الفيتو الأمريكي والمفاوضات

0 364

وسط انشغال العرب بالتحولات التاريخية الكبرى التي تجري في عدد من البلدان العربية، اجتمع مجلس الأمن الدولي في العشرين من فبراير المنصرم لمناقشة مشروع عربي، بإدانة الاستيطان الصهيوني بالضفة الغربية وقطاع غزة.

قبيل موعد الاجتماع، مارست إدارة الرئيس الأمريكي، باراك أوباما أنواعا مختلفة من الضغوط لثني السلطة الفلسطينية عن عرض المشروع على مجلس الأمن.

واتصل الرئيس الأمريكي، باراك أوباما شخصيا بالرئيس الفلسطيني “أبو مازن”، لذات الهدف، مهددا بقطع المساعدات المالية السنوية التي تقدمها بلاده إلى السلطة، في حالة تمسكها بتقديم المشروع للتصويت عليه من قبل مجلس الأمن الدولي.

 

عند عرض المشروع، صوتت لصالحه 14 دولة من أعضاء مجلس الأمن الدولي اﻠ15، وتصدت له الولايات المتحدة بمفردها باستخدام حق النقض “الفيتو”، وكان لها ما أرادت. وكان ذلك دليلا آخر على عبثية المراهنة في إمكانية صدور أي قرار دولي إيجابي لمصلحة الحقوق الفلسطينية، يدين غطرسة الكيان الصهيوني، وخروجه السافر على المواثيق والمبادئ الدولية، ويدعم حقوق الشعب الفلسطيني ضمن المعطيات الراهنة.

حدث استخدام الفيتو الأمريكي، وسط انهيارات كبرى في النظام الرسمي العربي، شملت مصر، أكبر قطر عربي من حيث الدور الحضاري والثقافي الذي لعبته، وأيضا من حيث الثقل البشري. وجاءت مناقشة القرار في مجلس الأمن، أثناء انهماك عربي شامل بما يجري في عدد من الساحات العربية.

لقد أدى انهماك العرب بالأوضاع المتفجرة التي تتداعى في عدد من الأقطار العربية، إلى أن يمر استخدام الفيتو الأمريكي، ضد مصلحة الشعب العربي الفلسطيني، دون اهتمام أو التفات من قبل أجهزة الإعلام العربية المقروءة والمرئية، والنتيجة هي حرمان الفلسطينيين من موقف عربي تضامني تجاه الفيتو الأمريكي.. ولا شك أن انحياز الإدارة الأمريكية الأخير لصالح الكيان الغاصب، سيتسبب في تداعيات خطيرة على مسار المفاوضات الفلسطينية- الإسرائيلية، باتجاه إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، وأيضا على مجرى الصراع العربي- الصهيوني.

وليس من شك، في أن إدارة الرئيس الأمريكي، أوباما قد كشفت باستخدامها لحق النقض، عن انحياز كامل للكيان الغاصب. كما كشفت زيف الوعود التي أطلقتها هذه الإدارة غداة وصولها للبيت الأبيض، وبشكل خاص الخطاب التاريخي الذي ألقاه الرئيس الأمريكي أثناء زيارته للقاهرة، والذي وعد فيه بالتزام سياسة نزيهة ومتوازنة تجاه القضايا العربية. لقد تكشف للذين ساورهم الوهم بعدالة الموقف الأمريكي ونزاهته، زيف دعوات إدارة أوباما لاحترام حقوق الإنسان وحق الشعوب في تقرير المصير، وازدواجية فاضحة في المعايير، وتناقض بين السياسات المعلنة والممارسة.

لقد أعلن الرئيس الأمريكي، أوباما في بداية دورته الرئاسية، عن رفضه لسياسة الاستيطان الإسرائيلي، في الضفة الغربية، بما في ذلك مدينة القدس، وطالب الإسرائيليين بوقفها. وأوضح أن ذلك يمثل شرطاً ضرورياً لاستئناف المفاوضات مع الفلسطينيين. لكنه أمام تعنت إدارة حكومة نتانياهو، تراجع عن موقفه، ودعا الفلسطينيين إلى مواصلة المفاوضات مع الصهاينة، والقبول بسياسة الأمر الواقع.

توقع الكثيرون أن تمارس الإدارة الأمريكية الحالية، سياسة مختلفة عن سياسات سابقاتها من الإدارات، تضغط بها على الصهاينة للاعتراف بالحقوق الفلسطينية. لكن ما تكشف لاحقا، من خلال استخدام الفيتو، قد أكد تماهي سياسة هذه الإدارة مع سياسات الإدارات الأمريكية السابقة، في الانحياز الكامل للكيان الغصب، والدفاع عن مواقفه في الصراع مع الفلسطينيين والعرب.

لقد فاجأ الموقف الأمريكي السلطة الوطنية الفلسطينية، التي تصورت إمكانية التزام إدارة أوباما بموقف نزيه، يجعلها مؤهلة للعب دور الوسيط، في التسوية مع “الإسرائيليين”، باتجاه إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة. ولم يعد بالإمكان التعويل الآن على استمرار المفاوضات بين مختلف الفرقاء، من أجل التوصل إلى تسوية سلمية عادلة، تضمن تحقيق الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية.

إن استخلاص الدروس من هذا الحدث، يعني أن على الفلسطينيين، أن لا يعولوا كثيرا على تحقيق صبواتهم في الحرية والانعتاق على دعم من الراعي الأمريكي. لا بد من إيجاد خيارات أخرى، تجبر “الإسرائيليين” على الاعتراف بالحقوق الوطنية الفلسطينية. خيارات تعتمد تصليب عناصر الوحدة بين الفلسطينيين، وتعمل على إعادة توحيد الضفة والقطاع، وتحقيق المصالحة الوطنية، بين فتح وحماس. إن ذلك يعني فتح الأبواب مشرعة لكل الخيارات، بما في ذلك خيار المقاومة المسلحة، التي كفلتها الشرائع والدساتير وميثاق الأمم المتحدة، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي يؤكد حق الشعوب المحتلة في الكفاح بمختلف الوسائل والأدوات من أجل انتزاع حريتها واستقلا لها.

مع المناخات العربية الجديدة، لابد من أن تعيد السلطة الفلسطينية النظر في سياساتها، وتركز مجددا على العمق العربي، لدعم الكفاح الفلسطيني. ولا مناص من إعادة تقييم شامل لمرحلة أوسلو وما تلاها من مفاوضات عبثية امتدّت عشرين عاماً. ولن يكون بالإمكان تحقيق ذلك إلا بترتيب البيت الفلسطيني أولا، وإنهاء الانقسام والعودة إلى الوحدة، وفق برنامج وطني يؤكد على الثوابت الفلسطينية، وينتهج سياسة مغايرة بعيدة عن المساومة والتفريط في مصالح الشعب الفلسطيني، أو المراهنة على مواقف عادلة ونزيهة للإدارة الأمريكية.

إن هذه المرحلة تتطلب تحقيق التلاحم العضوي بين الفلسطينيين والعرب. وخلق مناخ من التضامن العربي، للتصدي للغطرسة الصهيونية، وإعادة تقييم المبادرة العربية للسلام في الشرق الأوسط، انطلاقاً من وعي مخاطر المشروع الصهيوني، على الأمن القومي العربي، وعلى حقوق الفلسطينيين.

إن الاستخدام الأمريكي المفرط والمتكرر لحق النقض، حين يتعلق الأمر بالقضية الفلسطينية، لا يطال السلطة الفلسطينية وحدها، بل هو عدوان صارخ على الأمة العربية جمعاء، والتصدي له مسؤولية عربية أخلاقية وقومية ووطنية، على الجميع وليست فرض كفاية.



اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

14 + 16 =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي