وماذا بعد؟!

0 176

بعد ثلاثة أسابيع من حرب الإبادة، أوقف الصهاينة مجازرهم بحق أهلنا في غزة، وكشفت نتائجها المبكرة للقاصي والداني فظاعة وهول ما جرى من خراب وتدمير، ووحشية ما تعرض له المدنيون العزل، الذين بقيت جثامين أعداد كبيرة منهم تحت الأنقاض حتى “وقف إطلاق النار”. وأثبتت غزة ببسالتها وصمودها الأسطوري، وعشقها للحياة والكرامة، أن الحضور الحقيقي للأمة يكون حيث توجد المقاومة.

 

وخلال العدوان حاولنا قدر ما هو متاح لنا، أن نناقش أهدافه ومخاطره على الأمن القومي العربي الجماعي، وأن نعري دور الاستراتيجيات الكونية التي يراد فرضها في منطقتنا العربية، وفي إعادة صياغة الجغرافيا السياسية للمنطقة بأسرها.

 

ورغم أن الوقت لا يزال مبكرا للحديث عما هو قادم، خاصة أن الأمة بشكل عام والفلسطينيين بشكل خاص، لا يزالون منشغلين بلملمة جراحاتهم، وتجميع أشلاء شهدائهم، وتضميد جرحاهم، فإن من الأهمية التنبه بيقظة وحذر لما هو قادم، يسعفنا في ذلك، الانطلاق من مقدمات صحيحة في قراءة الصراع وتهجي مفرداته، ووضعه في سياق موضوعي ضمن خارطة الاستراتيجيات الكونية، التي بدأ التبشير بها، والعمل على تنفيذها منذ عدة عقود.

 

في الأحاديث الثلاثة السابقة، ركزنا كثيرا على أهداف حرب الإبادة في غزة، وأشرنا إلى أنها تأتي متماهية تماما مع المشروع الشرق أوسطي الجديد، وفكرة الوطن البديل، وسلخ قطاع غزة عن الضفة الغربية، والتنكر لحق العودة، ورفض فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة على الأراضي التي احتلها الكيان الصهيوني في حرب حزيران/ يونيو عام 1967، بل واستثمار الضفة الغربية كركن أساس في التسلل الصهيوني، الاقتصادي والسياسي لعموم الوطن العربي، واعتبارها أيضا معبرا بريا لربط الكيان الغاصب بقارات آسيا وأفريقيا وأوروبا.

 

ولاشك أن تنفيذ مشاريع التصفية يقتضي في أبسط أبجدياته تركيع مقاومة الشعب المحتل، وإزالة جملة المصدات التي تعترض سبيل الإخضاع. ومن أجل التمهيد لتحقيق ذلك، وفي ظل عجز عربي، جرى شن عدة حروب، وأغرقت البلدان العربية في أتون حروب أهلية، واحتل العراق وشنت الحرب على المدن الفلسطينية قاطبة في الضفة والقطاع، وجرى توقيع كامب ديفيد وأوسلو ووادي عربة، واغتيل الرئيس الفلسطيني، ياسر عرفات، وشنت حرب يوليو عام 2006م على لبنان، وقام العدو بحملات إبادة منهجية ومنظمة للمدن والبلدات الفلسطينية، وبنيت المستوطنات وجدران الفصل، أملا في خلق حالة يأس وإحباط في الواقع الفلسطيني والعربي، تسهم في تعبيد الطريق لاستسلام العرب جميعا، وتصفية القضية الفلسطينية، نهائيا وإلى الأبد. وجاءت مجزرة غزة هذه لتمثل الذروة في العربدة والغطرسة الصهيونية، وصولا لتحقيق الهدف الأساس: التركيع والاستسلام والنصفية النهائية لقضية تحرير فلسطين، وحرمان شعبها من حقه في تقرير المصير.

 

لقد توالت تصريحات الصهاينة أثناء العدوان، مسؤولين وكتابا، وقد غطتها الصحف الإسرائيلية، مؤكدة سلامة تحليلاتنا، واستنتاجاتنا السابقة بشأن الهدف الحقيقي من العدوان. وكم تمنينا لو تتيح لنا المساحة تغطية هذه التصريحات وقراءتها، بعمق وتمعن، لكن ذلك على أية حال، ليس بالمتاح أو المستطاع. ولذلك نكتفي بانتقاء عدد منها، باعتبارها نمطا من الكتابات التي يجري تعميمها في الأدبيات والإعلام الصهيوني، ولأنها تمثل طريقة تفكير العدو. وهي مهمة لازمة، لا غنى عنها إذا ما أريد لنا استلهام وعي الضرورة، والتهيؤ بكفاءة وجدارة لمتطلبات المواجهة العربية مع المشروع الصهيوني في المرحلة القادمة.

 

في حديثه عن الخلفيات والأهداف الاستراتيجية للعدوان على غزة، أشار الكاتب مايكل شوسادوفسكي إلى أن “الحرب الإسرائيلية على عزة هي جزء من إستراتيجية سرية، صاغها مستشار الحكومة الإسرائيلية في حكومة شارون، والمنسق الأمني والمخابراتي بين الحكومتين الأمريكية والإسرائيلية، ورئيس جهاز الموساد حاليا، داجان. وقد تمت صياغة هذه الإستراتيجية عام 2001. ووفقا لهذه الخطة فإن ما تهدف له الإستراتيجية الإسرائيلية من هذه الحرب هو تدمير السلطة الفلسطينية، كخطوة ضرورية لمنع قيام دولة فلسطينية مستقلة، وتحويل أراضي القطاع والضفة إلى كانتونات منفصلة عن بعضها، وفصل الضفة الغربية نهائيا عن قطاع غزة، وضمان بقاء حكومتين متصارعتين إحداهما في رام الله والأخرى في قطاع غزة، حتى يتم استكمال تطبيق المشروع الصهيوني على كافة الأراضي الفلسطينية، والمتمثل في تنفيذ الطرد الجماعي للفلسطينيين، وتهجيرهم من غزة إلى مصر، وإعادة إلحاق الضفة بالأردن. وأشار الكاتب، إلى أن هدف هذه الحرب يأتي في إطار تحقيق موقف الإرهابي شارون الهادف إلى إيجاد وطن آخر للفلسطينيين، يقيمون فيه خارج إطار فلسطين التاريخية. وفي هذا السياق، جاء اغتيال الرئيس الفلسطيني، عرفات عام 2004، بموافقة أمريكية، ليجرد الفلسطينيين من قائد تاريخي حظي بإجماع شعبي حوله، وتم بناء جدار الفصل العنصري.

 

أما إيهود بارك، رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق، ووزير الحرب حاليا، فقد أكد في تصريح نشرته الصحف الإسرائيلية، أن العدوان الأخير ليست له علاقة بإنهاء حركة حماس للتهدئة، وأشار إلى أن قرار الحرب تم اتخاذه قبل ستة أشهر، وأنه محصلة أكثر من عام ونصف العام من الإعداد والتخطيط والتدريب.

 

إن تصريح باراك يعيدنا دون شك إلى الحرب الإسرائيلية على لبنان عام 2006، وإلى نتائجها الكارثية على العدو الصهيوني، كما يعيدنا إلى نتائج تحقيقات لجنة فينوجراد التي أعلنت صراحة تراجع أسطورة الجيش الذي لا يقهر. وقد اعترف التقرير المذكور بوجود أخطاء وإخفاقات خطيرة في عملية صنع القرار “الإسرائيلي”، وفي التحضير للحرب على المستويين السياسي والعسكري وغياب التفاعل بينهما. كما اعترف بوجود إخفاقات خطيرة على مستويات القيادة العليا للجيش، ومستوى استعداد وجاهزية القوات، وتنفيذ الأوامر… كما أكد التقرير على وجود إخفاقات خطيرة على مستويات القيادة من حيث غياب التفكير والتخطيط الاستراتيجي… وأن “إسرائيل” لم تستخدم قوتها العسكرية بحكمة، وعلى نحو مؤثر.

 

جاءت هذه الحرب، إذن في جانب رئيسي منها، استكمالا لحرب يوليو 2006 في لبنان، كمناورة عسكرية، وبالذخيرة الحية ضحاياها الأطفال والنساء والشيوخ والمدنيين العزل لتعيد لآلة الحرب الصهيونية ومؤسساتها اعتبارها وحضورها. وقد جاء خطاب رئيس الحكومة الإسرائيلية، إيهود أولمرت الأخير الذي أعلن فيه وقف إطلاق النار من طرف واحد في غزة، ليؤكد من جديد استجابته لقرار لجنة القاضي فينوغراد، حيث أعلن بوضوح أن الجيش الإسرائيلي قد تفادى جملة الأخطاء التي وقعت له أثناء حربه التي أشرها التقرير المذكور، وأن التنسيق كان كاملا ومتناسقا بين العناصر السياسية والعسكرية في المؤسسة الإسرائيلية.

 

الكاتب المعروف كريس هيدجز، كتب مقالا مهما عنوانه “لغة الموت”، أوضح فيه أن هدف الهجوم على غزة هو خلق كانتونات، أو بالأصح غيتوهات فلسطينية يكون بمقدور إسرائيل دوما شل الحياة فيها، وتمنع عنها الدواء والغذاء ومقومات الحياة. وأشار إلى أن الهجوم على غزة هو بهدف القضاء نهائيا على إمكانية قيام دولة فلسطينية. إن مشاهد الأطفال الفلسطينيين القتلى الموضوعة جثامينهم في صفوف على الأرض في المستشفى الرئيس في غزة، هو رمز للمستقبل. فمن الآن فصاعدا، لن تتعامل “إسرائيل” مع الفلسطينيين إلا بلغة القوة والموت”. وتأتي في هذا السياق أيضا، دعوة جون بولتون التي تعرضنا لها في الحديث السابق، لطرد الفلسطينيين إلى مصر والأردن. وباتساق مع هذه الدعوة كتب الصحفي الأمريكي، دانيال بايبس، مقالة طالب فيها بإلحاق قطاع غزة بمصر، والعودة إلى الخيار الأردني بالنسبة إلى الضفة الغربية. وتضامن الصحفي الأمريكي سينجلر مع هذه الدعوة فأشار إلى وجود حلين لا ثالث لهما لمعالجة الوضع في غزة، إما ترحيلهم عنها، أو تركهم يواجهون القتل. إن ما يحتاجه الشرق الأوسط من وجهة نظر هذا الكاتب، هو مزيد من القتل، وليس أقل. هذا يبدو مرعبا، لكنه الحل الواقعي الأوحد.

 

هذا هو ما يعلنه الصهاينة صراحة عن أهدافهم، فهل على العرب أن ينساقوا لدعوات الانكفاء والاستسلام والتهدئة، ونزع سكاكينهم وشفرات حلاقتهم. ما بعد غزة لن يكون بردا أو سلاما، والعرب والفلسطينيون أمام خيارين لا ثالث لهما: إما مواجهة القتلة والتهيؤ منذ الآن لمواجهة لا شك قادمة، أو القبول بمشاريع التصفية ونزع السلاح، والتسليم بشروط العدو الغاشم. بمعنى آخر، إما الاستسلام والخنوع والعبودية، أو خيار الحياة بجدارة واستحقاق، والوفاء لدماء الشهداء وأنين الثكالى… خيار غزة الصامدة…

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

عشرة − ثلاثة =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي