رحيل عاروري الصديق المفكر والإنسان
كان تصوري الدائم عن الهجرة إلى خارج الوطن، أنها رحيل وقطع مع ذاكرة، وانتقال من انتماء وهوية، إلى ذاكرة وهوية أخرى. إنها بمعنى آخر، صناعة لكينونة وثقافة جديدة، ليس لها علاقة بما سبقها. وقد سكن هذا التصور في يقيني طويلا، حتى قدر لي التعرف على الراحل العزيز الدكتور نصير عاروري، في مطالع التسعينيات، أثناء تحضيري لشهادة الدكتوراه، بمدرسة الدراسات الدولية في جامعة دينفر.
قرأت للراحل الكبير، كثيرا عن القضية الفلسطينية والسياسات الأمريكية، قبل التعرف عليه. وحين بدأت التفكير في أطروحة الدكتوراه، أشار علي بعض الزملاء، أن أكتب عن منظمة التحرير الفلسطينية، كنموذج على انتقال حركات التحرر الوطني، من تبني الكفاح المسلح، إلى الحلول السياسية، والذي تزامن مع تغير جذري في ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية، حيث لم يعد الهدف تحرير فلسطين، من النهر إلى البحر، بل إقامة دولة فلسطينية، على الأراضي التي احتلها الكيان الصهيوني، في حرب حزيران/ يونيو عام 1967, وتحديداً على أراضي الضفة الغربية وقطاع عزة، وتكون القدس الشرقية عاصمة هذه الدولة.
حينها كانت إدارة المدرسة الدولية، تصر على أن يكون أعضاء اللجنة التي تشرف على الأطروحة من الفريق الذي يعمل بجامعة دنفر. ولم أكن سعيدا بهذا القرار، لأن المختص بشؤون دراسات الشرق الأوسط، هو أكاديمي صهيوني، تربطه علاقة خاصة بوزير الخارجية الإسرائيلي، أبا إيبان. وكان يصر على أن السبب الرئيس في تراجع منظمة التحرير عن أهدافها واستراتيجياتها هو صلابة الموقف الإسرائيلي، وعدم استعداده لتقديم أي تنازلات للفلسطينيين. وقد رأيت في هذه القراءة تسطيحا، وأنه ينبغي قراءة القضية الفلسطينية، من جوانب أخرى، كحركة تعمل في المنافي والشتات، وتتأثر بواقع عربي وإقليمي، يفرض عليها التعايش مع ما يجري في هذا الواقع من متغيرات.
واستمر السجال، قرابة عام، حول المقدمات النظرية للبحث، بين إصراره على استخدام أدبيات صنع القرار، وإصراري على أدبيات حركات التحرر الوطني. ولم يكن من تسوية لهذه المعضلة، سوى باستبدال عضوية الأكاديمي الصهيوني بشخص آخر، يكون له حضور أكاديمي وشهرة عالمية، تجعل الجامعة تتجاوز أعرافها، وتعتبر مشاركته في تقييم الأطروحة رصيدا يضاف لسمعتها، كصرح علمي.
وكان الاسم الأبرز بين المفكرين العرب– الأمريكان في حينه، هو المرحوم الدكتور إدوارد سعيد. فكان أن حققت أول اتصال في حياتي مع الدكتور سعيد، الذي أبدى ترحيبه بموضوع الدراسة، لكنه أشار علي اقترح أن يكون الدكتور عاروري بديلا عنه، كونه متخصصا أكثر في هذا المجال، وتبرع بالاتصال به شخصيا والتفاهم معه، كما عبر عن استعداده لقراءة الأطروحة حال إنجازها وإبداء ملاحظاته حولها. وهكذا كان.
اطلع الدكتور عاروري على مشروع البحث، واتفق معي على أن أدبيات حركات التحرر الوطني هي الأصلح، لتقييم التحولات التي حدثت في مجرى النضال الفلسطيني. وأبلغ الجامعة عن استعداده لأن يكون عضوا في لجنة القراءة. وكانت تلك بداية مسيرة علاقة وصداقة طويلة ربطتني بالراحل الكبير.
وخلال هذه الرحلة، تكشف عاروري عن تواضع جم، وصدق في الانتماء للقضية الفلسطينية، وحماس للمقاومة التي لم تكن آنذاك في أحسن أحوالها. وكان يؤمن بحتمية هزيمة المشروع الصهيوني، وقيام دولة واحدة على كل الأرض الفلسطينية، تضم جميع الأديان والأعراق. وخلال إنجاز الأطروحة، كان من الصعب علي أن أميز في شخصية عاروري بين الأكاديمي والمفكر المتميز والباحث المرموق، وبين المناضل الصلب، الذي يعمل من أجل قضية عادلة، هي حق الشعب الفلسطيني في تحرير أرضه والعودة إلى دياره.
وكان يؤمن بأن ما تمر به القضية الفلسطينية من تراجع، هو انعكاس لحالة التردي التي تمر بها الأمة العربية. ولم يتردد لحظة عن التعبير بأن فلسطين، هي قضية عربية محضة. وأن حضورها القوي هو مصدر شرعية الأنظمة العربية. وهذا الإيمان هو ما دفعه للافصاح، في كتاباته، عن هويته كمناضل فلسطيني، بانتماء قومي عربي. سخر مهنته في خدمة قضايا أمته، وغدا صوتا مدويا في الدفاع عن وطنه، ومرجعا لكل باحث عن كيفية اكتساب الصهاينة لأرض فلسطين.
إثر حرب الخليج عام 1990، شهدت المنطقة العربية انهيارات كبرى، انعكست آثارها على العمل الأكاديمي والبحثي. ووصلت تأثيرات ذلك إلى الأكاديميين العرب في قلب الولايات المتحدة. وحينها تداعى بعض من المثقفين والمفكرين، إلى مناقشة هذه الانهيارات، والمساهمة في إيجاد مناخات تسهم في الخروج من النفق. وكان الراحل الدكتور عاروري على رأس من اهتموا بهذا الحراك. وكان لي شرف المشاركة في تلك المناقشات. وكانت أيضا فرصة أخرى لكي أتعرف عن قرب أكثر، على شخصية الراحل الكبير. فقد كان سجاليا بامتياز، ومؤمنا بأن دور الفكر، هو الإسهام بنهضة الأمة، وليس هناك في العلم ما يمكن أن يصنف بالحياد، بين الظلم والقهر، وبين محاولة التخلص من القيود والأصفاد. فكان الاقتراح بتشكيل مجلس عربي للتغيير، يقوده أكاديميون عرب، ويقدم الدراسات والتوصيات، حول القضايا الراهنة، وبشكل خاص قضايا التنمية والتطوير الاقتصادي للقادة العرب. لم يستمر الحراك طويلا، لكنني اقتربت خلال تلك الفترة كثيرا من الراحل العزيز.
ولد الدكتور عاروري بمدينة القدس، عام 1934 وحاز على الدكتوراه بالعلوم السياسية من جامعة ماساتشوستس. وعمل أستاذا في نفس الجامعة. وكان عضوا بالمجلس الوطني الفلسطيني والمجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية. وكان من مؤسسي رابطة الخريجين العرب الأميركيين عام 1968.
ترك الدكتور عاروري إرثا كبير من العطاء، نذكر على سبيل منها، “المقاومة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي، و”عرقلة السلام: الولايات المتحدة، إسرائيل، والفلسطينيين” و”اللاجئون الفلسطينيون: حق العودة”، “الوسيط غير النزيه: دور الولايات المتحدة في إسرائيل وفلسطين”.
رحم الله الفقيد، وأسكنه فسيح جناته، وألهم ذويه وأصدقائه ومحبيه الصبر والسلوان.