ملاحظة:
هذه المقالة هي جزء من دراسة مطولة مكونة من خمسة فصول تحت عنوان “في الوحدة والتداعي: دراسات في الهوية والتواصل والوحدة وأسباب انتكاسة مشاريع النهضة العربية” ستنشر تباعا على صفحات هذا الموقع، قبل صدورها في كتاب مطبوع.
الفصل الأول
وعي الهوية العربية منظور تاريخي
تعرف هذه المقالة الهوية بأنها الخصائص التاريخية واللغوية والنفسية التي تؤدي إلى الفصل بشكل حاسم بين جماعة من الناس وأخرى. وتنتج هذه الخصائص عن عاملين رئيسيين: الأول، داخلي يتمثل في تقاليد ومواريث تراكمت عبر حقب تاريخية ممتدة. والثاني، خارجي يعكس تفاعل الأمة مع وضع عالمي فوار متغير، مفرزا موجات ثقافية متعددة ونماذج حضارية مختلفة، ينتج عنها ردود فعل ذاتية تفرض التعامل بخصوصية مع تلك التقاليد، مانحة إياها هوية جديدة.
وهذا يعني أن الهوية القومية نتاج تاريخي وجغرافي، يمثل التاريخ اتجاهها الرأسي، الصاعد إلى الأمام، منتقلا في أشكال تراثية ومدلولات إجتماعية وثقافية إلى الأجيال الجديدة، أو مشكلا هذه الأجيال ضمن خلفية اجتماعية متماثلة. في حين تمثل الجغرافيا، إمتداداتها الأفقية، كونها في تكويناتها وتشكيلاتها لا تنطوي على عناصر داخلية فقط، بل على اسهامات إنسانية محلية وعالمية وتفاعل مع حضارات وثقافات أمم وشعوب أخرى.
فالهوية إذن، لا تتكون نتيجة الرغبة في العيش والبناء المشترك، ولكن نتيجة للعيش في ظل وضع موضوعي أنشأه التاريخ، ولوجود عوامل موضوعية عديدة سابقة فرضت نفسها على الرغبة في العيش المشترك، وشكلت خصوصية اجتماعية لمجموعة من البشر، كونت وطورت ثقافات وتقاليد وعادات، وأنشأت لغة خاصة بها لتفصل بشكل حاسم بينها وبين الأمم الأخرى.
وعلى هذا الأساس، فإن الهوية ليست شيئا ساكنا، كونها نتاج حركة وتعاقب، ولذلك تتجدد كما تتجدد اللغة والمواريث. ولأن هذه الدراسة متحيزة بطبيعتها للوعي، ولقضايا النضال القومي، فإنها من خلال هذه المفاهيم، تطمح في متابعة الحركة والتعاقب بإلقاء الضوء على تطور وعي العرب لهويتهم من المنظور التاريخي، باعتبار ذلك مسألة مهمة وحيوية على طريق وعي الذات واستنهاض الأمة.
ارهاصات جنينية
مع أن الوجود العربي موغل في القدم، فإن الإشــارات له لم ترد إلا في فترة متأخرة نسبيا، حيث وجدت في نقوش آشورية ترجع إلى الفترة مابين 857 ق.م إلى نهاية القرن السابع ق.م. وتشير تلك النقوش إلى تواجد العرب على طرق التجارة في بادية الشام بين الفرات والعقبة وحول دومة الجندل، وثمود وسبأ، وتتحدث عن ملكات وملوك وكيانات تجارية حربية. ومع أن الباحثين اختلفوا حول الموطن الأصلي للعرب إلا أن الإتجاه السائد لدى المؤرخين أن الجزيرة العربية كانت منشأهم، ومنها انتشروا إلى المناطق المجاورة.[1][1] ومنذ البداية شكلت اللغة العربية عاملا حاسما في الفصل بينهم وبين الأقوام الأخرى. وأصبح التمييز بين العرب وغيرهم معتمدا على اللغة، ولذلك اعتبر من لم يتكلم العربية أعجميا.[1][2]
ومنذ القرن السادس الميلادي ظهر الخط العربي، وبدأ استعماله في الكتابة. وكان العرب قبل ذلك يستعملون خط المسند والآرامي، لكن بداية النهوض العربي ارتبطت باليقظة التي شهدتها جزيرة العرب وتلازمت ببزوغ الدعوة الإسلامية. ولذلك اعتبرت الجزيرة العربية من وجهة النظر الحضارية، مهد البداية، والمكان الذي شهد تأسيس أول دولة مركزية للعرب، وقد عرفت في التاريخ بجزيرتهم. ولم يكن لأهلها لغة سوى العربية. وحين جاء الإسلام دخل في حضارته جل تراث القوم.[1][3]
دارت حياة العرب قبل الإسلام حول محورين رئيسيين. الأول، المناخ وطبيعة الإرض. فقد كان المناخ قاسيا جدا معظم العام، فالشمس لافحة والحرارة مرتفعة، وتشكل الصحاري والبوادي والسهول وقلة المياه الطابع الديموغرافي العام للبلاد. وبالقدر الذي قست فيه العوامل المناخية والطبيعية بحق البلاد، فإنها لعبت دورا إيجابيا في حمايتها من الغزو الخارجي. وساعد على ذلك كونها محاطة بالبحر من ثلاث جهات, كما أبقت هذه العوامل للبلاد نقاءها. وقد عاش السكان في واحات تمركزت في القلب من الصحراء بعيدا عن متناول الطامعين والأعداء. وكان شظف العيش مصدر فتوة وتجدد دائم رافد لمجتمعات الشمال، فقد استمرت الهجرات من البادية والواحات المحيطة بها إلى المناطق الغنية، حيث خصوبة الأرض ووفرة المياه وتوفر أسباب الحضارة.[1][4]
أما المحور الثاني، فهو الموقع الإستراتيجي للبلاد في العالم القديم، والذي أصبح مركزا مهما لمرور التجارة الدولية، مما أتاح لأهلها أن يبدعوا كوسطاء في تلك التجارة، ومكنهم من السيطرة على طرقها لفترات طويلة. وكان ذلك عاملا أساسيا في رخاء القوم. كما ساعد وجود مراكز مرور في القلب من الجزيرة على نمو التجارة الداخلية. وقد حققت أسواقها حالة من التواصل بين المجتمعات العربية ووثقت عرى الروابط الاجتماعية، وساعدت على قيام لغة أدبية مشتركة.[1][5]
كان موقع الجزيرة العربية قد جعل العرب يعيشون وسط العالم، وبين قاراته القديمة، آسيا وأفريقيا وأوروبا، فقد احتضنت ضفتا البحر الأحمر، من الشرق جزيرة العرب في آسيا، ومن الغرب مصر والسودان في أفريقيا. ولامست شواطئ البحر الأبيض المتوسط، الذي تمتد سواحله وخلجانه في قارات ثلاث: آسيا وافريقيا وأوروبا، عديدا من الأقطار العربية من جهتي الغرب والشمال. وكانت نتيجة ذلك أن أصبحت البلاد في القلب من الحضارات القديمة: يونانية وفارسية وهندية وبيزنطية، مما جعلها عرضة لمؤثرات عديدة، مستمرة ومتصلة منها.
ومنذ الألف قبل الميلاد، شكل العرب كيانات مستقلة عديدة خاصة بهم، صمدت لحقب طويلة رغم ما تعرضت له من ضغوط، ومن محاولات الدول الكبرى المجاورة للهيمنة عليها. وقوى ذلك الصمود نزعة التحرر وروح الاستقلال في نفوس أبناء هذه المنطقة. وترافق ذلك مع روح البداوة، بكل ما تمثله من مورثات عشائرية وقبلية، وما تتطلبه من عمل دؤوب في سبيل الحصول على الكلأ والماء. وأدى ذلك إلى بروز ظاهرة المشاحنات والمنازعات من أجل تأمين المياه والمراعي. وعلى الرغم مما نتج عن تلك الصراعات من ظواهر سلبية، فإنها أفرزت فضائل يعتد بها العربي حتى يومنا هذا، كالفروسية والشجاعة والمروءة والتمسك بقيم ومثل مشتركة. ومن خلال هذا الواقع، تبلور نظام اجتماعي قائم على أساس الولاء والعصبية للقبيلة، دون أن يحجب ذلك الشعور بانتماء أكبر إلى أرض ولغة وثقافة مشتركة، عبر عنه بشكل مختزل بالانتماء إلى العربية.[1][6]
وفي ظل تلك العصبية، استقرت العربية لغة وحيدة للقوم، شمل التحدث بها عموم أرجاء الجزيرة العربية والتخوم الجنوبية للعراق والشام، بالحيرة وبادية الشام. وساهم بروز الخط العربي في انتشار الأدب من شعر ونثر في عموم البلاد، مما نتج عنه خلق روابط ثقافية واجتماعية عميقة بين القبائل العربية.
وحين جاء الإسلام وامتدت رقعة بلاد العرب، وبالتالي حضارتها، بفعل الفتوحات العربية الإسلامية، لتشمل أجزاء كبيرة من آسيا وأفريقيا، أصبح المجتمع العربي أكثر تأثرا بالتيارات الفكرية المحيطة والوافدة، خاصة أن كثيرا ممن اعتنقوا الدين الجديد من عناصر مختلفة الانتماء، هوية وتوجهـا، حملوا معهم بعضا من معتقداتهم وثقافاتهم وسابق تراثهم. وقد أصبحت تلك التيارات الفكرية عامل تحد وإخصاب وتجديد ساهمت في إثراء الثقافة العربية، ولم تكن عامل تضارب وتعارض وانقطاع في البنيان العربي.
وفي الفترة التي سبقت بزوغ فجر الإسلام، حاولت القوى الخارجية، بيزنطية وساسانية وحبشية النيل من الجزيرة العربية بالاعتداء على أطرافها. وإثر سقوط مملكتي الغساسنة والمناذرة، بدأت المواجهات المباشرة بين الإمبراطوريات المجاورة وبين القبائل العربية. وحين بزغ الإسلام، لم يكتف العرب بأن يضعوا حدا، وبشكل حاسم، للمحاولات الخارجية للهيمنة على جزيرتهم فحسب، لكنهم قاموا بتقويض تلك الإمبراطوريات، حين اقتحمت جيوشهم، في موقعتي اليرموك في مواجهة البيزنطيين، والقادسية في مواجهة الفرس، أرض الشام والعراق. ولم تنته تلك المعارك إلا بسقوط الإمبراطوريتين. وكانت نتيجة ذلك توسع الرقعة العربية، واندفاع العرب في تأسيس حضارتهم بسرعة قل أن يوجد لها نظير في التاريخ. وكانت للعوامل الروحية آثارها التي لا يستهان بها في اندفاع القوم، ذلك أنهم كانوا يتحركون في سبيل نشر دين الإسلام.. الذي هو دعوة إلى التوحيد وثورة على الوثنية، وانطلاقة عالمية، ورسالة حضارية.
على أنه مهما يكن من أثر للعوامل الروحية، فإن ذلك لا يلغي وجود عوامل موضوعية أخرى تساهم في إذكاء الموروث وتحفيز القوم للعب دورهم الحضاري، فالحضارات الإنسانية لا تنشأ من فراغ، وليست مقطوعة الجذور عن إرث وتراكمات الماضي. ومكونات التحفز الحضاري لأي أمة من الأمم لا تنشأ بين ليلة وضحاها، إنما تتشكل تلك المكونات وتتعزز بفعل عوامل موضوعية، تأخذ صفة التراكم، وضمن سياق متصل. وحين تبرز ظروف مواتية لكي تختبر تلك المكونات، تنفجر تلك العوامل دفعة واحدة، محدثة تغيرات أساسية وعميقة في بنى المجتمع، بما يؤدي إلى انعطاف حاسم وشامل في منظومة علاقاته وهياكله. بمعنى آخر، التحولات النوعية في المجتمعات البشرية نتاج مجموعة من التراكمات التي تختمر في المجتمع، وتتفاعل فيه مؤدية إلى حدوث خلل في التوازن في الصراع بين القديم والجديد، منتظرة فرصتها التاريخية لإحداث التغيير الحضاري المطلوب.
وعلى هذا الأساس، فإن دراسة تطور أي من الحضارات الإنسانية، تستوجب في مقدماتها استيعاب الخلفية التاريخية لتلك الحضارة، والعوامل التي أدت إلى انبثاقها، والزمان والمكان اللذين نشأت فيهما. ذلك لأن حالات التكون والنشوء والتقدم والانكفاء رهن لشروط موضوعية، بعضها داخلي يرتبط بمستوى النمو الاجتماعي والاقتصادي والحضاري، والبعض الآخر خارجي، كعوامل القسر والتأثير والتفاعل المتبادل بين الأمة ومحيطها الذي تتعامل معه، بما يؤثر سلبا أو إيجابا على حركتها، والدولة في فصل المقال، كما عرفها ابن خلدون “تعبير عن عصبية ما”.
ركز العلامة ابن خلدون في مقدمته على دور العصبية في نشوء الأمم وعمرانها. وقد اقترب المؤرخ البريطاني ارنولد توينبي من ذلك كثيرا بإشارته إلى أن التحديات والأخطار التي تواجهها الأمم تصبح دافعا رئيسيا لها لاستنهاض إرثها ومخزونها الحضاري. وعلى هذا الأساس فإن استمرارية حيوية أية حضارة وقوتها مرتبطة بالشعور بالتحدي، وبنوعية الاستجابة والتحفز المطلوبين لمواجهته.
من هذه المسلمات، سيجري التعرف على المراحل والكيفية التي تطور فيها وعي العرب لهويتهم، منذ قيام سلطة مركزية تجمعهم حتى العصر الحديث.
التكون والتأسيس
بدأ وعي العرب بذاتهم في التشكل قبل الإسلام بوقت ليس بالقصير، وعبروا عن ذلك في شعرهم ونثرهم. وكانت لهم علاقات تجارية وسياسية وثقافية بالحضارات التي قامت من حولهم. وساعدهم ذلك في الإطلاع على الديانات والعقائد التي سادت في عصرهم. وقد استقر في وعيهم أن أنسابهم دليل هويتهم، ومن هنا منحوها عنايتهم المبكرة. بمعنى أن الوعي كان محكوما بالانتماء للعشيرة والقبيلة. وحين جاء الإسلام، أصبح عند العرب اعتدادا بدورهم فيه. وغدت اللغة العربية قاعدة هويتهم، وكانت الثقافة العربية الإسلامية والتراث الديني محتوى ذلك الانتماء.
كان صدر الإسلام فترة شهدت قفزات حضارية كبرى بالنسبة للعرب. وقد نزلت الرسالة الإسلامية، في الحجاز بمكة المكرمة. وحين هاجر الرسول إلى يثرب انتقل مركز الدعوة للمدينة المنورة، وبها بدأ الاستقرار السياسي والاجتماعي للحضارة الوليدة بالتعزز. واثر انتهاء مرحلة الخلافة الراشدة انتقل مركز الحكم إلى بلاد الشام، وأصبحت دمشق عاصمة للخلافة العربية ابتداء من عهد الخليفة الأموي معاوية بن أبن سفيان. ويشير الدكتور عبد العزيز الدوري إلى أن الإسلام أول من أدخل فكرة الأمة لدى العرب حيث يقول
أدخل الإسلام فكرة الأمة، تربطها العقيدة، ووضع الرسول (ص) أسسها وتنظيمها، والأمة تضم تضم شعوبا وقبائل. وبقي مفهوم الأمة راسخا واستمرت الأمة محور الفكر والتعامل في دار الإسلام. ولكن وحدة الأمة سياسيا لم تتحقق إلا في فترة قوة العرب.[1][7]
ومن وجهة النظر هذه، ليس شرطا أن يتطابق وجود الأمة مع وجود سلطة موحدة، فقد بقي العرب ينتمون إلى أمة واحدة، منذ بزوغ الإسلام، واستمرت الأمة قائمة رغم ما اعتراها من وهن وضعف وتمزق. وبقي التوق إلى تطابقها مع الوطن أملا ومحرضا.
ويعتبر انتقال مركز الخلافة من قلب الصحراء في الحجاز إلى الشام نقلة نوعية فرضتها طبيعة التطورات السياسية والاجتماعية التي عاشها العرب في تلك الفترة من تاريخهم. لقد كان وجود المركز في قلب الصحراء مناسبا للمرحلة الأولى التي تقتضي تمترسا خلف الحصون من أجل تأمين حالة الدفاع عن النفس. أما وأن العرب حسموا أمرهم وبدءوا فعلا بمنازلة الإمبراطوريات المجاورة، واقتحمت جيوشهم أرض فارس والشام ومصر، أصبح بديهيا، أن يتأثروا بجاذبية شواطئ البحر وجمال الطبيعة، وتتشذب عصبيتهم. فينتقلوا من حال البداوة والعصبية إلى حال العمران.
