاتراك، ولا القوى الدولية، جعلها مقرا لتصفية الحسابات بين الغرماء، لأن انفلات الأوضاع فيها يعني، انفلات الارهاب في المنطقة بأسرها، وهو ما لا يمكن أن يقبل به عاقل. والقول بإرهابية المارقين، لا يحتاج إلى دليل، فقد كشفت عنهم بالأسماء سجلات هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي.
سوريا أرض عربية لا تقبل القسمة.

التعليقات مغلقة.

د.يوسف مكي