الحرب الأوكرانية وموازين القوة الدولية

3
​​​​​​​​​د. يوسف مكي
قرابة ستة عشر شهرا مضت، منذ اطلقت روسيا العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا، والسجال لا يزال محتدما حول مشروعية، أو عدم مشروعية هذه الحرب. والمشروعية هنا تبدو كلمة مجردة، وخاضعة للمصالح والهوى والرغبات، وليست لها علاقة بما يعرف بشرعة الأمم، أو مبادئ القانون الدولي، ولكنها محكومة بقوانين القوة وتوازناتها.
الأهداف الحقيقية للحرب، هي من أبعد القضايا التي يتناولها المؤيدون والمعارضون على السواء. فهي ليست مجرد دفاع عن حقوق الناطقين بالروسية في اقليم دونباس بأوكرانيا، كما أعلنت الإدارة الروسية، في الأيام الأولى للعملية العسكرية الخاصة، وليس بالإمكان اختزالها في أنها عدوان روسي على بلد مستقل، لأن الأمور هي أعقد من ذلك بكثير. والصراع بين روسيا وأوكرانيا لم يبدء مع العملية الخاصة، بل يسبقه بعدة أعوام. وقد عملت الدول الأوروبية باستمرار على استثماره.
في 5 سبتمبر/ أيلول عام 2014، وإثر مشاورات مكثفة، وقع ممثلون عن الاتحاد الروسي، وجمهورية دونيتسك الشعبية وجمهورية لاوهانسك الشعبية، ومنظمة التعاون والأمن في أوروبا على بروتوكول مينسك ببلاروسيا، لوقف القتال في دونباس, وتلى ذلك، توقيع اتفاق في 12 فبراير/ شباط تضمن حزمة جديدة من الإجراءات، لوقف القتال، وبشكل فوري في دونباس.
شمل البروتوكول الأول، تعهدا بضمان وقف فوري لاطلاق النار بين السلطة المركزية في كييف، ومواطني اقليم دونباس، مع ضمان المراقبة والتحقق من ذلك، من قبل منظمة الأمن والتعاون في أوروبا. وأقر الاتفاق المذكور، لا مركزية السلطة، من خلال اعتماد القانون الأوكراني”بشأن النظام المؤقت للحكم الذاتي المحلي”، في مناطق معينة من اقليم دونباس. وتضمن الاتفاق أمورا مطولة أخرى، لا مجال لتفصيلها في هذه العجالة.
السؤال الذي يطرح في هذا السياق، لماذا لم تلتزم أوكرانيا ببنود بروتوكول مينسك، وكيف تم الضرب به عبر الحائط، ليس فقط من قبل الحكومة الأوكرانية، بل وأيضا حلفائها في الغرب. والإجابة على السؤال تحمل الكثير، من التفسير عن أسباب العملية العسكرية الخاصة التي أطلقتها روسيا.
الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، يقول صراحة، إن معاهدة مينسك كانت لصالح روسيا، وأن التوقيع عليها كان تعبيرا عن حالة ضعف لدى الجانب الأوروبي. وأنها لذلك لم تعد صالحة الآن. وهو قول يجيز نسف المعاهدات، التي اكتسبت طابعا أمميا، تحت ذريعة أن توازنات القوة قد تجاوزتها، وأنها باتت من الماضي.
القراءة الموضوعية، تقول بغير ذلك، بل
العكس هو أقرب للصواب، فروسيا التي قبلت بنصوص الاتفاقية عام 2014، هي غير روسيا اليوم. فقد راكمت خلال السنوات المنصرمة، بعد ضم شبه جزيرة القرم لأراضيها، قوة عسكرية ضاربة، تتحدى في مجال الطائرات والصواريخ فرط الصوتية، الولايات المتحدة. وقد أعادت بناء اقتصاداتها بشكل سريع، وتجاوزت، إلى حد كبير، الواقع المأساوي الذي مرت به روسيا، إثر سقوط الاتحاد السوفياتي. والأمريكيون وحلفاؤهم الأوروبيون، يدركون ذلك تمام الإدراك. ويعلمون أن أوكرانيا ليس لها قبل على مواجهة القوة الروسية، التي أعدت في الأصل لمواجهة أمريكا وأوروبا بأسرهما.
الجواب هو أن روسيا والغرب، يحاربان الآن على الجبهة الأوكرانية لأسباب لها علاقة بتوزنات القوة. تطمح روسيا بقوة، إلى أن تصبح قوة تضاهي في حضورها العسكري والسياسي، وتعمل على صباعة نطام دولي جديد تكون قطبا أعطم فيه، وتعمل الولايات المتحدة، وحلفائها على تثبيت الوضع القائم، في توازنات القوة الدولية، منذ سقوط الاتحاد السوفيتي، الوضع الذي الغى النظام الدولي المتعدد الأقطاب، وكرس احتكار الأمريكيين الهيمنة على المؤسسات الناظمة للعلاقات الدولية.
الرصد الدقيق لواقع توازنات القوة الدولية، يؤكد أن مرحلة القطب الواحد باتت من الماضي. وأن عدم تسليم الولايات المتحدة بهذه الحقيقة، لن يغير من واقع الأمر شيئا. فقد برزت الصين الشعبية، كقوة اقتصادية رائدة، لا تضاهيها قوة أخرى بالساحة الدولية. وتعمل جاهدة، على حرمان أمريكا من جوهر قوتها الاقتصادية، المتمثل في فرض الدولار كعملة وحيدة بالأسواق الدولية، وذلك من خلال التعامل المباشر مع الدول بالعملات المحلية. ومن جهة أخرى تبني قوتها العسكرية وتعلن عن عزمها على استعادة جزيرة تايوان، بالوسائل السلمية، إن أمكن، وبوسائل أخرى إن تعذر ذلك.
خلاصة القول، أن النظام الدولي الجديد، بات أمرا واقعا ومسلما به، وهو ثلاثي الأضلاع، أمريكي صيني روسي، ولم يعد سوى انتهاء حالة الانكار، والوصول إلى موسم التسويات. وإلى أن يحين هذا الموسم، سيشهد العالم، انفلات أمن، وتوترات وحروب، ليست الحرب الأوكرانية سوى واحدة منها، مجسدة سعي مختلف الفاعلين في صناعة القرارات الأممية تحسين أوضاعهم في معادلة توازنات القوة.

التعليقات مغلقة.

د.يوسف مكي