والحقيقة أن مركز الخلافة، في سعيه الحثيث من أجل إقامة دولة إسلامية مترامية الأطراف وحضارة قوية، اتخذ موقفا سلبيا من البداوة، وشجع على الإستقرار والحياة المدنية، بما في ذلك الحث على القراءة والتعليم، حيث جعلهما من لوازم العقيدة مؤكدا أن طلب العلم فضيلة ولو كان في الصين. وقد وضعت تلك البداية الأسس للحياة الثقافية في الحضارة الفتية. كما شجع مركز الخلافة على الهجرة من الجزيرة إلى الأمصار المجاورة، مما أدى إلى انتشار العرب في مناطق الفتوح الإسلامية. وكان من نتيجة ذلك إنشاء عدد كبير من المراكز والمدن الجديدة في دار الإسلام. وقد أثر ذلك بشكل بارز في تكوين الأمة وتعزز دورها الحضاري.[1][8]
ومع انتقال العرب من حال العصبية إلى حال العمران بدأ النضج الثقافي والحضاري للأمة يأخذان مكانهما، حيث تم وضع أصول الدراسات العربية والإسلامية، ورسخت قواعد التعريب الإداري والثقافي في عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، ومن بعده ابنه الوليد بن عبد الملك. وأثناء العصر الذهبي للحضارة العربية، خلال حقبة العباسيين، نمت الدراسات العربية الإسلامية، بإضافة علوم الأولين من فلاسفة وحكماء عن طريق الترجمة، وأخذ العلماء ينفتحون على الفكر الإنساني العالمي وينهلون من معينه، فجرى التعرف على فكر الإغريق وفلاسفتهم، واستوعب منهج أرسطو في التحليل وفلسفة سقراط وأفلاطون ونظريات ارخميدس.. وأخذ العرب يبدعون في علوم الفلسفة والكيمياء والحساب والجبر والطب وعلم الفلك، ويقارعون بالحجة خصوم الإسلام وأعدائه. وقد شارك في تلك النهضة العرب والمستعربون على قدم المساواة. وفي عهد الأمويين والعباسيين بقيت الثقافة عربية اللغة والتراث، وظلت السلطة طيلة فترة الخلافة بيد العرب. وذلك أمر بديهي، فالعرب هم الذين رفعوا راية الإسـلام، واقتحموا بجيوشهم أمم الأرض، وكونوا دولة مترامية الأطراف. وهم الذين عن طريقهم انتشر الإسلام إلى حيث شاءت إرادة الله..[1][9]
وكان نزول القرآن الكريم باللسان العربي المبين، وحمل العرب راية الإسلام في المراحل الأولى لبزوغ فجره، واقتران أمجاده وانتصاراته بهم، ووضع أصول الشريعة والفقه بثقافتهم ولغتهم، وكون جل علمائه ومفكريه في صبح تأسيسه منهم، أعطى العرب دورا مركزيا ومميزا في مسيرة الإسلام عبر العصور. وقد بقيت اللغة العربية مرجعا يستلهم منها المسلمون المبادئ والمثل والشريعة. وبالمثل، توحد العرب بالإسلام، لأول مرة في تاريخهم، وبه كونوا أول دولة ضمتهم جميعا، هي دولة الخلافة، استمرت فترة تجاوزت القرنين، قبل أن يبرز فيها تأثير الأجناس غير العربية.[1][10]
ومع أن دعوة الإسلام نادت بالمساواة بين البشر، إذ لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى، فإن بعضا من المفاهيم القبلية بقي لها شأن في الحياة العامة في زمن الخلافة الأموية. ووجد بعض القوم في نصوص وإيماءات صدرت عن الرسول، فسرت خطأ، مبررا لاستمرار تلك المفاهيم التي أدت إلى بروز حالة من الاستعلاء العرقي في نفوسهم، مثل رواية أبي يعلى: (إذا عز العرب عز الإِسلام) وما رواه الطبري من أنه لما بلغ الرسول انتصار العرب على الفرس في يوم ذي قار قال: (هذا يوم انتصف فيه العرب من العجم وبي نصروا).
وفي غمرة تزاحم الأحداث واستمرارية ثبات البناء العشائري والقبلي في المجتمع العربي، جرى نسيان نصوص أخرى، عبرت عن موقف حضاري متقدم، مثل قول الرسول في معرض دفاعه عن ثلاثة من أعلام الإسلام، بلال الحبشي وسلمان الفارسي وصهيب الرومي: (إن الرب واحد والأب واحد، وأن الدين واحد، وليست العربية بأحدكم من أب ولا أم، وإنما هي باللسان، فمن تكلم العربية فهو عربي).[1][11]
وقد بلغت حالة الاستعلاء في عهد بعض الخلفاء الأمويين حد مواصلة أخذ الجزية على من أسلم من غير العرب. واستمر ذلك منذ عهد الخليفة هشام بن عبد الملك حتى تم إلغاؤها على يد الخليفة عمر بن عبد العزيز مشيرا في ذلك إلى أن الله بعث محمدا هاديا لا جابيا.[1][12]
وابتداء من عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك تم فرض اللغة العربية لغة رسمية في جميع المراكز والثغور الإسلامية. وكان الأمويون قد انتهجوا سياسة عدم تمكين المسلمين غير العرب من تسلم الوظائف المهمة في الدولة، مما عنى استمرارية سيادة قوانين القبيلة، وأن العصبية بقيت قوية لفترة ليست بالقصيرة بعد ظهور الإسلام.[1][13]
وفي البنية التحتية للمجتمع، ساد بعض أوساط العرب شعور بالاستعلاء على الشعوب الأخرى. وجرى التعبير عن ذلك بالتأكيد على تغليب فكرة النسب كرابطة اجتماعية، مما أربك مفهوم الانتماء إلى الأمة في الحياة العامة. وحين أعطت القبائل أولوية للنسب في علاقاتها العامة، أصبح التنافر منتظرا بين الاتجاه الذي اعتبر الانتماء إلى الأمة قائما على أساس الإسلام، وبين أولئك الذين اقتصروا على رؤية النسب أساسا في الانتماء إلى الأمة.[1][14]
وهكذا نستطيع القول، إن الانتماء للعروبة هوية، في المراحل الجنينية شابته النظرة العرقية، التي كانت ركنا من مكونات القبيلة والعشيرة. وتلك كانت المرحلة الأولى في وعي العرب لهويتهم.
إرتقاء من العرق إلى اللغة
اللغة بشكل مبسط، نظام له وظيفة وغاية محددتان هما التعبير والتواصل. وتعتمد اللغة على وسائل معينة لبلوغ أهدافها. وحين ناقش أفلاطون موضوعها تصدى لمعالجة علاقة الأشياء بالأسماء، فأكد على أن الاسم انعكاس وتعبير عن المسمى، وهو مشتق من مكوناته وتركيباته. بمعنى أن الدال باستطاعته محاكاة المدلول والتعبير عنه. وذلك يعني أن علاقة اللغة بالأفراد الناطقين بها ليست مجرد عرف وعادات وتقاليد، ولكنها علاقة عضوية اذ أن الكلمات والجمل في حقيقتها تعبير غير ساكن، كونها تعبر عن صورة الأشياء في زمان ومكان محددين… وبالتالي فان الصيغ اللغوية هي تعامل وتفاعل مع بيئة محددة بذاتها.
وعلى هذا، فاللغات ليست سابقة على التاريخ أو صانعة له. بل هي نتاجه. ذلك أن المجتمعات التي تشعر بهوية واحدة تقوم بصياغة لغة خاصة، تحقق من خلالها تواصلها، وتمكنها من التعبير عن ذاتها، كي تمارس ابداعاتها وعطاءاتها الإنسانية، ولتميز بين هويتها وهويات شعوب الأمم الآخرى.
لكن ذلك ليس نهاية المطاف، ذلك أن التفاعل الإنساني الذي يحدث بسبب من تمازج حضارات مع بعضها البعض، بطريق الإتفاق أو القسر، يمكن أن يؤدي إلى انتشار لغة الحضارة المهيمنة في بقاع جديدة، غير تلك التي انبثقت منها. مساهما في خلق واقع موضوعي جديد ينتج عنه هزيمة البنية الإجتماعية السائدة من قبل، وقيام أخرى على أنقاضها. وهو بالدقة ما أدى إلى بزوغ المرحلة الثانية من تطور الوعي العربي لمفهوم الهوية.
فقد تزامنت تلك المرحلة بهزيمة متدرجة للقبيلة كعامل أساسي في صنع الهوية، وتصاعد لدور اللغة كعامل حاسم في الإنتماء إلى الأمة العربية. وقد بدأت هذه التطورات في أخذ مكانها مع نجاح الحركة العباسية واستلامها زمام الخلافة. وكانت مشاركة الفرس فيها، وانطلاقها من بلادهم إيذانا باندحار العصبية القبلية العربية، ونجاح فكرة التأكيد على المساواة ورفض التمييز. وتزامن ذلك مع بداية النهضة العلمية والحضارية التي شهدتها دولة الخلافة، وتصاعدت بتوسع رقعتها الجغرافية. حيث تحولت المراكز القبلية إلى مجتمعات حضرية ومراكز للثقافة العربية الإسلامية، وبرزت مدينتي بغداد والبصرة كأكبر مركزين علميين في ذلك العصر، وأصبحتا قبلتين يحج إليهما طلاب العلم من كل أصقاع الأرض.
وابتداء من عهد الخليفة المنصور، وبتشجيع من مركز الخلافة، دون الفقه والتفسير واستكملت تفاصيل الشريعة، وأيام الناس ونشطت الحركة الفكرية والثقافية والأدبية.[1][15] وحدثت تغيرات جذرية في البنية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للدولة العربية. فقد انتقل العرب من مواطنهم القديمة إلى البلدان التي فتحوها حديثا وامتلكوا الأراضي.
فمع نهاية القرن الهجري الأول، بدأ العرب هجرات واسعة إلى الأرياف واستقروا بها واشتغلوا بالزراعة، إثر اكتظاظ المدن بالسكان، وعجز المراكز الإدارية ومؤسسات الجيش عن استيعابهم وتلبية حاجاتهم. وفي المدن عاود العرب ممارسة التجارة، حرفتهم القديمة، وضعف وجود من هاجر منهم في الديوان. وفي ظل هذا الواقع، نشأت علاقات اجتماعية ومنظومة قيم جديدة. وبرزت اتجاهات ومصالح تسير باتجاهات معاكسة ومطردة لخط سير البناء القديم، مؤدية إلى حدوث تغيرات جذرية في أساليب وعلاقات الإنتاج العربية، مما أبرز فكرة الانتماء للأرض بديلا عن الانتماء للعرق. وقد تمت هذه التطورات الجديدة على أنقاض فكرة التنقل والارتحال بحثا عن الكلأ والماء.[1][16]
وفي ظل هذا الواقع الجديد، تم اختلاط العرب بشعوب أمم أخرى من البلدان التي شملها الفتح العربي، بعد أن غادرت أعداد كبيرة منهم مركز الخلافة وانتشرت في مناطق نائية عنه، واتصلت بغيرها من الأجناس. وقد ساهم ذلك في انتشار اللغة العربية بين أقوام جديدة، كما كان سببا في انتشار الإسلام وتعمق أثره في الحياة العامة. وكانت نتيجة ذلك امتزاج العرب مع غيرهم، مما حقق تماثلا في القيم والنظر للحياة، بغض النظر عن الخلفية الحضارية والعرقية للبشر الذين انضووا تحت راية الدين الجديد، مما أدى إلى تضعضع القبيلة وتراجع أثرها. وقد حقق ذلك الإختلاط، وحدة في العقيدة والتاريخ والتراث. واستمرت حركة التعريب متزامنة مع انتشار للدين الإسلامي طيلة تلك الحقبة.[1][17]
لذلك فإن من البديهي بعد أن تراجع البنيان القبلي، لصالح الانتماء إلى المدينة وبالتالي إلى الأمة، أن لا يبقى منه سوى بعض الاعتبارات الاجتماعية.. وفي ظل هذا الوضع المتشابك، تطورت فكرة الأمة، من أقوام تتحدد هويتهم على أساس انتماء عرقي، إلى شعب ينتمي إلى لغة وحضارة وأرض وثقافة مشتركة.[1][18]
وأصبح متوقعا أن يترجم ذلك في فكر الأدباء والمؤرخين وغيرهم. وهذا ما نلاحظه منذ بداية القرن الثالث الهجري لدى الجاحظ وابن قتيبة وأخيرا عند ابن خلدون، فهم يرون أن اللغة العربية وليس العرق أساس الانتساب للعرب. ومع أنهم يقبلون بدور للبيئة والنسب في بعض الأحيان، إلا أن الرابطة الرئيسية هي اللغة. وقد أشاروا إلى العلاقات المشتركة للجماعة كعامل من مكونات الأمة، وإلى القيم والسجايا العربية كعوامل أخرى، وهي صفات ذات صلة مباشرة بالثقافة.
وقد أشار إلى ذلك أبو عمرو عثمان الجاحظ بقوله: “إن العرب لما كانت واحدة في التربية، وفي اللغة والشمائل، والهمة، وفي الأنف والحمية، وفي الأخلاق والسجية، فسبكوا سبكا وكان القالب واحدا، تشابهت الأجزاء وتناسبت الأخلاط .. وصارت هذه الأسباب ولادة أخرى.. وقامت هذه المعاني عندهم مقام الولادة والأرحام الماسة.. وأن الموالي الذين تعربوا هم بالعرب أشبه، وإليهم أقرب، وبهم أمس لأن السنة جعلتهم منهم.. وهم أقرب إلى العرب في كثير من المعاني، والعاقلة وفي الوراثة”.[1][19]
هكذا ارتقت العربية بفكرة الأمة من انتماء لعرق إلى انتماء إلى لغة ودين، لعل أصدق تعبير عنه إجابة مولى هشام بن عبد الملك حين سأله الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور عن هويته بقوله: “إن كانت العربية لسانا فقد نطقنا بها، وإن كانت دينا فقد دخلنا فيه”. وما رواه الطبري من أن أشرس بن عبدالله السلمي، أمير خراسان وعد من يسلم بالإعفاء من الجزية، فدخل كثير من الناس إلى الإسلام، فاشتكى الجباة إلى أشرس قائلين “ممن نأخذ الجزية وقد صار الناس كلهم عربا”.[1][20]
ومع التطور الجديد الذي طرأ على حياة العرب باتجاههم للزراعة، ومعاودتهم للتجارة، ضعف وجودهم في الديوان. وطغت العناصر الفارسية في عهد الخليفة العباسي المأمون، والتركية فيما بعد في المراحل التي أعقبت وصول الخليفة المتوكل إلى الحكم. وبالقدر الذي ضعف فيه المركز السياسي للعرب، فإن ابتعادهم عن مركز الخلافة أدى إلى انتشارهم واتصالهم بغيرهم، ومن ثم إلى انتشار اللغة العربية. وكان ذلك سببا آخر في انتشار الإسلام وتعمق أثره في الحياة العامة من جهة، وهزيمة لمفاهيم القبيلة والعشيرة من جهة أخرى، حتى وإن بقيت شذرات من تلك المورثات الاجتماعية، تبرز في قصيدة ونثر بين حين وآخر.[1][21]
ومع ما كان للإسلام من أثر مباشر في شيوع العربية وتجذرها، فإن مسيرة التعريب لم تكن متوازية مع امتدادات الدعوة الإسلامية. فهناك من اعتنق الإسلام دينا ولم يقبل بالعروبة انتماء، والعكس صحيح. فعلى سبيل المثال، رحب مسيحيو الشام ومصر والعراق بالفتح العربي، وشكلوا قوافل مسلحة من أجل نصرته، ولكن نسبة منهم بقيت متمسكة بديانتها المسيحية.[1][22]
ويمكن القول أن مسيرة التعريب تأثرت بعدة عوامل، منها نسبة التواجد الذي كان عليه الحضور العربي قبل الإسلام في المناطق التي أصبحت هدفا للتعريب، حيث وضع ذلك الحضور، بشكل فاعل ومؤثر اللبنات الأولى في تلك المسيرة، مما جعلها تسير بخطى حثيثة بعد الفتح العربي. أما العامل الآخر، فهو أن اللغات التي تحدثت بها معظم الشعوب في المناطق المحيطة بالجزيرة العربية انحدرت من أصول واحدة. فاللغات الآرامية والسيريانية والعبرية والعربية في أصولها سامية المنشأ.[1][23]
وفي بلدان أخرى، لم تكتمل مسيرة التعريب بنجاح، واقتصرت على بعض المناطق بسبب غياب العنصر العربي، والطبيعة الجغرافية والمورثات الثقافية. كما حدث في شمال العراق والجزء الجنوبي من وادي النيل، وبعض مناطق أفريقيا العربية. وفي إيران اقتصر الوجود العربي على المدن في جماعات من المقاتلة والتجار وأهل الحرف. وربما يرجع ذلك لوجود موروث حضاري عريق في تلك البلاد. ولأن اللغة والتراث الفارسي ظلا غريبين على العربية، فقد عادت لإيران هويتها الفارسية إثر سقوط دولة الخلافة، وأعيد بعث لغتها القديمة، رغم أنها أبقت على معتقداتها الإسلامية.[1][24]
ومن المعروف أن العربية أضحت اللغة الرسمية في جميع المناطق التي شملها الفتح العربي، إلا أن تداعي دولة الخلافة أدى إلى قيام كيانات سياسية جديدة ألغت العربية، وبعثت لغاتها القديمة، كما حدث في الهند والأندلس.
والخلاصة أنه في المرحلة الثانية من مراحل وعي العرب لهويتهم، انتصر مفهوم العروبة على الأساس اللغوي والثقافي، واندحر مفهوم النسب على أساس العصبية القبيلة، فبرز رواد عظام وضعوا لبنات راسخة في تراثنا الخالد من أمثال أبي بكر الرازي وابن سينا وبشار بن برد وابن المقفع وسيبويه والحسن بن هاني والبخاري وكثير غيرهم ممن انحدروا من أصول غير عربية.
التضاد بين السلطة والنهضة
كان العرب قد اتجهوا إلى التخوم الشمالية من الجزيرة العربية منذ تاريخ بعيد قبل ظهور الإسلام، ووصلوا في موجات متعاقبة إلى العراق وبلاد الشام ووادي النيل قبل استهلال الفتح العربي. وحين بدأ الفتح، سهل ذلك الوجود على المسلمين ولوج تلك الأقطار، وجعلها جزءا من الحواضر العربية. وقد سجل لنا التاريخ تعاطف السكان المحليين في الشام والعراق ومصر مع الفاتحين الجدد، ومشاركتهم لهم في القتال ضد البزنطيين والساسانيين والروم.
وتؤكد قراءة التاريخ العربي الإسلامي، أنه حين انطلقت جيوش المسلمين من مدينة يثرب إلى عموم مناطق الجزيرة العربية تدعو إلى عقيدة التوحيد، كانت على علم بتضاريسها: وديانها وجبالها، ومعرفة بطرقها، حيث كان المسلمون من أهل مكة قد استخدموا تلك المناطق وطرقها محطات وممرات لعبور قوافل تجارتهم من قبل. بل كانوا على معرفة بقبائل الجزيرة وعشائرها وأنسابها ورموزها الإجتماعية.
وقد ساعدتهم تلك المعرفة في عقد التحالفات وتوقيع معاهدات الصلح، وإقامة العلائق مع كثير من القبائل، مما سهل على الفاتحين تنفيذ مهامهم. وإلا كيف نفسر تمكن المسلمين بقيادة خالد بن الوليد في فترة لم تتجاوز العامين من عهد الخليفة أبي بكر الصديق، من توحيد عموم مناطق الجزيرة العربية. وهي فترة قياسية قصيرة شهدت كرا وفرا ووقفات تعبوية، وانتقال عبر الصحراء، في مواسم قاسية من منطقة إلى أخرى، من نجد إلى اليمن وعمان فالبحرين وشمال الجزيرة.. إلى بلاد الشام والعراق. ومن المؤكد أن تحقيق تلك الغزوات والحروب، وتكللها بالإنتصارات في تلك الظروف، كان عملا أقرب إلى المستحيل لو كانت هناك قطيعة في الثقافة والمكان.
