بين الخصوصية والكونية

0 193

خلال أسبوع واحد تم انعقاد مؤتمرين، بالوطن العربي، لهما دلالة خاصة بما يتعلق بالحديث المستعر عن الإصلاح السياسي، والذي أصبح أحد مصادر الابتزاز الذي تمارسه الإدارة الأمريكية الحالية بحق الأنظمة العربية، لدفعها لتقديم المزيد من التفريط بالحقوق والأماني والتطلعات، والمستقبل العربي.

 

ففي ربوعنا، عقد بمدينة الظهران، بالمنطقة الشرقية الملتقى الرابع للحوار الوطني، وكان مكرسا، للشباب، من حيث المشاركة ومن حيث المواضيع التي تناولها الملتقى. وكالعادة خرج الملتقون بجملة من التوصيات الإيجابية، التي نتمنى أن يكون لها صدى وتقبلا من قبل المسئولين، وأن تجد طريقها إلى النور. وفي الرباط عقدت اجتماعات منتدى المستقبل، بمشاركة وزراء خارجية ومالية نحو 20 دولة عربية وإسلامية إضافة إلى دول مجموعة الثماني الصناعية الكبرى.

 

وكان عقد ملتقى الحوار الوطني قد جاء تلبية لدعوة أطلقها ولي العهد الأمير عبد الله بن عبد العزيز، قبل عامين، تحقق خلالها ثلاث لقاءات كان الأول في مدينة الرياض والثاني في مكة المكرمة، والثالث بالمدينة المنورة، وعقد الملتقى الرابع، كما أشرنا، بمدينة الظهران. أما منتدى المستقبل فقد جاء نتيجة لقرار اتخذته قمة مجموعة الثماني في يونيو/ حزيران الماضي، إثر مبادرة الشرق الأوسط الكبير التي أطلقها الرئيس الأمريكي جورج بوش، تحت يافطة إدخال إصلاحات ديمقراطية في البلدان العربية. والملاحظ أنه بعد أشهر على إطلاق الدعوة الأمريكية للإصلاحات السياسية، تراجعت المطالب الأمريكية لتنصب في النهاية على الشقين الإقتصادي والمالي، وذلك أمر منطقي جدا فهذه الأمور هي أكثر جاذبية للطرفين الأمريكي المستنفر للهيمنة، وللأنظمة التي ليس لها الاستعداد في التخلي عن صولجان السلطة.

 

ولا شك أن السياسات الأمريكية في فلسطين والعراق والسودان، وموقفها من سوريا ولبنان قد جعلت المواطن العربي ينظر بعين الشك والريبة لأطروحات الإصلاح السياسي الأمريكية. وقد وضح ذلك في المظاهرات التي شهدتها مدينة الرباط، والتي شارك فيها مئات المغاربة المنتمين لجمعيات المجتمع المدني والمنظمات الأهلية المناهضة لانعقاد منتدى المستقبل. وقد رفع المشاركون فيها شعارات مناهضة للسياسة الأمريكية بالمنطقة، ووصفوا المنتدى بأنه شكل آخر من أشكال الإستعمار. وقال رئيس الهيئة المغربية لحقوق الإنسان عبد الحميد أمين إن الهدف الحقيقي للمنتدى هو التوصل إلى تطبيع وضع الاحتلال بفلسطين والعراق وأفغانستان. وأشار إلى أنه “إذا كانت الولايات المتحدة تريد دعم الديمقراطية فعليها أن تدعم الديمقراطيين بدلا من المستبدين في المنطقة”. وتساءلت عدة صحف مغربية عن أهداف المنتدى، وهل هو فضاء للحوار وتوسيع التعاون بين دول المنطقة والدول الثمانية المصنعة، أم هو إطار لفرض الاملاءات وإحكام قبضة التبعية؟ وفي المغرب بالضبط توجت حركة مناهضة المنتدى بالاعلان عن تأسيس إطار سمي بـ “الخلية المغربية لمناهضة منتدى المستقبل” انبثقت عن اجتماع دعت إليه “مجموعة العمل لمساندة العراق وفلسطين. وحسبما جاء في ندوة نظمتها هذه الأخيرة بالرباط مؤخرا، ستقوم الخلية بتنظيم وقفة احتجاجية، وندوة فكرية حول ”منتدى المستقبل” كما ستبعث رسائل احتجاجية إلى مجموعة الدول المشاركة في المنتدى.

 

الجامع بين الحدثين، اللقاء الرابع للحوار الوطني ومنتدى المستقبل هو أنهما يأتيان في إطار الدعوة للدفع بمسيرة الإصلاح السياسي. وحول كليهما يدور جدل يكاد يكون متماثلا حول الخصوصية الوطنية والثقافية لمختلف البلدان. وعلاقة ذلك بالإصلاح ويذهب المتحاورون بعيدا، أحيانا بالإستغراق في الحديث عن الخصوصية، وأحيانا بالدعوة الجهورة للاندماج بالعولمة بمختلف أوجهها، بما في ذلك السياسية والثقافية.

 

والواقع هو أننا إذا خلصت النيات لدى الجميع، ولم يكن المحرض لأحد على التشبث بالخصوصية هو استغلال مشاعر العداء لدى الناس للسياسات الأمريكية غير العادلة والمنحازة ضد قضايانا، من أجل تكريس التخلف وتأجيل الإصلاحات السياسية والديمقراطية في الوطن العربي فإننا سنواجه بموقفين، يبدوان متعارضين في الظاهر، لكن العلاقة بينهما تكاملية وغير متضادة. فالخصوصية الإنسانية التي ينبغي التسليم بها، هي ليست التي تحجب التطور والتنمية والتسليم بالحقوق، بما في ذلك حق الناس في تقرير مصائرهم وأقدارهم. وهي أيضا ليست خصوصية ساكنة وعصية على التغيير. إنها خصوصية مجتمعية وتاريخية، كما يقول الأستاذ محمد أمين العالم. ولأنها تاريخية، فهي نتاج حركة وتطور، تتغير باستمرار.. إنها هوية وبصمة لإنسان في زمن ما، ولأن الزمن لا يقف بطبيعته فإن الهوية والبصمة تتحركان في تجانس واضح معه. وينعكس ذلك بكل تأكيد على الأوضاع والخبرات والأحوال، وتنامي أشكال الوعي والثقافات والمنجزات والإرادات والمصالح المختلفة. وهكذا فإن القول بوجود ثقافات وتقاليد راسخة عصية على التغيير، هو وجه آخر للقول بتهميش الهوية بل وطمسها موضوعيا وإنسانيا، وبالتالي تجميد للمجتمع وقضاء على التاريخ.

 

وعلى هذا الأساس، فإننا حين نتحدث عن مرحلة تاريخية، فإننا نتحدث عن سيرورة، وعن مكتسبات ومنجزات وأفكار وقيم وعقائد وأعراف ليس لها صفة الثبات. إن المهم في الهوية أن لا تشكل انقطاعا، بل أن تأخذ موقعها في سلسلة متواصلة وممتدة تتجه إلى أمام، ولكنها لا تتماثل أبدا، وهكذا نصل إلى نتيجة مؤداها أن الهوية ليست معيارا مرجعيا ناجزا ونهائيا لمجتمع ما، بل مشروع متطور وفاعل، منفتح على المستقبل.

 

النقطة الأخرى التي يجدر الإنتباه لها هي أن عصرنا الراهن هو عصر حضارة واحدة، تمتد لأول مرة في التاريخ عبر الكرة الأرضية بأشملها. وهي حضارة اخترقت نسيج كل المجتمعات الإنسانية، بما في ذلك الشعوب والأمم التي ترفض الهيمنة الأمريكية وتنافحها. ومن يرفض هذا القول فما عليه سوى مراجعة قدرته العقلية، وأن يتلفت يمنة ويسرة داخل منزله ليرى بأم عينيه نوعية الأثاث والأدوات والملابس التي يستخدمها. ليس ذلك فحسب، فإن ذلك يجد له تكريسا في الشارع والمدرسة ومقر العمل، وأماكن التسوق، وفي اللوائح والتشريعات وأنظمة العمل..هكذا فإن الحضارة الإنسانية واحدة الآن، شيئا أم أبينا ذلك. صحيح أن المستوى الحضاري يختلف بين بلد وأخر. يختلف بين من يسهمون في إنتاج هذه الحضارة، وبين من يقفون عند حدود الإستهلاك لثمرات هذه الحضارة، أو المساهمة في انتاج هامشي طفيلي فيها. إنها حضارة الإنتاج الصناعي، الرأسمالي. وذلك يفسر سبب اقتحامها للكون.

