بيروت بردا وسلاما

2

​​​​​​​د. يوسف مكي
في الثلاثين من تموز يوليو من هذا العام، ، شنت إسرائيل هجوما صاروخيا على العاصمة اللبنانية، بيروت، لكن الحرب الفعلية على لبنان، أخذت مكانها بعد تفجير آلاف البيجرات، والووكي توكي في لبنان، ذهب ضحيتها الألاف من المدنيين، واغتيال العشرات من الناشطين بالضاحية الجنوبية لمدينة بيروت، ليتبعها اغتيال الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، وخليفته هاشم صفي الدين، ولتبدأ حرب غير مسبوقة في عنفها ووحشيتها على لبنان، لم تقتصر على الضاحية وحدها، بل شملت كافة أرجاء مدينة بيروت، وتطورت لتشمل قوى سياسية، من خارج بيئة الضاحية الجنوبية للمدينة، شملت فلسطينيين ولبنانيين.
توقفت الحرب في السابع والعشرين من شهر تشرين الثاني/ نوفمبر، بعد منازلة أسطورية، ابليت فيها مقاومة اللبنانيين للغزو الاسرائيلي بلاء حسنا. دافع اللبنانيون بشراسة عن أرضهم، ووصلت صواريخهم إلى يافا وعكا وطبريا وتل أبيب. وأدرك الغرماء المنخرطون في المواجهة على الجبهتين اللبنانية والإسرائيلية، أن لا قبل لهم في استمرار المواجهة، وقبلوا على مضض بوقف إطلاق النار.
بداية الحرب، كانت مرتبطة بإسناد اللبنانيين، لأشقائهم في غزة، أمام حرب الإبادة التي لا يزالون يتعرضون لها، من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي، والذي تصاعد بشكل كبير بعد ما بات معروفا بطوفان الأقصى، والذي تسبب في استشهاد أكثر من خمسة وأربعين ألفا، وأكثر من مائة وخمسة من الجرحى، تقدر بعض المصادر، ومن ضمنها محكمة الجنايات الدولية، أن جلهم من النساء والأطفال والشيوخ، الذين لا ناقة لهم ولا جمل في هذه المواجهة.
معركة الاسناد، اتسمت بما عرف بقواعد الاشتباك، حيث لم تتجاوز أكثر من ستة إلى سبعة كيلو مترات، في العمق الاسرائيلي، معظمها في اصبع الجليل والجليل الأعلى، ولذلك كانت حربا محدودة لأكثر من عام كامل.
وربما أجل الإسرائيليون حربهم على لبنان، بحسبان أن معركتهم في غزة لن تطول، وأنهم سيكونون قادرين في فترة وجيزة على الحاق الهزيمة الشاملة بغزة، لكنهم بعد هذه الفترة الطويلة، وحتي يومنا هذا لم يتمكنوا من السيطرة على أي جزء منها، ولا تزال قواتهم تقاتل في الشمال من القطاع. وكانت كلفة ذلك كبيرة، على سمعة دولة الاحتلال على الصعيد العالمي، كما كان لها انعكاساتها المباشرة، على الداخل الاسرائيلي، خاصة بعد عجز حكومة نتنياهو حتى هذا التاريخ، من التوصل إلى صفقة مع الفلسطينيين، تتكفل بإعادة الأسرى الاسرائيليين في عملية طوفان الأقصى. وبات مألوفا أن تشهد تل أبيب مظاهرات يومية من قبل عوائل الأسرى، تضغط على الحكومة الإسرائيلية، للتوصل إلى صفقة تعيد الأسرى إلى عوائلهم.
الاستنزاف المستمر، لأكثر من أربعة عشر شهرا للقوات الاسرائيلية، وتكرر الشكوى من نقص في الأسلحة والهروب من التجنيد، يضاف إلى ذلك أن اسناد المقاومة اللبنانية لغزة، تسبب في رحيل أكثر من مائتي ألف من الاسرائيليين، الذين يقيمون في المناطق الشمالية، المحاذية للجنوب اللبناني.
وقد شكل هذا النزوح الكبير، جرحا نازفا يضغط بقوة على حكومة نتنياهو.
وكان الهروب إلى الأمام، إلى غزو لبنان، هو ما تفتقت عنه عبقرية الحكومة الاسرائيلية، لتضع نفسها في مستنقع كبير، لا قبل لها بمواجهته. ومنذ اعلان الحرب على بيروت، تحولت حال المواجهة مع الاسرائيليين، من معركة اسناد إلى حرب مستعرة، بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى.
والحقيقة، أن الوضع في لبنان، مختلف جذريا عن نظيره في غزة، فالعمق الاستراتيجي هنا أوسع وأكبر، والحدود بين سوريا ولبنان مفتوحة، من الشمال إلى الجنوب، والتحالف بين المقاومين والحكومة السورية، اتخذ صبغة تاريخية واستراتيجية، تجعل من الصعب على الاسرائيليين مواجهته. لكن نقطة الضعف في لبنان، هي عدم اجماع مختلف الأطراف اللبنانية على تأييد المقاومين.
والاختلاف بين اللبنانيين، معروف تاريخيا، وقد قاد إلى حروب أهلية عام 1958، أثناء عهد الرئيس كميل شمعون، وكان محور الخلاف في حينه، هو حلف بغداد الذي سعت كل من أمريكا وبريطانيا إلى الحاق لبنان فيه. وفي منتصف السبعينيات، اندلعت حرب أهلية ثانية، أعلن أن أحد أسبابها هو تصاعد الوجود الفلسطيني في لبنان، الذي اعتبره البعض تهديدا للتشكيل الديموغرافي للبلاد. واستمرت تلك الحرب، بين مد وجزر، حتى عام 1989، حين دعت حكومة المملكة العربية السعودية معظم الفرقاء اللبنانيين المتخاصمين، لعقد مؤتمر مصالحة بمدينة الطائف، أكدت نتائجه على دعم السلطة اللبنانية، بجنوب لبنان، الذي كان محتلا آنذاك من قبل القوات الإسرائيلية.
خلاصة القول، أن الساحة اللبنانية تفتقر إلى التجانس بين مختلف القوى السياسية، لكن قدر اللبنانيين، والحفاظ على أمنهم ومستقبلهم، يفرض سيادة مفهوم التعايش، وقبولهم لبعض. وأمامهم الآن، بعد وقف إطلاق النار معركة صعبة، تتمثل في اعمار ما خلفته الحرب من دمار وجروح عميقة. وما يبعث على الأمل بالتغلب على الصعاب، هو إجماع اللبنانيين، على سد الفراغ في مؤسساتهم التنفيذية والدستورية، وتحديد موعد لانتخاب رئيس للجمهورية، وإجراء انتخابات نيابية، وتشكيل حكومة جديدة، وهي فرصة تاريخية، ينبغي أن لا تفوت على لبنان.
وكما ناصر العرب جميعا، لبنان وساهموا في إعادة أعمار ما خلفته حرب تموز/ يوليو 2006، فالمتوقع أن يكون الدعم أكبر وأسرع في هذه المرحلة، لكي يبقى لبنان عزيزا، ولتكون النتيجة بردا وسلاما على بيروت.

التعليقات مغلقة.

د.يوسف مكي