لقد أكدت تجربة الفتوح الفريدة التي امتدت من السند شرقا إلى أسبانيا غربا، عمق التواصل القومي بين العرب رغم تباعد المسافات. فقد صاحب تلك الفتوح انتشار كبير للإسلام والعربية في سرعة غير مشهودة، حيث اعتنقت أمم كثيرة الإسلام، وقبلت أخرى بالعروبة هوية وبالإسلام دينا ومحتوى ثقافيا. ويوضح ذلك التواصل، أسباب التماهي السريع والواسع مع عقيدة التوحيد، واستجابة الشعوب التي دخلت الإسلام حديثا للتفاعلات الفكرية والمذهبية والفقهية، وقبول العرب على اختلاف مناطق تواجدهم نتاج مدارس الكوفة والبصرة وبغداد والقيروان، وانتشار المذاهب الفقهية التي نشأت جميعا في العصر العباسي، وتمركزت في بغداد والحجاز من حنفية وشافعية وحنبلية ومالكية وشيعية في أرجاء المدن العربية، لتنتقل فيما بعد إلى أرجاء الدولة العربية الإسلامية حتى الأندلس.
وبالمثل انتشرت بسرعة، وبشكل أفقي عريض المذاهب الفكرية والفلسفية التي تكونت في ظل الحضارة العربية. وكانت تلك المذاهب في تعبيراتها، انعكاسا موضوعيا للصراعات السياسية والإجتماعية التي شهدتها دولة الخلافة في العصرين الأموي والعباسي، كمدارس المرجئة والأشاعرة والجبرية والقدرية. وقد وجدت من يتبناها ويدافع عنها على امتداد الساحة العربية والإسلامية.
ومع أن مدرسة المعتزلة، التي وضع قواعدها واصل بن عطاء، خرجت من البصرة، فإن منهجها الفلسفي انتقل وتطور في بقاع أخرى من ساحة الحضارة العربية. وكانت نتيجة ذلك الإنتقال تراثا خالدا متنوعا، مثل مختلف التيارات الفكرية والفلسفية العربية الإسلامية على امتداد ساحة حضارتها. وصدر في مرحلة لاحقة، كتاب تهافت الفلاسفة لأبي حامد الغزالي في بلاد فارس، إلى الشرق. ورد عليه أبو الوليد محمد بن رشد المولود بقرطبة في الأندلس، أقصى ما وصلته حضارة العرب والمسلمين غربا. وكان أن صدر فيما بعد كتاب المقدمة لعبد الرحمن بن خلدون، من تونس بالمغرب العربي.. وتلك كانت قفزة نوعية في تأسيس علم الإجتماع.
وعلى الصعيد الأدبي، كان هناك تواصلا عبر عنه الشعر العربي، في حلقات مستمرة، متصلة، منذ شعر المعلقات قبل الإسلام، إلى عمر بن أبي ربيعة فجرير والفرزدق ودعبل الخزاعي وأبو نواس والبحتري وأبو تمام إلى الأندلس حيث ابن زيدون وابن هاني والموشحات الأندلسية.. وقد نقلنا ذلك الأدب الرفيع في رحلات بإيقاعات جميلة ونبض مثل التاريخ في حركته وتطوره من الحجاز إلى الشام والعراق ومصر والأندلس.
وحين تدخلت العناصر غير العربية، تركية وفارسية في سياسات الدولة وتعيين الحكام، ضعفت دولة الخلافة. ونتج عن استمرار حالة الضعف ظهور أكثر من خلافة في دار الإسلام، منذ القرن الرابع الهجري، مما أدى إلى القضاء على الوحدة السياسية للدولة العربية الإسلامية، وتزعزع فكرة الخلافة الواحدة أمام بروز الدويلات وتعدد الكيانات. ومع أن دولة الخلافة قد تفككت، وحل محلها إمارات وممالك حمدانية وسلجوقية ومملوكية، فإن فكرة أمة واحدة تربطها عقيدة بقيت حلما يراود الكثير من العرب.. واستمرت الهوية تحمل ثنائية ممزقة بين انتماء إلى كيان خاص، وانتماء معنوي آخر إلى أمة تضم شعوبا وقبائل. ومع كل حالة ضعف عاشتها تلك الكيانات، كان الشعور بالانتماء إلى الأمة يطغى ويتعزز، لكن وحدة الأمة سياسيا بقيت بعيدة المنال، فقد كانت رهنا بقوة العرب وتصميمهم، ولم يكن لدى العرب في واقع حالهم قوة أو تصميم على تحقيق ذلك..
والملاحظ أن تجليات الثقافة العربية، برزت بشكل مثير للإعجاب، مع تداعي نظام الخلافة العربية. وهي حالة جديرة بالقراءة، إذ المألوف أن يكون هناك تواز في الصعود والتداعي بين خطي النهضة والسلطة. فعلى سبيل المثال، في بلاد الإغريق ارتبطت تجليات الثقافة اليونانية وبروز فلاسفتها بتوهج تلك الحضارة وقوة سلطانها. وحين تداعى سلطانها وتمزقت وحدتها، برزت المذاهب الأبيقورية والرواقية واللا أدرية التي نظرت لقبول الهزيمة والاستسلام، لكنها في ذات الوقت استطاعت تحقيق التوازن النفسي للشعب الإغريقي المهزوم، حين أحلت المتعة والفرح، بعيدا عن الكد والنضال..[1][25]هكذا حصل الانقطاع الثقافي في بلاد الإغريق، بحيث يستطيع المتتبع أن يلحظ خطا بيانيا صاعدا ومتوازيا بين النهوض السياسي والفلسفي في تلك الحضارة.
أما في البلدان العربية، فإننا لا نلاحظ توازيا رأسيا بين خطي السلطة والنهضة، إذ في الوقت الذي تداعى فيه السلطان السياسي وتمزقت الخلافة العربية الإسلامية إلى إمارات وممالك، وأخذ الخط البياني بالميل إلى الأسفل، نرى أن خط النهضة الفكرية البياني ظل مستمرا في اتجاهه بالصعود، مبرزا أسماء لامعة في التاريخ العربي، كابن سيناء والرازي والفارابي وابن ماجه وابن الهيثم والإدريسي وابن خلدون والغزالي وابن رشد. وهذا يعني أن انهيار الدولة العربية الواحدة، وبروز الممالك والإمارات على أنقاضها لم يعبر عنه بانقطاع ثقافي عربي. وأن الثقافة العربية قد نمت بفعل مجموعة من التفاعلات الموضوعية، التي منحتها القدرة على الاستمرارية حتى في ظل ضعف السلطان السياسي.
والتفسير المنطقي والممكن هو أن تلك الثقافة لم تكن رديفة للسلطة السياسية، وإنما كانت تعبيرا عن وجدان أمة لم تجمعها الجغرافيا واللغة فحسب، بل ارتبطت بشحنات عاطفية وتراثية ساهم في إذكائها الموروث الثقافي والفكري والديني والأدبي والفني للأمة العربية.. لقد استمد المجتمع العربي، في بنيته التحتية ونخبه الفكرية، من تلك الشحنات سياجا واقيا لحماية هويته من التفتت، رغم حالة الضعف السياسي الذي منيت به الأمة. وحين انبثق عصر الأنوار الأوروبي تلقفت المدارس والجامعات الأوروبية ذلك الإرث وبنت عليه.. وهكذا هي مسيرة الإنسانية دائما. يتداخل فيها الجديد بالقديم.
من الإنقطاع إلى النهضة
مكن تداعي دولة الخلافة لبروز لغات جديدة، كانت الفارسية في مقدمتها، لتصبح لغة أدب وثقافة لأقوامها. وكانت حالة التداعي تلك إيذانا بالحد من انتشار العربية، لا الإسلام، وإلى حضور التنوع اللغوي والثقافي.. في البلدان الإسلامية. وعندما وصل العثمانيون إلى الحكم بدا واضحا تباعد الخطوط بين انتشار العربية وانتشار الدين الإسلامي. وقد مهد ذلك لبروز ظاهرة الأمم المتعددة في دار الإسلام، حتى وإن بقي الإسلام والعروبة متلازمين وأساسيين في تشكيل الهوية بالنسبة للعرب، بعد أن تجاوزت الأخيرة مفاهيم النسب والأصل لتصبح هوية تستند على اللغة والثقافة.
وبعد سقوط دولة الخلافة العربية، وسيادة الصراعات بين الممالك المحلية، تطاولت العساكر الأجنبية على الوطن العربي، ومر العرب بفترات ممتدة من التراجع والتبعية، وحدث انقطاع ثقافي وحضاري لفترة طويلة في تاريخهم. وعلى الرغم من أن الدول التي رزح العرب تحت سيطرتها كانت تعتنق الإسلام دينا، فقد نحوا عن السلطة وعن المشاركة في صناعة القرار، وتعطل دورهم الحضاري. ولم يتبق من عوامل الصمود والاستمرارية العربيين سوى مواجهات محدودة لغزو خارجي هنا وهناك.[1][26]
حين دخلت معظم الأقطار العربية تحت هيمنة الحكم العثماني، استمر العرب في نومهم الطويل، ومورس بحقهم اضطهاد عنصري، وقد اتسمت تلك الفترة بالتخلف واستبداد السلطان. وعندما ضعفت السلطنة التركية، كان البنيانان الثقافي والحضاري العربيان قد انتابهما الإنهاك والإضمحلال، مما أدى إلى ضعف المقاومة العربية للغزو الغربي الذي بدأ زحفا برتغاليا، ثم احتلالا بريطانيا وفرنسيا.[1][27]
وخلال هيمنة الحكم العثماني على الوطن العربي، برزت عدة محاولات جادة للاستقلال عن السلطنة كانت حركة فخر الدين المعني الثاني حاكم منطقة الشوف بلبنان (1590-1635م) أولى تلك المحاولات. وكانت حركة ضاهر العمر في عكا (1750-1775م) هي المحاولة العربية الأخرى للانفصال عن السلطنة. وقد تزامنت تلك المحاولة مع الحركة المملوكية التي قادها علي بك الكبير في مصر الذي قام بثورة ضد الدولة العثمانية عام 1868م. وفي الجزيرة العربية، قادت الحركة الدينية الوهابية محاولة الانفصال عن السلطنة العثمانية، بعد أن تم اتصالها بالأمير محمد بن سعود في مدينة الدرعية.[1][28]
وكانت الحملة الفرنسية على مصر عام 1798- 1801م قد أتاحت للعرب الإتصال والإنفتاح على الحضارة الغربية الحديثة بمختلف جوانبها، من إدارة وسياسة، إلى آداب وعلوم وفنون وطباعة وصحافة.. وقد أسهم محمد على باشا بدور مباشر في تعزيز هذا الإتجاه بارساله بعثات مصرية للدراسة في جامعات فرنسا وغيرها من الدول الأوروبية والتخصص في مختلف العلوم التطبيقية والنظرية. كما أسهم عبر احتلاله لبلاد الشام والسودان والجزيرة العربية في التنبيه على أن تنمية مصر تقتضي عدم تقوقعها داخل حدودها. وفي عهد الخديوي اسماعيل استؤنفت البعثات العلمية إلى فرنسا.[1][29]
ومع بداية القرن التاسع عشر برزت حركة أدبية وفكرية وسياسية واسعة في المشرق العربي، وأنشئت الجمعيات العلمية. فعلى الصعيد الأدبي والفكري، قام بطرس البستاني بترجمة التوراة إلى العربية، وألف معجم المحيط. ومعجم قطر المحيط، ودائرة المعارف من سبعة أجزاء، وقام سليمان البستاني بترجمة الياذة هوميروس إلى العربية شعرا. وألف ناصيف اليازجي مجمع البحرين. كما نشطت الحركة الصحفية، فصدرت الوقائع المصرية في عام 1828م، وكان من أوائل المحررين فيها الشيخ رفاعة الطهطاوي والشيخ حسن العطار والشيخ أحمد فارس الشدياق والسيد شهاب الدين والشيخ محمد عبده.[1][30]
وفي مراحل لاحقة توالت الصحف في الصدور، فأصدر عبد الله أبو السعود عام 1866م صحيفة سياسية غير رسمية هي وادي النيل. وأصدر ابراهيم المويلحي نزهة الأفكار عام 1869م، كما أصدر ميخائيل عبد المسيح جريدة الوطن. وكان رزق الله حسون هو أول من أصدر صحيفة عربية في استنبول هي مرآة الأحوال، عام 1855م, وفي بيروت أصدر اسكندر شلهوب جريدة السلطنة، وخليل الخوري جريدة حديقة الأخبار عام 1858م. وأصدر أحمد فارس الشدياق عام 1860 جريدة الجوائب في الاستانة، وفي العام نفسه أصدر المعلم بطرس البستاني نفير سوريا. وفي العراق أنشأ مدحت باشا والي بغداد صحيفة الزوراء، فكانت لسان حال الولاية وأول صحيفة صدرت في العراق، وتولى السيد محمود شكري الألوسي تحرير القسم العربي منها. وصدرت في تونس جريدة الرائد التونسي كصحيفة رسمية أسبوعية تبناها محمد الصادق، الباي الثالث عشر لتونس. ومن بين الأقطار العربية كانت مصر والشام سباقتين في هذا المجال.[1][31]
ومن جهة أخرى، برزت اتجاهات اجتماعية جديدة ودعوات فكرية إلى التحديث، بدأت مع الشيخ جمال الدين الأفغاني الذي دعا إلى الوحدة بين المسلمين وإزالة الفروق بين المذاهب الإسلامية. ونادى بتحرير العقل من الخرافات والأوهام ودعم العقائد بالأدلة والبراهين وتحرير الفكر الديني من قيود التقليد وفتح باب الإجتهاد. وأنشأ مع الشيخ محمد عبده في عام 1884م في باريس جمعية العروة الوثقى، داعيا المسلمين إلى النهوض ببلادهم والثورة على المستعمرين، والتحرر من الإستبداد والإضطهاد السياسي الداخلي.[1][32]
وقد جاءت آراء الشيخ محمد عبده في الإصلاح قريبة من مواقف الشيخ الأفغاني، الذي نادى بتطهير الإسلام من البدع والضلالات، وهاجم التقليد والمقلدين، ودعا إلى التوازن بين العلم والإيمان، وطالب بالدفاع عن الإسلام ضد التأثيرات الغربية. وفي عام 1882م، اشترك في ثورة عرابي، وسجن ثلاثة ِأشهر ونفي ثلاثة أعوام قضى منها عاما في بيروت ثم انتقل إلى باريس حيث شارك مع الشيخ الأفغاني في إصدار مجلة العروة الوثقى.[1][33]
تأثر بموقف الشيخين الأفغاني ومحمد عبده عدد كبير من المفكرين العرب والمسلمين من الأجيال اللاحقة، كان بينهم من لعب دورا هاما في الحياة السياسية والفكرية مثل محمد فريد وقاسم أمين وأحمد لطفي السيد والشيخ طاهر الجزائري والشيح حسين الجسر ومحمد على كرد وعبد الحميد الزهاوي ومحمد رشيد رضا والأمير شكيب أرسلان ومحمد بيرم التونسي والطاهر بن عاشور.. وكثير غيرهم.[1][34]
لكن فكرة الوطنية في مصر ارتقت وتعززت مع رفاعة رافع الطهطاوي الذي دعا إلى أن يكون الوطن مكان سعادتنا العامة الذي نبنيه من خلال الفكر والحرية والمصنع. وقد تحدث عن رابطة وطنية، مؤكدا أن مصدر تلك الرابطة هو اللسان، فأبناء الوطن هم تحت إمرة ملك واحد وينقادون لشريعة واحدة وسياسة واحدة. وجاء عبد الرحمن الكواكبي من بعده حاملا في كتابه طبائع الإستبداد على الحكم المطلق والجهل، ومطالبا بالحرية السياسية، مشيرا إلى أن الاستبداد هو أساس المساوئ، كونه ينفي العلم ويفسد الدين والأخلاق والتربية.[1][35]
اعتبر الكواكبي العرب أمة واحدة، ورأى أن الأمة قد يجمعها نسب أو وطن أو لغة أو دين. وأن اللغة العربية هي الرابطة الأولى بين العرب. وهو بذلك يعيد التأكيد على المفهوم التراثي للأمة، لكنه في ذات الوقت، يؤكد على أن الأمة تربطها روابط جنس ووطن وحقوق مشتركة.[1][36]
وكان لكتاباته قبول واسع، على مستوى الوطن العربي بأسره. وقد ساعدت تلك الكتابات على تنمية الوعي العربي وظهور الإتجاه القومي الذي عبرت عنه المرحلة الأولى من مسيرة العمل القومي العربي التي بدأت مع النصف الأخير من القرن التاسع عشر واستمرت حتى نهاية الحرب العالمية الثانية.
وهكذا يمكننا القول أن فكرة الوطنية الحديثة ارتبطت بمنهجين، الأول تغلغلت فيه الآراء الغربية في الوطن والحرية والدولة، وعبر عن إعجاب بالنهج التراثي وقرن ذلك بالفكر السياسي الحديث. أما النهج الآخر، فكان النهج العربي المتمثل في اليقظة العربية والذي أكد على أن العرب أمة واحدة لها خصائصها، وأن العربية هي الرابطة الأساسية، مشددا على الصلة الوثيقة بين الإسلام والعروبة. وذهب البعض إلى القول بأن الإسلام قام وازدهر بالعرب، وأن السبيل لنهضته لن يتحقق إلا بعودة الدور القيادي للأمة العربية. وقد تطورت هذه الرؤية نظرية وممارسة مع البدايات الأولى للقرن العشرين.[1][37]
وفي المشرق العربي، تمكنت حركة القومية العربية من التعبير عن أفكارها وتطلعاتها مع بداية النصف الثاني من القرن التاسع عشر. كان هناك تأثر واسع في أوساط النخب العربية بالحركة القومية الأوروبية، وبالأفكار الليبرالية التي ارتبطت بها. وكانت القومية العربية، استجابة لواقع موضوعي ورد فعل على محاولات التذويب والإضطهاد العنصريين اللذين مارسهما الأتراك بحق العرب، وخصوصا إصلاحات التنظيمات الإدارية عام 1829م، وتوجهات حركة تركيا الفتاة التجديدية في العام نفسه، والتي كان من بين نتائجها التأكيد على خلق نزوع قومي تركي شوفيني معاد للتقاليد الدينية الإسلامية.
وقد برزت البدايات الأولى لفكرة القومية العربية في بلاد الشام. وكانت الملامح الجديدة للنهضة العربية قد بدأت في التشكل على شكل جمعيات ومنتديات ركزت أهدافها على بعث التراث العربي وإحيائه. لكنها ما لبثت أن بدأت في تنظيم نفسها في جمعيات اشتهر من بينها جمعية العلوم والفنون عام 1842م والجمعية العلمية السورية عام 1857م، والجمعية السورية السرية عام 1880م.
كما وجدت بعض الجمعيات العربية في القسطنطينية عاصمة العثمانيين، حيث تواجد كثير من العرب هناك، كالمنتدى العربي في القسطنطينية، والجمعية القحطانية. وقد كان الدافع الأساسي الذي تشكلت من أجله تلك الجمعيات في المرحلة الأولى من قيامها، الرغبة في تطوير الشعور بالإنتماء إلى الأمة العربية، كأمة واحدة والإعتداد بتراثها الخالد وتاريخها المجيد. لكن تطور هذه الجمعيات واشتداد عمليات القمع والإرهاب والهيمنة العثمانية على الوطن العربي أدى بها إلى تبنى مواقف ثورية تتجه أكثر فأكثر نحو المطالبة بالإستقلال.
وقد تدرجت تلك الجمعيات في مواقفها، فتبنى البعض منها مطالب إصلاحية اكتفت بالدعوة إلى تحسين أوضاع العرب في الإمبراطورية العثمانية، وتمكينهم من المشاركة في برلمان السلطنة. بينما تبنى البعض الآخر النضال من أجل تمكين العرب من دراسة لغتهم العربية في المدارس الرسمية، في حين تبنت جمعيات أكثر راديكالية النضال من أجل تحقيق الإستقلال الذاتي لأقطارها، وطالبت بانهاء النظام المركزي العثماني، والإعتراف بالعربية لغة رسمية في الولايات العربية، وإلغاء الرقابة على الكتابة، وإطلاق حرية الرأي والتعبير والمعرفة، وأن تكون الوحدات العسكرية التابعة للإمبراطورية العثمانية المتواجدة في الوطن العربي مشكلة من السكان العرب وتحت قيادتهم.
ومن أجل التنسيق بين الحركات القومية في مختلف أقطار الوطن، وتوحيد استراتيجياتها النضالية في مواجهة الحكم العثماني، عقد زعماء النهضة العربية عدة مؤتمرات، أهمها مؤتمر باريس الذي حدث في نيسان/ أبريل عام 1913م. وقد عقد هذا المؤتمر تحت شعار: أمة عربية واحدة، وكان شعر ابراهيم اليازجي:
تنبهوا واستفيقوا أيها العرب
فقد طمى الخطب حتى غاصت الركب
صرخة مدوية في ذلك المؤتمر. وقد حصلت تطورات خطيرة بعد ذلك، حين قام الوالي التركي على سوريا ولبنان جمال باشا في آب 1915م، بإعدام إحدى عشر مناضلا عربيا في ميدان الحرية ببيروت، وأتبع ذلك بمجزرة أخرى في عام 1916م، ذهب ضحيتها اثنان وعشرون من قادة النهضة العربية المعاصرة في سوريا ولبنان، من بينهم عبد الحميد الزهراوي والأمير عمر بن عبد القادر الجزائري وعبد الغني العريسي وشكري العسلي. وقد أدت هذه المجازر إلى تفجر موجات عنيفة من الغضب والسخط في عموم المشرق العربي، تحول على إثرها مجرى النضال القومي إلى المطالبة بالإستقلال الكامل عن الهيمنة التركية. وقد ساعدت ظروف الحرب العالمية الأولى، وضعف الجبهة الألمانية، ووعود الحلفاء بالتعاون مع العرب لتحقيق الإستقلال، في قيام الثورة العربية وهزيمة العثمانيين.
لكن تلك المرحلة انتهت بانتكاسة مروعة، وهزم مشروعها في التحرر، حين جرى تطبيق اتفاقيات سايكس بيكو وبدأ التنفيذ العملي لوعد بلفور.[1][38]
وكان من الطبيعي، بعد هزيمة المشروع القومي في مرحلته الأولى، أن تتطور صيغ الكفاح العربي، وأن ترقى إلى أبعاد جديدة تتجاوز النضال من أجل وحدة الأرض واستقلال الأمة إلى تبني مضامين اجتماعية وسياسية وحضارية، ترى في الهيمنة الإستعمارية تهديدا للوجود، ونهبا لثروات الشعب ومقدراته، وسدا يحول دون قيام أي تطور اقتصادي وحضاري وتنمية حقيقية في البلدان العربية.
إن التناقض الجديد الذي حصل إثر اتفاقيات سايكس بيكو، وهيمنة الإستعمار الغربي على أقطار المشرق العربي هو تناقض بين مصالح الغالبية العظمى من الشعب، وبين مصالح الرأسمالية الأوروبية التي تجد ديمومتها رهنا بهيمنتها وتسلطها على الوطن، وجعله مصدرا لحاجاتها من المواد الخام وسوقا لمنتجاتها وصادراتها.
وكانت الخصائص الرئيسية لهذا الإستعمار، أنه استعمار فوقي يعمل على تغيير البنى الإقتصادية للمجتمع المستعمر، لصالح رأسمال الدولة الأم. ويتعامل مع الشعوب المستعمرة تعاملا استعلائيا، لا يرى في حضارة الشعب المضطهد سوى الإنحطاط والتأخر والهمجية. وهو فوق ذلك كله، احتلال عسكري، غريب ومتغطرس يمارس فيه أصغر جندي من قوى الإحتلال صلفه على أكبر كبير في الأمة. وهو احتلال ثقافي، يحاول المحتل عن طريقه قطع صلات الأمة بتاريخها وثقافتها وحضارتها وتراثها كله، ثم لا يصل لها بعد ذلك إلا نزرا يسيرا من ثقافة المستعمر، يكاد لا يكفي إلا لأداء خدمة دوائر القمع التي بدأت في النشوء مع توسع أجهزة الإحتلال, ولأجل تطبيق أعرافه وقوانينه.
وكان أخطر ما في هذا الوجود الإستعماري، تمزيقه لوحدة الأرض وإقامته كيانات صغيرة مصطنعة، يستطيع من خلال وجودها مواصلة ترسيخ بقائه. يواجه كل هذا، أمة لم تكد تحسم معركتها مع الوجود الإستعماري العثماني حتى تواجه بنوع جديد من الإحتلال، وهي لم تزل ممتشقة سلاحها.
الهوية وطبيعة المواجهة
يلاحظ في هذه المرحلة، أن طبيعة المواجهة والتحدي قد حكمت تطور مفهوم الهوية عند العرب. ففي المشرق العربي، كان النضال الوطني قوميا خالصا، ويرجع ذلك لعدة أسباب أهمها: أن العربية لغة وثقافة انبثقت من هذه المنطقة، وأنها سبقت بزوغ الإسلام بوقت طويل. وأن القرآن الكريم نزل على الأقوام العرب، وبلغتهم، فخرجوا إلى العالم يبشرون أمم الأرض داعين إلى عقيدة التوحيد. وحين وصل الفتح العربي الإسلامي إلى مصر والعراق وبلاد الشام، حيث لم تكن العربية غريبة على السكان، اعتنق معظم الأهالي الدين الجديد. لكن نسبة مؤثرة منهم ابقت على دياناتها الأصلية، مما جعل من الأهمية بقاء العربية عاملا توحيديا وتجسيدا للوحدة الوطنية.
وقد امتدت هذه الضرورة حتى العصر الحديث، فقد واجه العرب مجتمعين، على اختلاف مللهم، في تلك الأقطار هجمات التتار والصفويين والبرتغاليين والصليبيين والفرنسيين.. وأثناء مقاومة الإستعمار البريطاني في مصر، رفع المصريون شعار “يحيا الهلال مع الصليب”، تعبيرا عن تلك الوحدة.
يضاف إلى ذلك أن المشرق العربي تعرض لاحتلال تركي، شمل معظم أوطانه. ولم يكن ذلك الإحتلال، في معرض تخريبه وتدميره لثقافات وعادات الشعوب الواقعة تحت قبضة احتلاله، ليتعرض للدين الإسلامي. بل إن بعض السلاطين العثمانيين حملوا لقب الخليفة واعتبروا أنفسهم حماة للإسلام. وذلك يعني، أن الحكم التركي لم يمارس اضطهادا دينيا مباشرا بحق المسلمين، عدى ذلك الذي تعرض له الشيعة أثناء صراع السلطنة مع الدولة الصفوية.
وكان العرب من غير المسلمين هم الأكثر عرضة للاضطهاد. لذلك، فلا غرابة أن يكون معظم رواد النهضة العربية الحديثة في المشرق العربي من العرب المسيحيين، حيث كانوا تحت الحكم العثماني، عرضة لنوعين من الاضطهاد، قومي كونهم عربا، وديني كونهم غير مسلمين. ولذلك أيضا يأتي اقتصار النضال في المشرق العربي على الجانب القومي وعدم تداخله مع المعاني الدينية ضمن سياق تاريخي وموضوعي صحيح، حيث كانت اللغة حقيقة موضوعية وأداة آيديولوجية، وعامل توحيد أمام تعدد الديانات والملل. ولأن الدين الإسلامي لم يكن هو المستهدف من قبل سلاطين آل عثمان، وإنما العروبة والهوية القومية.. كان رد الفعل في تلك المواجهة قوميا عربيا محضا.
أما في المغرب العربي، فتداخلت المعاني القومية والدينية في النضال الوطني. ويرجع ذلك إلى أن أقطار المغرب العربي، حتى بعد احتلال العثمانيين لها، تمتعت بامتيازات خاصة وبحكم سياسي شبه مستقل، مكنها من تشكيل قوتها العسكرية البحرية المستقلة، بعيدا عن تأثير السلطان العثماني. وتمثلت معاناة أقطاره، خاصة الجزائر، في خضوعها فيما بعد لاستعمار أوروبي استيطاني عسكري مباشر، قل أن يوجد له نظير في شراسته ووحشيته، هو الاستعمار الفرنسي.
فمن أجل أن تكون مواصلة الإحتلال عملية سهلة، يسعى المستعمر إلى إلغاء مقاومات الشعب التي تجعل من استمرار احتلاله وهيمنته على البلاد أمرا غاية في الصعوبة، إن لم يكن مستحيلا. وتأتي في المقدمة من تلك المقاومات الهوية الوطنية للشعب المطلوب إخضاعه.
على أن التخريب الإستعماري لهوية الشعب المستعمر هو عمل متفاوت ومتغير، يخضع لنوازع المستعمر ومستوى تطلعاته في الهيمنة على البلد المستعمر من جانب، وهوية ومعتقدات وتقاليد الشعب المراد إخضاعه من جانب آخر. ولذلك فإن دراسة ظاهرة مقاومة المغرب العربي للإستعمار، خاصة الثورة الجزائرية، تقتضي أن يؤخد بعين الإعتبار المحركات والبواعث التي حكمت مسار حركة المقاومة واتجاهاتها.منذ البدء، بمختلف وسائله وأساليبه تخريب الثقافة القومية للشعب الجزائري، وفي المقدمة منها محاربة المعتقدات الإسلامية باعتبارها جزءا من عقيدة الشعب ومقاوماته. وعمد إلى سياسة حرمان الشعب من تعلم لغته، فكان لا بد والحال هذه أن يكون اتجاه المقاومة الوطنية ورد الفعل ضد عدوان المستعمر تداخل المعاني والمضامين الدينية مع معاني ومضامين النضال القومي والكفاح من أجل الاستقلال.
كان هذا الموضوع محل دراسة وتحليل من قبل فرانز فانون في كتابه سوسيولوجية ثورة، حيث أفرد له فصلا كاملا تحت عنوان “الجزائر تلقي الحجاب في مواجهة الإحتلال الفرنسي”، مشيرا إلى أن الإدارة الإستعمارية توصلت إلى تعريف نظرية سياسية مفادها أن ضرب المجتمع الجزائري في صميم تلاحم أجزائه، وخواص مقاومته، يقتضي كسب النساء، والبحث عنهن خلف الحجاب حيث يتوارين، وفي المنازل حيث يخفيهن الرجل…
وتنبري الإدارة الفرنسية التي تمارس سحق الإنسان الجزائري، وتسلبه حريته وكرامته، للدفاع بأبهة عن المرأة المهانة المهملة السجينة… وتسعى عن طريق هذا الموقف “النبيل” إلى توظيف إمكانات المرأة الهائلة التي حولها، الرجل الجزائري، بكل أسف إلى شئ عديم الحركة، والقيمة، وغير إنساني. وهكذا، وبعلم دقيق، يوجه المستعمر الفرنسي قرار اتهام نموذجي ضد الرجل الجزائري السادي الذي يكون في موقفه مع النساء، كالشيطان الذي يمص دم الأحياء. ويوجه هذا الإتهام أحسن توجيه، مكرسا حول الحياة العائلية الجزائرية مجموعة كاملة من الأحكام والتقديرات والإعتبارات. وتتضاعف الحوادث والأمثلة التي توجب العبرة، وكلها تصب في إحاطة الجزائري بطوق من الشعور بالذنب.
إن المستعمر الفرنسي، في توجيهه قرار الإتهام إنما يهدف إلى القيام بعملية ترويض شاملة للمجتمع الجزائري، تجري بمعونة النساء السافرات المعاونات لرجال الإحتلال.. لقد ظل هذا الحلم يراود قوات الإحتلال الفرنسي طيلة فترة المقاومة الوطنية. إن رجل الإحتلال الذي تكرر فشله في القضاء على جذوة المقاومة الجزائرية، يعرض بطريقة مبسطة ومحقرة إلى نظام القيم الذي يتسلح به الرجل المحتل، وهو يقف بإباء وشموخ وشجاعة في وجه هجمات وغطرسة المستعمر.
ويتخذ الرفض لقيم المستعمر، أشكالا ذات أصالة، تبعا لظروف الوضع الإستعماري ونماذجه.
وينمي المستعمر بتصديه لمقاومات الشعب المحتل، تعلقه بقيمه وتقاليده الخاصة، وبضمنها التعلق بالحجاب. وما كان عنصرا لا نصيب له من الإكتراث في مجموع متجانس، يكتسب صفة التابو في حالة المقاومة للإستعمار. ولذلك يقارن الوطنيون الجزائريون موقف المرأة الجزائرية من الحجاب باستمرار، بموقفها الكلي من الإحتلال الأجنبي.
ويخلق الإهتـمام الذي يبذل لتطوير هـذا القطاع، وجملة الظواهر العاطفية المحكومة من قبل المحتل، في عمله التربـوي وتوسلاته ووعيده، حول العنصر المميز عالما حقيقيا من المقاومات. ذلك أن الصمود في وجه المحتل، إزاء هذا العنصر المحدد معناه إلحاق الفشل به على مرأى من جميع الناس، ومعناه أيضا أن تبقى للتعايش أبعاده في الصراع وفي الحرب المستمرة، وهذا نوع آخر من الحرب، يصفه فانون بالمحافظة على جو السلم المسلح.
سوف يتبدل موقف المرأة الجزائرية ومجتمع السكان الأصليين بتبدلات هامة يحدثها كفاح التحرير. إن عنف المحتل ووحشيته وتمسكه الجنوني بالأرض الوطنية، أوصل قادة الثورة الجزائرية إلى عدم استبعاد بعض اشكال المعركة. وبالتدريج فإن الشعور بضرورة الحرب الشاملة قد فرض نفسه. إن تجنيد المرأة في الثورة الجزائرية لا ينطبق على الرغبة في تعبئة مجموع الأمة فحسب، بل يجب أن يجري التحالف بتوافق، ما بين دخول النساء الحرب، وبين احترام الرجل للحرب الثورية. بمعنى آخر، يجب على المرأة أن تلبي بروح التضحية نداء الثورة وتحرير الوطن، بنفس المستوى الذي يستجب له الرجال، وإذا ما تحقق ذلك، فمن البديهي والواجب أن تمنح نفس الثقة.[1][39]
هكذا يصل فانون في تحليله لموقف الجزائريين من الحجاب، فيرى في التمسك به رد فعل في مواجهة المستعمر لتدمير ثقافات الشعب.
إن التشبث بالعادات والتقاليد هو رد فعل مؤقت ينتفي بانتفاء الوجود الإستعماري، ذلك أن النصر ضد الإستعمار لا يعني فقط استعادة الأرض وفرض السيادة الوطنية وتحقيق الحرية والإستقلال للشعب المستعبد، ولكنه مراجعة شاملة للثقافات والتقاليد والعادات السائدة وإعادة تركيبها بما يتناسب مع المرحلة الجديدة التي تعيشها الأمة، بحيث تتمكن من التخلص من الشوائب والحالات التي تعوق محاولة النهوض الجديدة وترسخ في بنيتها الثقافية الجديدة كل ما هو أصيل وخير.
وهكذا فالقطر الجزائري، ضمن هذا التحليل، واجه تحد استعماري شرس، تعرض للأرض والثروة والمعتقدات، فكانت ردة فعل الشعب الطبيعية على ذلك، التمسك بكل ما هو مرفوض من قيم وعادات وتقاليد من قبل المحتل الفرنسي.
وقد ناقش مجموعة من الكتاب المغاربة أسباب تداخل المعاني القومية والدينية في النضال الوطني التحرري المغاربي، فأشاروا إلى أن الوعي العربي قد نشأ هناك دون صدام مع الوعي الوطني، خلافا للوعي القومي في المشرق، الذي تأسس ضد الدولة القطرية. فقد قامت الدولة القطرية في المشرق، حصيلة غدر بريطاني فرنسي توج باتفاقيات سايكس بيكو التي قسمت الجزء الشرقي من الوطن العربي حصصا بينها، في حين كان قيامها في المغرب حصيلة كفاح مسلح ونضال للتخلص من الهيمنة الغربية، ولذلك نشأت الدولة القطرية دون أن تكون محملة بروح العداء للفكر القومي.[1][40]
كان هناك شعور دائم لدى أبناء المغرب العربي بأنهم كيان مستقل، منذ اندحار الرومان ودخول الفاتحين العرب. وخلال حقبة طويلة نشأت أسر حاكمة مغربية معظمها انحدر من أصول غير عربية، حافظ خلالها المغرب العربي على استقلاله السياسي، ولم يخضع لسلطة مباشرة من الأمويين أو العباسيين أو الفاطميين أو العثمانيين. وفي ظل هذا الوضع تكون لديهم احساس خلاصته ان عروبة البلاد تتعزز بحماية استقلالها، وهو شعور كان يضغط باستمرار خلال المعارك التي قامت ضد البرتغاليين والأسبان في فجر العصر الحديث. وهكذا كان التداخل بين القومي والوطني في حركات الإستقلال.[1][41]
يضاف إلى ذلك، أن أقطار المشرق العربي تعرفت على العروبة قبل بزوغ فجر الإسلام، في حين ارتبط انتشار العربية بأقطار المغرب باعتناق الديانة الإسلامية. وهكذا احتل الإسلام مكانة هائلة ورئيسية في بناء التجربة التاريخية المغربية. فقد صهر الإسلام كل مقومات الكيان المغربي واستوعبها بصورة تركيبية. وارتبطت به ثقافة المجتمع وطقوسه اليومية. ومنح الكيان الوطني كل مقومات الوحدة والإستمرارية. ونتيجة لهذه الإعتبارات لم يرق شعور المغاربة بالوحدة إلى مصاف شعورهم بالإسلام. بل نشأ في وعيهم، أنه لا يمكن ادراك العروبة إلا من خلال الإسلام وليس بمعزل عنه. ولذلك يصبح مفهوما استغراب المغاربة لوجود عرب مسيحيين في المشرق العربي.
والخلاصة أن العروبة أصبحت في العقل المغاربي لا تكتسب أي محتوى إلا بالإسلام.[1][42] وأصبح التفكير في العروبة من مدخل انفصالها عن الإسلام أمرا غير مفهوم لدى الحركة الوطنية المغربية.
إلى جانب ذلك، كان المجتمع المغاربي بحاجة إلى أيديولوجيا توحيدية، تجمع العرب والبربر، ذلك أنه رغم نجاح حركة التعريب بشكل واسع إلا أن الإزدواجية العرقية والطقوسية بقيت قائمة في أنحاء البلاد. ونظرا لغياب عناصر التوحيد الأخرى، بقي الإسلام وحده القادر على ردم الهوة التي كانت قائمة بين المتكلمين بالعربية والناطقين بالبربرية.[1][43]ومن جانب آخر، فإن عدم وجود أقليات غير اسلامية، وغياب التنوع الديني في المغرب العربي، خلق لونا خاصا من العلاقة بين الإسلام والعروبة اتسم بالتداخل والتجاور والتعايش.[1][44]
وكان اليهود الأقلية الدينية الوحيدة التي تواجدت في بعض أقطار المغرب العربي. وبسبب من مواريث دينية وتاريخية نأوا عن الإندفاع لرابطة العروبة، وظلوا حذرين من الإندماج مع الأغلبية الإسلامية، وأصبحوا في انتمائهم أقرب إلى الولاء القطري منه إلى الولاء القومي.[1][45]
النهوض القومي والتداعي
شهدت المرحلة التي أعقبت الحرب العالمية الأولى، نهوضا قوميا، استمر بالتصاعد حتى عام 1961م، حين فشلت أول تجربة وحدوية بين قطرين عربيين، هما مصر وسورية في العصر الحديث. وكانت نكسة الخامس من حزيران/ يونيو عام 1967م، إيذانا بنهاية تلك المرحلة.
ومن أجل توضيح علاقة ذلك النهوض بتطور وعي الهوية العربية، فإنه ينبغي وضعه في إطاره التاريخي. فقد تزامن ذلك النهوض مع سيرورة تفكك النظام الإستعماري، بالإتفاق أو عن طريق القوة، وصعود نجم حركات التحرر الوطنية في العالم الثالث، والتي يشكل الوطن العربي جزءا هاما منها. وكانت تلك من أبرز التحولات الكبرى في القرن العشرين، فقد احتضنت تلك الحركات آمال الشعوب التي تمثلها، وسعت لرفع ما أحاط بها من حيف، مع توق وتصميم شديدين على نيل حق تقرير المصير في مواجهة ظروف غاية في الصعوبة.
وفي الوطن العربي، ارتبط السعي للتخلص من الهيمنة العثمانية، ومن ثم الإستعمار الغربي بنمو التوجه القومي والتطلع نحو تحقيق الوحدة العربية.
ومنذ البداية، ميزت حركة النهضة العربية الحديثة بين طموحاتها القومية، والتزامها بوحدة أراضيها انطلاقا من أوضاعها الخاصة، ومفهومها للهوية المعبر عنه بوحدة اللغة والتاريخ والأرض المشتركة، وبين المفهوم السياسي الأوروبي للنظرية القومية، الذي ربط بروز ظاهرة التوجه القومي بصعود الطبقة البورجوازية للحكم.
فقد انطلقت حركة القومية العربية من التسليم بأن الأمة ظاهرة اجتماعية يمكن أن تبرز في كل مراحل التاريخ الإنساني، وليس شرطا أن تكون متلازمة بنمط الإنتاج الرأسمالي، وأن الأمة العربية ظاهرة أصيلة ممتدة في التاريخ لحقب طويلة.
في حين اكتشفت البورجوازية الصاعدة في أوروبا، طريقها القومي بعد تجاوزها عهود الإقطاع، حيث وجدت أن الطريق للتوسع والهيمنة، وإلغاء الحواجز الجمركية، وتحطيم الحدود، وإيجاد أسواق جديدة للمنتجات يقتضي تحقيق الوحدة القومية. وكانت تستجيب بذلك لدواعي التطور والنمو ضمن تلك المرحلة التاريخية التي عايشتها. ولذلك فحين تبدى لها أن بقاءها أسيرة داخل حدودها القومية سيفوت عليها فرص التقدم الإقتصادي ويمنعها من التطور والنمو، بما يؤدي إلى الإنكفاء والتراجع، عبرت الحدود التي رسمتها لنفسها، وخانت عقيدتها القومية، التي بشرت من خلالها أمم الأرض بالسلام والحرية والحب، وأخذت ترسل جيوشها وأساطيلها إلى بلدان آسيا وافريقيا للإستيلاء على تلك البلدان، وفرض الهيمنة على شعوبها، ونهب خيراتها ومقدراتها.
وتفاوتت أهمية البلدان المستعمرة بالنسبة للبورجوازية الأوروبية، تبعا لما تختزنه أراضيها من منتوجات زراعية، ومواد خام وثروات معدنية، لتسيير الصناعات الأساسية في البلد المركز. كما ارتبطت أهميتها بمدى قدرة أسواقها على استيعاب المنتوجات التي ينتجها المستعمر، ووجود منافذ بحرية تسهل عملية الإتصال، وموقع البلد الجغرافي والإستراتيجي، تحسبا لأية مواجهة عسكرية قد تحدث بين المتنافسين على مقدرات هذه الشعوب من القوى الأجنبية الأخرى.
ومن هنا ارتبطت نشأة الإستعمار الأوروبي، كاستعمار عسكري واقتصادي، بشكل مباشر بنمو الطبقة الرأسمالية وصعودها، وتحقيق الوحدة القومية.
وقراءة تاريخ الوجود الإستعماري الأوروبي، في مصر والسودان والجزائر والهند وأندونيسيا وماليزيا، تؤكد بما لا يقبل الجدل هذه الحقيقة. حيث أجبرت هذه الأقطار أن تقتصر زراعتها على ما تحتاجه مصانعه من منتجات زراعية، كل حسب اختصاصه. فقد فرض البريطانيون على مصر أن تركز على زراعة القطن لمواجهة حاجة مصانع لانكشاير. وطلب إلى دول شرق آسيا، أندونيسيا وماليزيا زراعة التوابل. وأرغم الفرنسيون الجزائر على توسيع رقعة زراعة أشجار العنب، لتلبية احتياجات مصانع النبيذ الفرنسية، وهكذا..
أما النظرية القومية في دول العالم الثالث، وبضمنه الوطن العربي، فقد ارتبطت بالتحرر من الإستعمار وتحقيق الإستقلال، والتخلص من الهيمنة الإقتصادية للدول الرأسمالية. وهي بذلك نقيض للحركة القومية الأوروبية. لقد ولدت الأخيرة في السوق، بينما برزت قوميات العالم الثالث مناضلة ضد السوق.
ولأن هذا الحديث معني بمتابعة تطور الهوية العربية من المنظور التاريخي، فإن من اللازم في هذا السياق، متابعة التطورات الفكرية والسياسية التي شهدتها حركة النضال القومي العربي، حتى حقبة نهوضها في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين.
كان الإيقاع السياسي الذي يموج به الشارع العربي مفعما بالأماني بقيام أمة عربية واحدة، وإحياء فكرة القومية العربية. وقد جاء هذا التوجه متزامنا مع ظهور مجموعة من الحقائق، إثر انتهاء الحرب العالمية الثانية، ساهمت في تعضيد التوجهات الوطنية والشعبية وبروز مرحلة النهوض.
وفي المقدمة من تلك الحقائق، ظهور فكرة الحياد الإيجابي، وبروز دول العالم الثالث الحديثة الإستقلال على المسرح السياسي الدولي، وتبلور فكرة تشكيل تجمع دولي جديد يضم مجموعة الدول النامية التي رزحت زمنا طويلا، تحت نير الإمبراطوريات الإستعمارية، والتي شهدت بأم عينها الإنسحاق الإنساني الذي أفرزته حربين عالميتين مدمرتين. ورأت من مصلحة شعوبها أن تنأى بنفسها عن الإنتماء إلى إحدى الكتلتين المتصارعتين: الرأسمالية “الغربية” أو الشيوعية “الشرقية”. واستطاعت هذه الدول أن تصبح قوة جماعية من خلال تأسيسها حركة عدم الإنحياز، وتبنيها سياسات مستقلة، وابتعادها عن الأحلاف والتكتلات العسكرية لأي من المعسكرين المتنافسين، ومن خلال تحكمها في الأغلبية من الأصوات بالجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة.
أما الحقيقة الأخرى، فتنامي وانتشار فكرة الوحدة العربية، حيث غدت حقيقة حية تحرك أعماق الجماهير، وتدفع بها للنضال في سبيل التحرر من الهيمنة السياسية والإقتصادية. وكان الأساس النظري الذي استندت عليه الفكرة، أن المجموعات البشرية التي عاشت على البقعة الجغرافية الممتدة من الخليج العربي شرقا، إلى المحيط الأطلسي غربا، قد جمعها إرث حضاري وتاريخي وثقافي، بل ونضال ومصير مشتركين. وهي بما يربطها من وحدة لغوية وجغرافية واقتصادية، فإن قدرها الإنضواء في دولة عربية موحدة، تجعل من رفضها لسياسات الإستعمار الغربي وقاعدته إسرائيل رفضا إيجابيا وغير منفعل، أدواته ومقوماته عمق الأمة، حين تضع ثرواتها وامكاناتها ومواردها ومورثاتها مجتمعة في خدمة هذا الرفض، بما يضمن تحقيق الحرية والتقدم والتطور.
كما انطلقت من التسليم بأن الحرية التي يسعى إلى تحقيقها كل قطر عربي على حدة، تصطدم بمعوقات ومآزق تجعل من الحديث عنها مجرد طنين لا تربطه بالواقع أية صلة، طالما أن السيادة الإقتصادية لا تزال بيد السيد المستعمر. فالحرية بالمعنى العميق والشامل هي تلك التي تبلغها الأمة من خلال هيمنتها على مقدراتها، وبنائها لقدراتها الذاتية. والوحدة بهذا المعنى، لا تمنح العرب قوة اقتصادية وسياسية هائلة فحسب، ولكنها أيضا تحدث تغيرا في شكل العلاقة بين هذه الشعوب وحكوماتها، مما يجعل هذه الحكومات أكثر شرعية وأمانا.
وكان تنامي التأييد لفكرة الإشتراكية لدى قطاع واسع من الشعب العربي في تلك الحقبة، قد منح زخما جديدا لفكرة الوحدة العربية، حين ربطها بموضوع التنمية الإجتماعية والإقتصادية، التي لا يمكن أن تتحقق في ظل التركيبة العشائرية وشبه الإقطاعية السائدة في الوطن العربي إلا عبر تخطيط اقتـصادي، يلتزم بتنفيذ الأولويـات من المشاريع التي تستجيب للحاجات الأساسية للأمة. وهذا يعني رفضا قاطعا لأن تكون التنمية في المجتمع العربي حاصل فوضى ومضاربات الحرية الإقتصادية. فالنجاحات السياسية والإقتصادية والإجتماعية انطلاقا من هذه الرؤية، انما تتحقق بسيطرة الدولة على موارد البلاد، وهيمنتها على وسائل الإنتاج لصالح المجتمع، وبالتوزيع العادل للدخل من خلال زيادة الضرائب وتوفير الخدمات الإجتماعية.
وقد توصل دعاة الربط بين الفكرة الإشتراكية والقومية إلى أن التنمية الإقتصادية ذات الأبعاد الكبيرة، بما تتطلبه من رؤوس أموال كبيرة، وقدرات بشرية هائلة، ومواد خام وموارد وأسواق واسعة، لا يمكن أن يضطلع بها أي قطر عربي على حدة، وإنما تتحقق عن طريق تكامل اقتصادي قائم بين مجموعات تتجانس، أو على الأقل تتقارب، في أسس نظمها وبرامجها الإقتصادية والسياسية والإجتماعية، وتصبح قادرة من خلال دولة الوحدة على إحداث تغيرات أساسية وجذرية في البنى الإقتصادية والهيكلية القائمة.
وكان التألق المتزايد لفكرة الإشتراكية في الوطن العربي، في تلك الحقبة انعكاسا لما يدور في العالم آنذاك. فقد استطاعت الحركة الإشتراكية في أوروبا الغربية أن تحقق عدة انتصارات في عديد من البلدان، كإيطاليا باستخدام ذكي للتقاليد الديموقراطية الليبرالية السائدة في تلك الدول. وقد فرض نفوذ الإتحاد السوفياتي وحلفائه نفسه بقوة وسرعة هائلة على المجتمع الدولي، إثر الإنتصارات العسكرية الكبرى التي حققتها هذه الكتلة في الحرب العالمية الثانية، والتي كانت عاملا رئيسيا في هزيمة النازية وحسم نتائج الحرب لصالح الحلفاء. كما تمكنت الثورة الصينية من الإستيلاء على السلطة، وطردت شان كاي شيك إلى جزيرة فرموزا. وأخذت الأفكار الإشتراكية والقومية تضرب جذورها بقوة، وتصبح أساسا لبرامج الأحزاب التي استولت على السلطة بالدول المستقلة حديثا، في آسيا وأفريقيا. وكان الفكر الماركسي الأممي هو الآخر يتقدم، ويجد قبولا واسعا ضمن نخب المثقفين في كثير من الأقطار العربية.
كانت الطرق التي تفاعلت بها هذه العوامل وتساوقت في الحركات الشعبية المحلية، بالوطن العربي، أثناء المواجهة مع القوى الإستعمارية، قد اختلفت من قطر عربي لأخر، تبعا لمستوى النمو الإجتماعي والإقتصادي لهذه الأقطار من جهة، ونوعية الإستجابة المطلوبة في المواجهة مع القوى المهيمنة من جهة أخرى.
ورغم التضحيات التي بذلتها الفئات الشعبية في كفاحها من أجل نيل حريتها واستقلالها، وباستثناءات قليلة كانت المحصلة، تمكن القوى السياسية الخارجية والفاعلة في الصراع، من تسليم السلطة إلى الطبقة الكمبرادورية (الوسيطة) عن طريق المناورات التي لعبتها مع حلفاء لها في الداخل، ومنح وثائق إستقلال مزيفة، بعد عبور طقوس احتفالية، ومراسم سهلة ربطت تلك الطبقة بمعاهدات واتفاقيات يصعب التملص منها.
وهكذا آلت السلطة في معظم الأقطار العربية حديثا للأسر التقليدية أو للصفوة الكمبرادورية التي أصبح لها بعد الإستقلال ثقلها الإجتماعي والإقتصادي، بعد أن مكنتها براعتها السياسية وتحالفها مع القوى الخارجية من القفز إلى السلطة. ولكن هؤلاء القادة ما كانوا يملكون القدرة السياسية ولا الجاذبية اللازمين للإستئثار بالدعم الشعبي في ظل الظروف الجديدة التي نشأت بعد الإستقلال. كما لم يكن بمقدور هؤلاء، بحكم تكوينهم الإجتماعي المشوه، الإضطلاع بتأسيس دولة بالمعنى الحديث، بكافة الفروع والمؤسسات. وبكلمات أكثر وضوحا، فإن التطلعات السياسية لهؤلاء القادة لم تتوافق مع تطلعات الشعب الذي ادعوا تمثيل مصالحه. فقد تركز اهتمامهم على حماية مصالحهم الشخصية والطبقية، بشكل أدى إلى استمرار غياب التوازن في البنيان الإجتماعي القائم، وإلى سوء توزيع الثروة، مما عطل من امكانية حدوث تنمية حقيقية في تلك الأقطار، وغيب إمكانية حدوث نقلة تقود إلى عدالة اجتماعية أشمل.
وفي ظل هذا الواقع المتردي، بدأ التململ الشعبي يسرى في الأقطار العربية، خاصة ضمن النخب المثقفة. وأخذت حركة المعارضة تنشط وتتحرك رويدا رويدا. وكان رفضها للمعاهدات الجائرة التي فرضتها القوى الخارجية على الحكام، وللأحلاف العسكرية التي وضعت المنطقة العربية من جديد تحت الهيمنة الإستعمارية، رصيدا في تحريض الجماهير على الغضب والتمرد. وفي ظل تصاعد الحركة النضالية الشعبية الجديدة أصبحت الأفكار الوطنية والقومية القديمة تتداعى، ممهدة الطريق لبروز أيديولوجيات جديدة تمتزج في أفكارها عناصر القومية والدين والعدالة الإجتماعية بطرق اكثر حيوية وملائمة.
حركة عربية واحدة واحزاب سياسية جديدة
أمام تشرذم القوى السياسية التقليدية وعجزها عن احدث التغييرات المطلوبة لمصلحة شعوبها، أصبح من المحتم قيام حركات سياسية وأحزاب من طراز آخر، تستطيع ضمن الواقع الجديد التصدى بجرأة وشجاعة لعوامل العجز العربي، وأن تأخذ في الإعتبار عند تشخيصها لأسباب الأزمة وصياغتها للحلول جميع العناصر المهمة التي تحدد كيفية الخروج من المأزق.
وقد جاء الجواب على ذلك ببروز حركات سياسية تميزت بقدرتها على قيادة وتوجيه الحركة الشعبية في الوطن العربي، ومن بينها حركتان كان لهما دور رئيسي في قيادة النضال القومي، هما حزب البعث العربي الإشتراكي، وأسسه ميشيل عفلق. والحركة الناصرية، بقيادة الرئيس جمال عبد الناصر.
تأسس حزب البعث العربي الإشتراكي رسميا في السابع من نيسان/ ابريل عام 1947م، وكان للأحداث الدرامية التي ارتبطت بنمو الحركة الصهيونية وتنفيذ مشروعها على أرض فلسطين أثر في نموه وتطور مسيرته. وقد أدت التركيبة الإجتماعية للحزب وانشغال قيادته بمواجهة زخم اللحظة وتداعياتها إلى أن يبقى المستوى النظري لمفهوم الهوية ركيكا وغير متماسك في أدبياته الأولى، مكتفيا بضخ شحنات عاطفية وتحفيز للجماهير، ساعدت عليه طبيعة المواجهة مع المحتل الغربي والمشروع الصهيوني. كما ساعد عليه الموقف السلبي المنفعل للأحزاب الشيوعية العربية من النضال القومي العربي ضد الإستعمار الغربي، والمتأثر بطروحات الدولة السوفياتية والتنظير الستاليني حيال قضايا الكفاح الوطني، الذي كان محكوما بالتحالف مع الغرب ضد النازية إبان الحرب العالمية الثانية.
وقد شكل الحزب منذ بداية نشأته، تحديا رئيسيا للبنية السياسية السائدة في سوريا. ووجد قبولا لدى فئة جديدة من الناس أوجدها التوسع السريع في التعليم. وينحدر معظم أفراد كوادره من الطبقة الإجتماعية المتوسطة. كما تمكن الحزب من شق طريقه وسط الأقليات الدينية، التي تعاني الفقر والحرمان من علويين ودروز ومسيحيين، وحظي بتأييد نسبي واسع ضمن الطبقات الفقيرة في سوريا.
كانت المبادئ السياسية وր§لإجتماعية والإقتصادية لحزب البعث قد نتجت عن المناقشات الفكرية التي دارت حول الهوية القومية للشعب السوري، وعلاقة هذا الشعب مع المجتمعات الأخرى الناطقة بالعربية.
وما كان لهذا الجدل الفكري أن يجد بيئة أفضل ملائمة في الوطن العربي من هذا القطر. فمنذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر غدى مركزا لحركة اليقظة العربية التي تصدت للإحتلال التركي، ومنه انطلقت فكرة القومية العربية التي هيأت لاندلاع الثورة العربية من الحجاز بزعامة الشريف حسين ضد العثمانيين. وفيه حدثت أول مواجهة عسكرية بالمشرق العربي مع الإستعمار الفرنسي في معركة ميسلون. وكان هذا القطر من أكثر المتضررين من الحدود التي رسمتها بريطانيا وفرنسا بموجب اتفاقية سايكس بيكو، التي قسم بموجبها الجزء الشرقي من الوطن العربي، وفقا للأطماع الإستعمارية، دون وضع أي اعتبار للحقوق الطبيعية والتاريخية لشعوب المنطقة. وكان الشعب السوري قد بدأ، منذ وقت مبكر رصده عن قرب لتطبيق البرنامج الصهيوني لاغتصاب فلسطين، بعد الشروع في تنفيذ وعد بلفور.
وكان الجواب الذي قدمه الحزب حول الهوية السورية هو بالدقة في انتمائها العربي.. إنها جزء من أمة عربية واحدة لها كامل الحق في العيش بدولة موحدة، شأنها في ذلك شأن سائر الأمم التي استطاعت استكمال وحدتها القومية. لقد وجدت هذه الأمة من خلال حادثة تاريخية هامة وبارزة هي بروز الدعوة الإسلامية التي انطلقت من الجزيرة العربية، ونشوء الدولة العربية الإسلامية التي ارتبطت بتلك الدعوة.
وعلى هذا الأساس، فإن الإنجاز التاريخي الذي حققه الإسلام للعرب لا يمس في جوانبه الإيجابية العرب المسلمين وحدهم، بل هو انجاز لكل العرب على اختلاف مذاهبهم ودياناتهم وأقطارهم، ذلك لأنهم وجدوا أنفسهم أمة واحدة من خلال هذه الدعوة. ومن خلالها أيضا، استطاعوا أن ينشروا رسالتهم الحضارية في مختلف أرجاء الكرة الأرضية. ولذلك فإن على العرب إذا أرادوا أن يحققوا تواصلهم الحضاري أن يستلهموا من ذلك الإرث محفزات في انطلاقتهم الجديدة لتحقيق الإستقلال وبناء الوحدة.
ولا يمكن تحقيق هذه الأهداف إلا من خلال نقلة تاريخية، تلامس عقل الإنسان العربي وروحه، توضح الرؤية وتقوي العزيمة.. وفي معمعان هذا التحول الذي يحدث في العقل والروح يتم تحقيق الوحدة العربية القادرة على إحداث تحولات رئيسية في البنيان السياسي والإجتماعي للأمة.[1][46]
وعلى الرغم من أن حزب البعث تبنى منذ لحظة تأسيسه أهدافا رئيسية ثلاثة هي الوحدة والحرية والإشتراكية، إلا أنه أعطى أرجحية لمبدأ الوحدة، ولذلك لم تركز كتابات مؤسسه الأولى بشكل مكثف على فكرة الإشتراكية وموضوع التحولات الإجتماعية. إلا أن الحزب منذ منتصف الخمسنينات، ولاحقا في بداية الستينيات، إثر انعقاد المؤتمر القومي السادس في بغداد بتشرين الثاني/ نوفمبر عام 1963م طور تفكيره بالإتجاه نحو تبني أفكار اشتراكية أكثر يسارية في برامجه التثقيفية.
أما الحركة السياسية الأخرى التي انبثقت في تلك اللحظة فكانت الحركة الناصرية، وارتبطت، منذ البدء بالرئيس جمال عبد الناصر ونظامه في مصر، الذي تمكن من تحقيق مكتسبات وطنية رئيسية، وأنجز استقلال مصر السياسي وخلصها من التبعية للهيمنة البريطانية، وتبنى مجموعة من الأفكار التقدمية. وكان هذا النظام قد حصل على مشروعية سياسية واسعة في مصر والوطن العربي بأسره، إثر تأميمه قناة السويس وتصديه للعدوان الثلاثي الغاشم، والبدء في تشييد السد العالي بأسوان.
والواقع أن الضباط المصريين عندما استولوا على السلطة في 23 تموز/ يوليو عام 1952م، بقيادة عبد الناصر لم يكن لديهم سوى برنامج محدود لتحقيق الإصلاح الإجتماعي، دون وجود أيديولوجية سياسية أبعد من الدعوة إلى وضع المصالح القومية فوق مصالح الأشخاص والمجموعات والأحزاب، مع تركيز خاص على التضامن ونصرة جماهير الفلاحين والعمال. وبمرور الوقت راكمت قيادة ثورة تموز/ يوليو خصائص أيديولوجية، ارتبطت بشكل عام ببروز الشخصية الكارازماتية للرئيس عبد الناصر، وتضمنت مجموعة من المبادئ التي كان لها القدرة على استقطاب وتحريك الطبقة العاملة والمثقفين، ليس في مصر وحدها، بل في سائر أرجاء الوطن العربي.
وقد تنبهت الحركة الناصرية لدور الدين الإسلامي ومبادئه في استقطاب أوسع الجماهير لتأييد استراتيجياتها ومبادئها، فتبنت تفسيرات جديدة متنورة للتشريع الإسلامي، بما لا يتعارض مع محاولاتها المستمرة في علمنة الدولة وتمدين النظام السياسي القائم في مصر. وبدى ذلك جليا في الستينيات، حين تبنى النظام الناصري بعض التطبيقات الإشتراكية، وأجرى سلسلة من التأميمات، فقد صدرت فتاوى دينية عديدة، توضح أن الإسلام دين الإشتراكية، مستندة في ذلك على ممارسات الخلفاء الراشدين وصحابة الرسول. وخلال الحقبة الناصرية، أصبحت جامعة الأزهر، المؤسسة الدينية الرائدة في العالم الإسلامي، تحت السيطرة المطلقة للنظام في مصر.[1][47]لكن التحشيد الإعلامي المستند بالدرجة الأولى على الدعوة للقومية العربية وتحقيق الوحدة، كان أوسع بكثير من التركيز على الأمور والتفسيرات الدينية.
وتجدر الإشارة إلى أن فكرة الوحدة العربية كانت مطروحة دائما من قبل الحكومات المصرية التي سبقت قيام ثورة 23 تموز/ يوليو عام 1952م، إلا أن تلك الحكومات لم تتقدم بخطوات عملية نحو تحقيقها. ولعل الحدث القومي الوحيد الذي تحقق في مصر قبل قيام الثورة كان تأسيس جامعة الدول العربية عام 1945م، التي اتخذت من القاهرة مركزا رئيسيا لمقراتها.
إلا أن القيادة السياسية المصرية الجديدة، في خضم المعارك التي خاضتها، بدءا بكسر احتكار مبيعات السلاح، وتأميم قناة السويس إلى مواجهة العدوان الثلاثي الغاشم 1956م، وبناء السد العالي تنبهت لأهمية المشرق العربي، وبالتالي لأهمية الزخم القومي كرافد لها في معركتها الوطنية، فكان أن التحمت مع القوى القومية في الشام لتصنع معها أول وحدة بين قطرين عربيين في العصر الحديث.
ومنذ ذلك الحين، اتجهت القيادة المصرية إلى وضع الدعوة للوحدة العربية في سلم أولوياتها مؤكدة على أن مصر قلب العروبة النابض، والقائد الفعلي لمسيرتها. وقد آمن عبد الناصر أن قيادته ستكون قادرة على إحداث تحولات اجتماعية نوعية تقدمية وجذرية، من خلال هيمنة الدولة على وسائل الإنتاج، وإعادة توزيع الثروة. إن تحقيق هذين الهدفين، سوف لن يؤمن العدالة الإجتماعية للشعب المصري فحسب، ولكنه سيساهم أيضا في تعزيز قوة الأمة، بما يؤدي إلى تحشيد طاقاتها حول تحقيق هدف الوحدة العربية.[1][48]
أصبحت تلك الرؤية الأساس الآيديولوجي لما أطلق عليه لاحقا بالإشتراكية العربية. وقد أريد لـها أن تكون نظاما وسطا بين الماركسية التي تدعو إلى تفعيل الصراع الطبقي وتأجيجه، وترفض الملكية الفردية، وبين النظام الرأسمالي الذي يهتم بالدرجة الأولى بمصالح الأفراد على حساب مصلحة الغالبية، وتهيمن في ظله الطبقة الرأسمالية على وسائل الإنتاج. أما “الإشتراكية العربية”، فإن أدبياتها بخلاف الماركسية والرأسمالية، ترى أن يقف الشعب بكافة قواه العاملة حول الحكومة الوطنية التي تعمل لصالح مجموع أفراد الشعب، وليس لصالح طبقة معينة من الناس، سواء كانت الطبقة العاملة أو الطبقة الرأسمالية. وعلى هذا الأساس فإن الصراع الطبقي يمكن حله سلميا عن طريق الوحدة الوطنية، كمقدمة لا بد منها لتحقيق الوحدة العربية. إن على مصر أن تحشد الشعب العربي للنضال من أجل الوحدة، وفي نفس الوقت، عليها أن تتجنب كل ما من شأنه أن يضعها في موقع تتهم فيه بالتدخل في الشؤون الداخلية للأقطار العربية الأخرى.[1][49]
وقد قوبلت الأفكار الناصرية بتأييد واسع على مستوى الوطن العربي بأسره. ويرجع ذلك إلى عوامل عديدة، بأتي في المقدمة منها شخصية الرئيس عبد الناصر نفسه، ونجاحه مع مجموعة من زملائه الضباط في الإطاحة بنظام الملك فاروق الذي عرف عنه فساده وعدم قدرته على التصدي للمشروع الصهيوني، والإنتصار السياسي للنظام الناصري في معركة السويس عام 1956م، وبناء السد العالي بأسوان، وقيام الجمهورية العربية المتحدة بين مصر وسوريا عام 1958م، وتعاظم التطلعات والأماني العربية ببروز قيادة مقتدرة تدافع عن عروبة فلسطين. لقد أدت هذه العوامل مجتمعة إلى تحفيز الأمل في مختلف الأقطار العربية بقيام أمة عربية موحدة، تمنح زخما، وتفتح طريقا للثورة الإجتماعية القادرة على تحقيق النهضة والتقدم والعدالة الأجتماعية في هذا الجزء من العالم.مع بداية الستينيات مؤشرات جديدة، مجسدة وعيا سياسيا من طراز آخر، مقررة أن الوحدة العربية ليست تشبثا بماض سلف، وإنما ضرورة حضارية، وأنها السبيل الوحيد الذي يمكن العرب من فك ارتباطهم بالنظام العالمي وتحقيق التكامل الإقتصادي فيما بينهم. وأنه في ظل الوحدة لن تضطر الأقطار العربية لارتهان حريتها وسيادتها لقاء الديون أو الحماية العسكرية الأجنبية.. وأن الرفض القومي لسياسات الاستعمار الغربي وقاعدته إسرائيل لن يكون رفضا منفعلا وسلبيا وعاجزا، بل ستكون له مقوماته المادية والموضوعية المتمثلة في عمق الأمة وفي وضع إمكاناتها ومواردها مجتمعة في خدمة هذا الرفض، بما يضمن تحقيق التقدم والتطور لشعوبها، وهو ما يعطي الحديث عن الحرية مضمونه الواقعي.
وجرى الحديث عن سوق عربية مشتركة، يمكن من خلالها زيادة الإنتاج ومعالجة اختلالين رئيسيين يعيشهما الوطن العربي هما: الاختلال في التوزيع السكاني والاختلال في توزيع الثروة. كما برزت اطروحات تطالب بإعادة تشكيل الخارطة السكانية والاقتصادية العربية، وباعتماد سياسة التخطيط والبرمجة القوميين. وجرى التأكيد على أن أحد الظواهر المميزة لهذا العصر أنه عصر كتل وتحالفات كبرى بين الشعوب.. ولهذا فإن الوحدة العربية تأتي ضمن سياق تاريخي وموضوعي، كونها تنسجم في تشكيلها مع اتجاهات العصر. وأنها والحال هذه، ليست تعارضا مع الولاء للتربة والانتماء الوطني بل إنقاذا وترسيخا لهما، حيث تضع الجزء في مكانه الصحيح من الكل، وحيث يستطيع القطر العربي الواحد أن يكون فاعلا ومؤثرا ضمن مجموعة أقطار صحيحة فاعلة ومؤثرة.
وربما كان الميثاق القومي للاتحاد الاشتراكي في مصر، وبعض المنطلقات النظرية الصادر عن المؤتمر القومي السادس لحزب البعث العربي الاشتراكي، الأكثر وضوحا في التعبيرعن هذه الأفكار الجديدة.[1][50]
وكانت هناك حركات قومية أخرى، لكنها لم تستطع لعب أدوار رئيسية كتلك التي لعبها البعث والحركة الناصرية. ففي بداية الستينيات، برزت حركة القوميين العرب، وشاركت في نشر فكرة القومية العربية. وقد عرفت بتعاونها الوثيق والطويل مع الرئيس عبد الناصر، حيث استمر ذلك التعاون منذ تأسيسها، حتى هزيمة حزيران/ يونيو عام 1967م.
إلا أن إنجاز هذه الحركة لم يكن بجحم انجازات حزب البعث أو الحركة الناصرية، اللذين لم يكونا فقط أكثر حظا ووضوحا في أيديولوجياتهم السياسية، ولكنها تمكنا عمليا من الوصول إلى السلطة في الأقطار العربية التي انبثقت حركتهما منها. وقد اقتصر دور حركة القوميين العرب في مرحلة تأسيسها على تحشيد الجماهير العربية تجاه فكرة الوحدة، بدلا من تقديم صياغات نظرية وفكرية متميزة. ومع ذلك كان لها منذ البدء الدور المبادر والبارز في تنشيط المقاومة الفلسطينية المسلحة ضد الكيان الصهيوني.
هناك حركات سياسية أخرى، نشطت في الوطن العربي في تلك الحقبة، من بينها الأحزاب الشيوعية العربية في سوريا والعراق ومصر والسودان. لكن ارتباط تلك الأحزاب مع مركز الشيوعية العالمية بالإتحاد السوفييتي جعل سياساتها تجاه القضايا العربية محكوم بمواقف الدولة السوفييتية التي تبنت قرار التقسيم رقم 181 الصادر عن الأمم المتحدة في تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1947م، والقاضي بإيجاد دولتين على أرض فلسطين احداهما يهودية والأخرى فلسطينية. كما أنه من الدول التي اعترفت بدولة اسرائيل حين الإعلان عن قيامها مباشرة. وكان من الطبيعي أن تتبنى معظم الأحزاب الشيوعية العربية قرار التقسيم، وأن تعترف بمشروعية قيام الكيان الصهيوني.
ولم يختلف موقف الحزب الشيوعي الفلسطيني ذاته، عن تلك المواقف. فقد اكتفي منذ المرحلة التي أعقبت تأسيس الدولة العبرية وحتى المرحلة التي سبقت عدوان الخامس من حزيران/ يونيو 1967م، بالتنديد بالإنتهاكات الإسرائيلية لحقوق الإنسان الفلسطيني، والمطالبة بمزيد من الحريات والمساواة في الحقوق للفلسطينيين الذين بقوا في الأرض المحتلة منذ عام 1948م، باعتبارهم مواطنين اسرائيلييين، متعاونا في ذلك مع الحزب الشيوعي الإسرائيلي (راكاح). ولم يتبدل هذا الموقف إلا بعد احتلال اسرائيل للضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967م، حيث تبنى الحزب الشيوعي الفلسطيني، كما تبنت غيره من الأحزاب الشيوعية العربية الأخرى، موقف الإتحاد السوفييتي في ضرورة تطبيق قراري مجلس الأمن الدولي رقم 242، 338 القاضيين بانسحاب اسرائيل من الأراضي التي احتلتها في حرب حزيران/ يونيو عام 1967م.
وكان موقف هذه الأحزاب من الوحدة العربية، هو نفس الموقف الذي تبناه الإتحاد السوفييتي الذي يرى في الأمة العربية مشروعا للتشكل، وليس وجودا قائما، وأن الدعوة للوحدة العربية تغيب المفهوم الأممي الرافض للإتجاهات القومية، باعتبارها نتاج لصعود الرأسمالية، وكونها تحول دون تحقيق تحالف الطبقة العاملة في العالم، بغض النظر عن الإنتماءات القومية، في جبهة واحدة ضد الإمبريالية والرأسمالية.
كما وجد الشيوعيون في الدعوة للوحدة القومية، وتحشيد الشعب العربي بكافة قواه لتحقيق هذا الهدف تمييعا للصراع الطبقي. وكان موقف سكرتير الحزب الشيوعي السوري السيد خالد بكداش حين إعلان قيام الوحدة المصرية السـورية عام 1958م، التجسيد العملي لذلك الموقف. فقد كان آنذاك عضوا في البرلمان السوري القائم قبل اعلان الوحدة بين سوريا ومصر, وكانت مراسيم الوحدة قد اقتضت أن يجري تصويت المجالس التشريعية في البلدين: مجلس الأمة في القاهرة، والبرلمان السوري في دمشق على ميثاق الوحدة. وفي اليوم المحدد للتصويت غادر بكداش دمشق إلى أوروبا الشرقية، ومن هناك بدأ تصريحاته المعادية لقيام الوحدة بين سوريا ومصر.
وإلى جانب هذه الأحزاب، برز الحزب القومي الإجتماعي السوري الذي أسسه أنطوان سعادة. وكان هذا الحزب قد بدأ مسيرته مناضلا ضد الوجود الفرنسي في بداية الثلاثنينات من القرن العشرين. وقد اعتمد الحزب في هويته على الخصائص الإقليمية والجغرافية للهلال الخصيب، معتبرا هذا الهلال ونجمته جزيرة قبرص وطنا قوميا لكل السوريين. وبذلك رفض الإتجاه القومي المنطلق من الإلتزام بالوحدة العربية. وقد ركزت أدبياته على فصل الدين عن الدولة، وإحياء نهضة سوريا لتتبؤ مكانتها بين الإمم، ودعت إلى إقامة دولة مستقلة قوية ترعى مصالح مواطنيها، وتساهم في تقوية العلاقات مع بقية الدول العربية.
وإثر استقلال لبنان من الإستعمار الفرنسي، رفض زعيم الحزب قيام دولة لبنانية بكيان قانوني، وطالب بانضمام لبنان إلى سوريا. وحدثت مواجهات مسلحة بين حزبه وحزب الكتائب الذي كان مدعوما من قبل السلطات اللبنانية آنذاك. ولجأ أنطوان سعادة، زعيم الحزب إلى سوريا لكنه ما لبث أن أعيد إلى لبنان، وتم اعتقاله وسارعت السلطات إلى تنفيذ حكم الإعدام به في 8 تموز/ يوليو عام 1949م.
اصطدم الحزب القومي السوري الإجتماعي مع حزب البعث، وقام باغتيال عدنان المالكي أحد العناصر البعثية الناشطة في سوريا. كما اصطدم بالحركة الناصرية ووقف إلى جانب اليمين في الحرب الأهلية، أثناء رئاسة كميل شمعون عام 1958م، كما وقف إلى جانب حلف بغداد. وفي عام 1961م، نفذ الحزب انقلابا فاشلا في لبنان أدى إلى اعتقال مجموعة كبيرة من كوادره.
وقد عاش هذا الحرب صراعا عقائديا في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات، حيث تبنت غالبية كوادره الإتجاه الماركسي، مع احتفاظها بالهلال الخصيب اقليما لحركتها. وكان التطور الجديد الذي شهده الحزب فيما يتعلق بموضوع الهوية، توضيحه أن منطلقاته النظرية ليست معادية للعروبة. وخلال الحرب الأهلية اللبنانية الثانية عام 1975م شارك الحزب إلى حانب حركة المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية، ونشط في مواجهة الميليشيات اليمينية والجيش اللبناني طيلة فترة الحرب.
كما برز من بين الحركات السياسية الناشطة في المشرق العربي جماعة الإخوان المسلمين وحزب التحرير الإسلامي، وهما حركتين اسلاميتين سلفيتين. تأسست الأولى، جماعة الإخوان المسلمين في مصر عام 1929م. وتقول أدبياتها أن الهدف من تأسيسها العمل على توحيد جهود المسلمين وتوجيههم التوجيه الصحيح ليتمكنوا من درء الشر الذي يحيق بهم. وقد رفضت هذه الحركة فكرتي القومية والأممية، والفصل بين السلطات. ودعت إلى العودة إلى قيام نظام سياسي على أسس دينية. واصطدمت الجماعة في المرحلة الأولى من تأسيسها مع نظام الحكم الملكي، ثم مع النظام الجمهوري رغم أنها قامت بمحاولات تكتيكية مع كلاهما انتهت بفشل ذريع، حيث انتهى قادة الجماعة إما إلى الإغتيال أو التشريد أو القتل.
وفي الستينيات، لعبت هذه الحركة أدوارا رئيسية، إعلامية وتوجيهية، في بعض مناطق الخليج والجزيرة، وواجهت بحدة الأفكار الإشتراكية والقومية والأممية، وساهمت في تعطيل الوعي القومي. لكنها ما لبثت أن أفرزت، في بنيتها التحتية عناصر مناوئة، للأنظمة السياسية العربية التي احتضنتها، وقفت بحدة وعنف لمظاهر الفساد والتمدين اللذين سادا أبان الحقبة النفطية منذ منتصف السبعينيات عموم المنطقة.
أما حزب التحرير الإسلامي، فقد أنشأه تقى الدين النبهاني في أوائل الخمسينيات. وقد نشط بالأردن والمناطق المجاورة. وكان منذ نشأته معارضا لجماعة الإخوان المسلمين، لكن دوره أقل منها بكثير. كما كان معاديا لحركة التحرر العربي، ولم تأخذ نشاطاته زخما اعلاميا بارزا. وقد نادى الحزب بوجوب التقيد بالدين على أساس أنه دين ودنيا.
إلى جانب هذه الحركات، لعبت أحزاب عربية أخرى أدوارا رئيسية اقتصرت على الأقطار التي نشأت فيها، كجبهة التحرير الوطني الجزائرية التي قادت ثورة الجزائر، وحزب الإستقلال في العراق، وحزب الإستقلال المغربي بزعامة علال الفاسي، والحزب الدستوري التونسي الذي أسسه الحبيب بورقيبة رئيس الجمهورية التونسية السابق، الذي شارك بدور رئيسي في النضال الوطني ضد الإستعمار الفرنسي من أجل تحقيق استقلال تونس، والحزب الوطني الإتحادي الذي أسسه اسماعيل الأزهري، أول رئيس للوزراء في السودان بعد الإستقلال، وحزب الأمة الذي أسسه عبد الرحمن المهدي، زعيم الطائفة المهدية في السودان. والجبهة القومية، وجبهة تحرير الجنوب اليمني المحتل اللتين لعبتا أدورا رئيسية في المقاومة المسلحة ضد الإستعمار البريطاني في اليمن الجنوبي.
لكن جميع هذه الحركات والأحزاب السياسية، لم تطرح الهوية العربية والتوجه القومي بحدة في أدبياتها، ولم تكن لها امتدادات فكرية رئيسية في الأقطار العربية الأخرى، ولذلك ليس هنا مجال الحديث عنها.
* * * *
وخلاصة القول، أن مفهوم الهوية تطور في هذه المرحلة، وأصبح يحمل مدلولات ومضامين اجتماعية جديدة، تمثلت في انفتاحه على التيارات السياسية والفكرية والإنسانية الحديثة وتبنيه لمنطلقات تقدمية واشتراكية. لكن الإنتماء إلى الأمة بقي مرتبطا بالعربية لغة وثراثا وثقافة وجغرافيا، ووعي بتاريخ ونضال مشترك، وروابط وطنية وعاطفية حرك كوامنها احتكاك مباشر مع الأجنبي المحتل.
والنتيجة أنه رغم جميع هذه التطورات السياسية الإيجابية، على صعيد نمو الفكر القومي، فإن الحركة القومية لم تستطع التعبير عن ذاتها بوجود حركة سياسية فاعلة وموحدة على امتداد الوطن العربي، وأن ذلك ظل مقتصرا حتى يومنا هذا على المشرق العربي، رغم محاولات جنينية جادة هنا وهناك.
ومع أن فترة الخمسينيات والستينيات، حتى نكسة الخامس من حزيران عام 1967م كانت حقبة نهوض قومي، تمكنت فيها معظم الأقطار العربية من إنجاز استقلالها السياسي، إلا أن الحركة القومية بقيت تعيش بمنطلقاتها الرومانسية. ولم تتمكن بسبب من تدافع الأحداث وتجنبا لأي تصدع في جبهتها، من وضع استراتيجية نضالية تشمل الأرض العربية بأسرها، أو صياغة نظرية شاملة لمنطلقاتها. كما اقتصر تواجد تنظيماتها على بعض المناطق العربية، خلافا لتنظيراتها التي تؤكد على أهمية الإنتشار الأفقي على امتداد الساحة العربية. وقد أدت عوامل الضعف هذه إلى استمرار واقع التجزئة وعجز الحركات السياسية الوحدوية وأنظمتها عن تحقيق هدفها في الوحدة العربية.
هكذا تعطل أمل الشعب العربي في قيام دولة عربية موحدة..
وقد ساهمت عوامل أخرى في تعطيل هذا الأمل، منها ضعف التشكيلات الاجتماعية في بنيان الأمة، والظروف التي نتجت عن التصحيح النسبي في أسعار النفط وزيادة انتاجه، وطغيان القضايا القطرية وفي المقدمة منها نكسة الخامس من حزيران/ يوينو 1967م، وأحداث أيلول/ سبتمبر عام 1970 في الأردن، والغزو الإسرائيلي لبيروت 1982، والحرب العراقية الإيرانية 1980م، وحرب الخليج الثانية 1990م. وقد باعدت جميع هذه الأسباب بين المسافات وعطلت من تحقيق الحلم.
كما أن ظروفا موضوعية أخرى نتجت عن طبيعة التحدي والمواجهة للإستعمارين الفرنسي والبريطاني ساهمت بشكل مباشر في أن لا يتحقق الحلم، وفي استمرار نهج التجزئة في النسيج الاجتماعي للأمة. فالشعب العربي الذي واجه الاستعمار التركي بأرضية واحدة وسقف مشترك اكتشف أن المستعمرين الجدد، بريطانيين وفرنسيين، حين قسموا غنائم الحرب فيما بينهم قاموا برسم حدود مصطنعة توافقت مع أهوائهم ومصالحهم، وأنهم غيبوا في تلك القسمة حقائق الجغرافيا والتاريخ…
وكانت نتيجة ذلك أن غدا التشكيل الجديد للخريطة السياسية والاقتصادية للوطن العربي مختلا ومشوها وزائفا، لكنه في ذات الوقت أصبح أمرا واقعا، ترك بصماته واضحة على معركة التحرر الوطني، حين امتشق كل قطر، على حدة، سلاحه للتخلص من الاستعمار الغربي وبناء دولته المستقلة وتأمين مستقبل أجياله. وعندما تمكنت تلك الأقطار من انتزاع الاعتراف باستقلالها، اكتشف الشعب العربي أن طموحاته في التحرر وصلت إلى طريق مسدود، ذلك أن الاستعمار الذي كان مندوبه السامي يصدر الفرمانات ويعين الحكام، خرج من الباب ليعود من النافذة في صيغة استعمار جديد، يتحكم في الثروات والمقدرات، ويعيق تقدم الأمة ويحول دون وحدتها. واكتشف أيضا أن حفنة صغيرة من السماسرة وكبار الملاك تستحوذ على معظم الناتج القومي للبلاد. وقد حفز ذلك على انبثاق مرحلة جديدة من مراحل الوعي العربي.[1][51]
وكانت تلك المرحلة هي معركة التحرر الاجتماعي والاقتصادي، وكان محورها تحقيق العدل الاجتماعي، ونقل ملكية الركائز الرئيسية للإقــتصاد للقطاع العام، خاصة تلك التي كانت تستثمر من قبل القوى الأجنبية التي اعتبرت معادية للأمة. ولم يكن تحقيق ذلك بالأمر السهل، فقد صاحبه صخب وغليان ومواجهات ومعارك خاضها الشعب دفاعا عن وجوده ومستقبله. وقد تطورت تلك المعركة لتشمل مصادرة الأراضي الزراعية وتوزيعها على الفلاحين في عديد من الأقطار العربية: مصر وسوريا والعراق، وفي تأميم بعض الصناعات، خاصة الثقيلة منها.
وبعد العبور العظيم في حرب تشرين/ أكتوبر عام 1973م، وإعلان الدول العربية النفطية حظر تصدير النفط للدول المؤيدة للكيان الصهيوني، بدأت مرحلة جديدة في تاريخ العرب الحديث، تلك هي حقبة النفط. وقد صاحبتها تغيرات استراتيجية في المفاهيم السياسية، خاصة فيما يتعلق بالموقف من إدارة الصراع مع العدو الصهيوني، ومفاهيم الوحدة العربية والعدل الاجتماعي. كما صاحبت تلك الحقبة تغييرات رئيسية في البنى والهياكل الاجتماعية في عموم المشرق العربي، خاصة في الأقطار المصدرة للنفط.
وفي هذه المرحلة برزت منظومات إقليمية كمجلس التعاون الخليجي، الذي يضم المملكة العربية السعودية والدول العربية الواقعة على ساحل الخليج العربي: الكويت والبحرين ودولة الإمارات وقطر وعمان، ومجلس التعاون العربي الذي ضم: الأردن ومصر والعراق واليمن، ومجلس التعاون المغاربي الذي ضم دول المغرب العربي: ليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا. وقد صدرت شهادة الوفاة لمجلس التعاون العربي إثر حرب الخليج الثانية، ولم يعد هناك وجود فعلي لمجلس التعاون المغاربي، أما مجلس التعاون الخليجي فقد بقي دوره احتفائيا، ودون طموحات شعوبه بكثير، ولم يستطع تقديم أجوبة عملية وكافية على الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تواجهها كياناته. وقد أشرت حرب الخليج الثانـية والتداعيات الكبيرة في أسعار النفط بداية النهاية للمرحلة الأخيرة في المحاولات العربية للبحث عن هوية.
خــاتـمة
ارتبط وعي العرب بهويتهم، منذ بدايته باللغة العربية. وعلى الرغم من أن الوجود العربي موغل في القدم لكن نهوض هذه الأمة ارتبط بالإسلام. وكانت اللغة باستمرار العامل الحاسم في الإنتماء إلى العروبة، في كل المراحل التي مرت بها الأمة. وقد مر العرب خلال تاريخهم، بنهوض وانقطاع ومد وجزر، حالهم في ذلك حال الأمم الأخرى.
وترافقت المرحلة الجنينية لهذا الوعي بنزعة التحرر وروح البداوة، ونشوء نظام اجتماعي قائم على أساس الولاء والعصبية للقبيلة. واقتصر وجود اللغة العربية في تلك المرحلة على الجزيرة العربية والتخوم الجنوبية للعراق والشام، بالحيرة وبادية الشام. وقد ظهر الخط العربي وانتشر الأدب من شعر ونثر في عموم تلك المناطق، مؤديا إلى خلق روابط ثقافية واجتماعية عميقة بين القبائل العربية.
وكان بزوغ الإسلام حدثا تاريخيا كبيرا في حياة العرب، حيث تم تأسيس أول دولة مركزية عربية شاركت بفعالية في صنع القفزات الحضارية في هذا الجزء من العالم. وقد اتخذت هذه الدولة موقفا سلبيا من البداوة، وشجعت على الإستقرار والحياة المدنية. وفي هذه الحقبة أخذ النضج الثقافي للأمة يأخذ مكانه، وتم وضع أصول الدراسات العربية والإسلامية. وقد أعطى نزول القرآن الكريم باللسان العربي وحمل العرب راية الإسلام واقتران أمجاده بهم دورا مركزيا لهم في المسيرة الإسلامية.
وقد نتج عن شعور العرب بتميزهم في هذه المسيرة بروز حالة من الإستعلاء العرقي في نفوسهم، تجسدت في استمرار أخذ الجزية على من أسلم من غير العرب في عهد بعض الخلفاء الأمويين. كما أدى ذلك إلى ثبات البناء العشائري والقبلي في المجتمع العربي. وقد تم فرض اللغة العربية في جميع المراكز والثغور الإسلامية. وانتهج الخلفاء الأمويون سياسة عدم تمكين المسلمين من غير العرب من تسلم الوظائف المهمة في الدولة. وكان معنى ذلك استمرارية قوانين القبيلة، وتغليب فكرة النسب كرابطة اجتماعية، مما أربك مفهوم الإنتماء للأمة. ولذلك أصبح التنافر منتظرا بين الإتجاه الذي اعتبر الهوية قائمة على أساس جعل الإسلام مفهوم الأمة في الحياة العامة، وبين أولئك الذين اقتصروا على رؤية النسب أساسا في تحديد الهوية والإنتماء إلى الأمة.
وتزامنت المرحلة التالية من مراحل تطور الوعي العربي بنجاح الحركة العباسية ومشاركة الفرس فيها. وكان ذلك إيذانا بتراجع العصبية العربية القبلية، ونجاح فكرة المساواة. وصاحب ذلك قيام نهضة علمية، تصاعدت بالتوسع الجغرافي، وساهمت في تحول المراكز القبلية إلى مجتمعات حضرية ومراكز للثقاقة العربية الإسلامية. وبرزت مدينتي بغداد والبصرة كأكبر مركزين علميين في ذلك العصر.
وفي هذه المرحلة، بدأ العرب بهجرات واسعة إلى الأرياف واستقروا بها واشتغلوا بالزراعة. وفي المدن عاودوا ممارسة التجارة، وضعف وجود من هاجر منهم في الديوان. واختلط العرب بغيرهم من شعوب الأمم الأخرى، وساهموا في نشر اللغة العربية، وتفاعلوا مع غيرهم، مما حقق تماثلا في القيم والنظر إلى الحياة. وقد تعززت فكرة الإنتماء إلى اللغة والأرض بديلا عن الإنتماء للعرق، وتراجع البنيان القبلي. وتطورت فكرة الأمة من أقوام تتحدد هويتهم على أساس انتماء عرقي إلى شعب ينتمي للغة وحضارة وأرض وثقافة مشتركة.
ومع ضعف الوجود العربي في الديوان، طغت العناصر الفارسية، في عهد الخليفة العباسي المأمون، والتركية فيما بعد في المراحل التي أعقبت وصول الخليفة المتوكل للحكم. وكان تدخل العناصر غير العربية واحدا من أسباب ضعف دولة الخلافة وتداعيها، وبروز أكثر من خلافة في دار الإسلام. وأدى ذلك إلى القضاء على الوحدة السياسية للدولة العربية الإسلامة، وبروز الدويلات وتعدد الكيانات. لكن فكرة أمة واحدة بقيت حلما يراود الكثير من العرب. وفي تلك المرحلة بزر تضاد بين خطي السلطة والنهضة، ففي الوقت الذي تداعي فيه خط السلطة، استمر خط النهضة البياني في الصعود.
وقد نتج عن حالة التداعي بروز لغات جديدة، كالفارسية في دار الإسلام، لكن العروبة والإسلام بقيا متلازمين في تشكيل الهوية بالنسبة للعرب. وبعد سقوط دولة الخلافة وسيادة الصراعات بين الممالك المحلية، تطاولت الجيوش الأجنبية على الوطن العربي. ومر العرب بفترات طويلة من الإنقطاع الثقافي والحضاري. وعلى الرغم من أن الدول التي رزح العرب تحت سيطرتها كانت تعتنق الإسلام، فقد نحوا عن السلطة وعن المشاركة في صناعة القرار.
وهكذا فحين وصل العثمانيون إلى الحكم بدى واضحا تباعد الخطوط بين انتشار العربية وانتشار الدين الإسلامي. وتحت هيمنة العثمانيين استمرالعرب في نوم عميق، ومارس الأتراك بحقهم اضطهاد عنصري. واتسمت تلك الفترة بالتخلف واستبداد السلطان. وحين ضعفت السلطنة كانت المقاومات الثقافية والحضارية للأمة العربية قد انتابها الضعف والإضمحلال، مما أدى إلى ضعف مقاومتها للغزو الغربي.
وعبر العرب عن رفضهم للهيمنة العثمانية بمحاولات جادة في الإنفصال، في مصر وبلاد الشام والجزيرة العربية، لم يكتب لها أن تعمر طويلا. وحين حدثت الحملة الفرنسية على مصر، أتيح للعرب الإتصال والإنفتاح على الحضارة الغربية بمختلف جوانبها السياسية والأدبية والفكرية والعلمية والفنون والطباعة والصحافة. وفيما بعد، أسهم محمد على باشا في تعزيز هذا الإنفتاح بإرساله بعثات مصرية للدراسة في الجامعات الأوروبية والتخصص في مختلف العلوم التطبيقية والنظرية. كما أسهم عبر احتلاله لبلاد الشام والسودان والجزيرة العربية في التنبيه على أن تنمية مصر تقتضي عدم تقوقعها داخل حدودها. وفي عهد الخديوي اسماعيل استؤنفت البعثات العلمية إلى فرنسا.
وفي بداية القرن التاسع عشر برزت حركة أدبية وفكرية واسعة بالمشرق العربي، وأنشأت الجمعيات العلمية، كما حدثت نهضة صحفية. ودعوات فكرية واجتماعية للتجديد، كان من روادها الشيخ جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده اللذين ناديا بتحرير العقل من الخرافات والأوهام، ودعيا إلى الوحدة بين المسلمين وإزالة الفروقات بين المذاهب الإسلامية. وتعززت فكرة الوطنية مع رفاعة رافع الطهطاوي، وجاء عبد الرحمن الكواكبي من بعده حاملا على الحكم المطلق والجهل، ومطالبا بالحرية السياسية.
وكانت طبيعة المواجهة مع الإستعمار قد حكمت تطور مفهوم الهوية بهذه المرحلة. ففي المشرق العربي بقي النضال قوميا خالصا، لأن الإستعمار التركي لم يكن في مواجهة مع الدين الإسلامي. أما في المغرب العربي فقد تداخلت المعاني القومية والدينية في النضال الوطني ضد الإستعمار الغربي، الذي هدف إلى تخريب الثقافة القومية وفي المقدمة منها محاربة المعتقدات الإسلامية، باعتبارها جزء من عقيدة الشعب وعناصر مقاومته التي يستند عليها في مواجهة الإحتلال.
وعند بداية القرن العشرين كان الشعب العربي في المشرق قد وحد صفوفه، وبدأ مقاومته للحكم التركي، من أجل تحقيق الإستقلال الكامل. وساعدت ظروف الحرب العالمية الأولى، وضعف الجبهة الألمانية، ووعود الحلفاء بالتعاون مع العرب لتحقيق الإستقلال، على قيام الثورة العربية وهزيمة العثمانيين. لكن تلك المرحلة انتهت بانتكاسة مروعة، وهزم مشروعها في التحرر، حين جرى تطبيق اتفاقيات سايكس بيكو وبدأ التنفيذ العملي لوعد بلفور.[1][52]
وكان من الطبيعي، بعد هزيمة المشروع القومي في مرحلته الأولى أن تتطور صيغ الكفاح القومي، وأن ترقى إلى أبعاد جديدة تتجاوز النضال من أجل وحدة الأرض واستقلال الأمة إلى تبني مضامين اجتماعية وسياسية، ترى في الوجود الإستعماري تهديدا للوجود الحضاري، ونهبا لثروات الشعب ومقدراته، وسدا يحول دون قيام تطور اقتصادي وتنمية حقيقية في البلد المستعمر.
وخلال الحقبة التي أعقبت نهاية الحرب العالمية الأولى، بدأ تنفيذ المشروع الصهيوني في إقامة وطن قومي لليهود على أرض فلسطين، وتسارعت الهجرة اليهودية إلى أرض السلام، وبرزت مرحلة جديدة من النضال القومي، نتج عنها قيام حركات سياسية عديدة على أسس قومية وتقدمية جديدة، نشطت في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين. كما تعززت فكرة المساواة والتوزيع العادل للثروة. وعلى الرغم من أن هذه الحركات تمكنت من انجاز كثير من أهدافها، لكنها ووجهت منذ نكسة الخامس من حزيران/ يونيو بانتكاسات عديدة، نشطت على أثرها الدعوات القطرية كما نشطت الحركات السياسية الإسلامية السلفية، وبرزت منظومات جديدة على أسس اقليمية، كمجلس التعاون الخليجي ومجلس التعاون العربي، ومجلس التعاون المغاربي. لكن تلك المنظومات لم تتمكن من الإضطلاع بحماية الأقطار المنضوية إليها وتحقيق طموحات شعوبها، مما يؤكد عدم إمكانية تحقيق أمن جماعي قومي حقيقي خارج إطار الوحدة العربية.
* * * *
والخلاصة أن الشعب العربي حمل خلال القرن العشرين مشروعين للنهضة، عبرا عن موقف حضاري لمفهوم الهوية. تمثل الأول في معارك التحرر الوطني ومواجهة الاستعمار التركي منذ النصف الأخير للقرن التاسع عشر والاستعمار الغربي فيما بين الحربين العالميتين. أما الآخر فقد كان مشروع التحرر الوطني وتحقيق العدل الإجتماعي والوحدة العربية. وليس من شك أن الأمة استطاعت، بقواها الحية، أن تنجز كثيرا مما طمحت له في هذين المشروعين.. يكفيها أنها أنجزت الاستقلال وواجهت العدوان الصهيوني والاستعماري واقفة ولم تخضع. ويكفيها أيضا، أنها كانت تحلم..
لكن ما تحقق من الآمال لم يزل دون مستوى أحلامنا بكثير. ومنذ نكسة الخامس من حزيران عام 1967م ونحن ما نكاد نخلص من كبوة إلا ونقع بأخرى، رغم وميض مقاومة فلسطينية، وثورة حجارة سرعان ما جير رصيدها على طاولة المفاوضات لحساب طلاب التسوية، ورغم تمكن المقاومة الباسلة لشعب الجنوب اللبناني من انتزاع النصر وإرغام قوات الاحتلال الإسرائيلي على انسحاب مهين من لبنان.. ورغم محاولات جنينية هنا وهناك، ترفض القبول بفكرة أن الهيمنة الأمريكية هي القدر المقدر، وتواجه بالخذلان ..
إن العالم من حولنا يتحرك.. وقد حمل العقد الأخير من القرن العشرين تبدلات جوهرية ورئيسية كان سقوط الإتحاد السوفياتي ومنظومته في أوروبا الشرقية أبرز معالمها. وفي الوطن العربي حدث زلزال الخليج الذي لا زالت المنطقة بأسرها تعيش تبعاته حتى هذه اللحظة. وشهدت المنطقة تسارعا في عملية التسوية مع إسرائيل.. وعلى الصعيد العلمي شهد العقد الأخير إنجازات علمية هائلة وغير مسبوقة في مجالات تكنولوجيا الإتصالات والوراثة.
يحدث ذلك كله ونحن نسير دون مشروع ودون حلم.. ويعيش بعضنا بعقلية داحس والغبراء..
إن قوى عتية تحاول جاهدة أن تلعب بالذاكرة من خلال عبثها بحقائق الجغرافيا والتاريخ والأحلام والثوابت.. وكل مواجهة لا تنطلق من ذاكرة وجغرافيا وتاريخ وأحلام وثوابت ستكون مشوهة وزائفة.. يكفيها زيفا أنها لا تعرف من أين وإلى أين تسير.. ونقطة البداية في هذه المواجهة هي أن يحافظ المثقفون العرب على ذاكرتهم، وأن يتصدوا بشجاعة لقضايا اللحظة الراهنة. إن هناك قضايا رئيسية ملحة مطلوب معالجتها بوضوح ومباشرة، تأتي في المقدمة منها قضايا التنمية الإقتصادية والسياسية والإجتماعية، ومواضيع الحرية، بما في ذلك حرية الإعتقاد وقبول الرأي الآخر، والسيادة والاستقلال، وقضايا الأقليات القومية التي تعيش بالوطن العربي، والتي تصبو إلى تثبيت هويتها الثقافية وتحقيق حلمها في الحرية والإنعتاق. وكذلك الموقف من الصراع العربي الإسرائيلي على ضوء الحقائق الجديدة التي نتجت عن تفرد الولايات المتحدة الأمريكية بالهيمنة على القرار الدولي، وتوقيع حكومات عربية عديدة على معاهدات سلام مع إسرائيل، وقيام أخرى بإقامة علاقات سياسية واقتصادية مع هذا الكيان. كما يجب التنبه لنتائج ارتباط الوطن العربي بمسيرة العولمة، بما في ذلك العلاقة بمنظمة التجارة الدولية وبالثورة الهائلة في مجال الاتصالات.. وكل هذه أمور ذات علاقة مباشرة بموضوع الهوية.
إن التصدي لهذه القضايا أمر في غاية الأهمية إذا أريد لهذه الأمة أن تحافظ على وعيها بذاتها وعلى ذاكرتها وتواصل مسيرتها بجدارة واستحقاق. والمطلوب أن يتم التفكيك والمعالجة وإعادة التركيب بعقل مفتوح وأذن واعية. وهي بالتأكيد مسؤوليات ليست فرض كفاية..
هوامش
[1][1] د. جوادعلي: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام (بيروت، دار العلم للملايين) 1972م، ص. 226-230.
[1][2] عبد العزيز الدوري: التكوين التاريخي للأمة العربية، دراسة في الهوية والوعي (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية)، 1986م، ص 19.
[1][3] د. عبد العزيز زبادية: دور الإسلام لغة وثقافة في تكوين مقومات القومية العربية وفي بعث الوعي القومي العربي، من كتاب القومية العربية والإسلام، بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية) ط. 2، عام 1988م، ص. 110-111.
[1][4] ارل بروكلمان: تاريخ الشعوب الإسلامية، ترجمة أمين فارس ومنير بعلبكي (بيروت، دار العلم للملايين، عام 1981م، ص. 13-30.
[1][5] ول ديورانت: قصة الحضارة: الجزء 2 مجلد 4، عصر الإيمان، ترجمة محمد بدران، لجنة الثقافة، جامعة الدول العربية، ط. 3، القاهرة، عام 1974، ص. 7-19.
[1][6] د. عبد العزيز الدوري: المصدر السابق، ص 21.
[1][7] المصدر نفسه، ص27.
[1][8] المصدر نفسه، ص 38.
[1][9] عبد العزيز الدوري: الإسلام وانتشار اللغة العربية والتعريب، من كتاب القومية العربية والإسلام، ص 61-90.
[1][10] عبد العزيز الدوري: التكوين التاريخي للأمة العربية، دراسة في الهوية والوعي، ص.37.
[1][11] رجاء النقاش: الإنعزاليون في مصر (بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر)، ط. 1، عام 1981م، ص. 35.
[1][12] المصدر نفسه، ص. 39.
[1][13] عبد العزيز الدوري: التكوين التاريخي للأمة العربية، دراسة في الوعي والهوية، ص. 56.
[1][14] المصدر نفسه، ص. 55.
[1][15] محمد عابد الجابري: تكوين العقـل العربي، (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية) ط. 5، 1991م، ص. 62.
[1][16] عبد العزيز الدوري: التكوين التاريخي للأمة العربية، دراسة في الهوية والوعي، ص. 41.
[1][17] المصدر نفسه، ص. 65-72.
[1][18] أحمد عبد الباقي: معالم الحضارة العربية في القرن الثالث الهجري (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية) 1991م.
[1][19] محمد عماره: الإسلام والوحدة القومية (بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1979م، ص. 161.
[1][20] عبد العزيز الدوري: التكوين التاريخي للأمة العربية، دراسة في الوعي والهوية. ص. 51.
[1][21] المصدر نفسه، ص. 65.
[1][22] عبد الوهاب الكيالي: تاريخ فلسطين الحديث (بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط. 1، عام 1970م، ص. 20-21.
[1][23] د. عبد العزيز الدوري: الإسلام وانتشار اللغة العربية والتعريب. من كتاب القومية العربية والإسلام، مصدر سابق، ص. 61- 90.
[1][24] المصدر نفسه، ص. 61- 90.
[1][25] ول ديورانت: قصة الفلسفة، منشورات مكتبة المعارف، بيروت، 1975: 126- 128.
[1][26] علي المحافظة: الإتجاهات الفكرية عند العرب في عصر النهضة 1798-1914 (بيروت، المطبعة الأهلية للنشر والتوزيع، ط. 2، عام 1978م، ص. 11- 12.
[1][27] Dr. Albert Hourani, History of The Arab People, (New York ,Warner Books) 1991, p.p. 234-248.,
[1][28] كارل بروكلمان: المصدر السابق، ص. 49-51.
[1][29] علي المحافظة: الإتجاهات الفكرية عند العرب في عصر النهضة 1798-1914، ص. 24.
[1][30] المصدر نفسه، ص. 26.
[1][31] وليد قزيحا: التحليل التاريخي للفكر القومي العربي، تطور الحركة القومية العربية في المشرق العربي، من كتاب القومية العربية في الفكر والممارسة. (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية) عام 1984م، ص. 21-24.
[1][32] علي المحافظة: المصدر السابق، ص 71-79.
[1][33] المصدر نفسه، 80-94.
[1][34] المصدر نفسه، ص. 87.
[1][35] عبد الرحمن الكواكبي: طبائع الإستبداد، من الأعمال الكاملة للكواكبي، (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية) تحقيق محمد جمال طحان، عام 1995م. ص.63.
[1][36] المصدر نفسه، ص. 98.
[1][37] أحمد صدقي الدجاني: عن العروبة والإسلام وقضايا المستقبل، من كتاب الحوار القومي الديني (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية) عام 1988م، ص. 61.
[1][38] أنطر الفصل الرابع: حول أسباب تدعي العمل القومي العربي.
[1][39] فرانز فانون: سوسيولوجية ثورة، ترجمة دوقان قرقوط (بيروت، دار الطليعة للطباعة والنشر) ط.1، عام 1970م، ص 25-62.
[1][40] عبدالإله بلقزيز، العربي مفضال، أمينة البقالي: الحركة الوطنية المغربية والمسألة القومية. (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية) عام 1992م، ص. 17- 18.
[1][41] المصدر نفسه، ص. 18.
[1][42] لمصدر نفسه، ص. 21.
[1][43] علال الأزهر: المسألة القومية والنزعة الأمازيقية وبناء المغرب العربي، (الدار البيضاء،مؤسسة بنشرة للطباعة والنشر، دار الخطابي) عام 1984م، ص. 28.
[1][44] عبدالإله بلقزيز، العربي مفضال، أمينة البقالي: المصدر السابق، ص. 24-25.
[1][45] المصدر نفسه، ص. 25.
[1][46] Albert Hourani: History of the Arab People, (Boston, Harvard University Press, 1991. p.p 401-407.
[1][47] المصدر نفسه، ص. 405.
[1][48] المصدر نفسه، ص. 406.
[1][49] حمد حسنين هيكل: لمصر لا لعبد الناصر، (القاهرة، دار السياسة للنشر) 1976م، ص. 49-59.
[1][50] راجع الميثاق الوطني (القاهرة: الهيئة العامة للإستعلامات)، عام 1962م، وبعض المنطلقات النظرية الصادر عن المؤتمر القومي السادس لحزب البعث العربي الإشتراكي (بغداد، منشورات القيادة القومية)، 1969م.
[1][51] د. منيف الرزاز: فلسفة الحركة القومية العربية، ج.2 التحدي الإستعماري (بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، عام 1979م، ص. 106-110.
[1][52] أنطر الفصل الرابع: حول أسباب تدعي العمل القومي العربي.
د. يوسف مكي
تاريخ الماده:- 2004-06-01