 

إن كون هذه الحضارة تعبر أساسا عن نمط الإنتاج الرأسمالي يجعلها لا تقف عند حدود معينة، بل تمتد إلى مختلف أصقاع الأرض، من حيث الإنتاج والإستهلاك. ولا شك أن ذلك يلقي بظلاله بقوة على الجوانب المادية والعملية والجوانب المعنوية والقيمية. وهكذا أيضا فمن خلال السعي نحو الربح والسيطرة والتوسع تتحقق العولمة والوحدة الحضارية، بمختلف تشعباتها الإقتصادية والثقافية والسياسية والآيديولوجية. ولذلك يصبح مفهوما استعارتنا المستمرة، منذ بدأنا لهثنا الدءوب للبحث عن هوية، مع غياب المشروع التأسيسي لها، لمفردات واردة، بعيدة عن محيطنا. استعرنا، منذ مطلع القرن المنصرم مفاهيم كثيرة، عبرت كل منها عن مرحلة تاريخية وافدة، أكثر مما عبرت عن حاجاتنا وآمالنا وطموحاتنا. وكان بعض تلك المفاهيم جميلا وحالما، ولكنه لم يتوفر له من يجيد غرسه، وبعضها الآخر، كان عبئا ثقيلا جثم على كاهلنا طويلا، كالحماية والإنتداب والوصاية، ورحل بعد أن انتهت مرحلته، لتحل مكانه مفاهيم أخرى وافدة سادت بعد رحيل الإستعمار، كالتحرر الوطني والعصرنة والحرية والمساواة والعدل الإجتماعي والوحدة، لكننا أيضا بقينا نتعامل معها بقانون الفعل ورد الفعل، وانتهت في ليلة ريح عاصفة في صيف قاس في حزيران عام 1967، لتحل مكانها لاءات ثلاث باهتة، ما لبثت أن استعيض عنها بالأمر الواقع ومحاولة كسر الحاجز النفسي والتطبيع وإعطاء قوة دفع للسلام، وسلام الشجعان والمبادرة.

 

ليس مطلوب منا أن نتحدث كثيرا عن الخصوصية ولا عن الكونية، وأن نكون صدى شاحبا لتيارات عاصفة وافدة لا يمكننا مواجهتها والصمود في وجهها. ومطلب الإصلاح ينبغي الإنتقال به من الحديث عنه باعتباره شأنا داخليا إلى الإلتزام الإستراتيجي بتحقيقه، والفارق كبير بين الأمرين. الإصلاح الوافد جزء من نمط الإنتاج الرأسمالي تحكمه قوانين الربح والمنفعة والهيمنة، وهو في الأخير لن يكون إلا استجابة منفعلة لاملاءات خارجية. أما الإصلاح الحقيقي، فهو ذلك الذي تختاره الأمة بمحض إرادتها، وليس مرتهنا لضغوط ومصالح خارجية. إنه الإصلاح الذي يزج بجميع أبناء الوطن في معمعان المشاركة السياسية وصناعة القرار، ويكون عمقه الأمة، وبوصلته مصلحة أبنائها، وهو إصلاح غير منفعل، يثق في الحاضر ويتطلع إلى المستقبل، ويوازن بوعي وعمق بين الوطنية وبين كوننا جزء من عالم فوار متحرك. إنها الموازنة بين الخصوصية والكونية…

 

yousifsite2020@gmail.com

 

 

 

 

 

 

د. يوسف مكي

تاريخ الماده:- 2004-12-15

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

ثمانية عشر − ستة عشر =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي