وداعا أسامة المفكر والشاعر والإنسان
بدأت علاقتي بالراحل الكبير، كقارئ نهم لكاتب واسع المعرفة، وعميق التحليل. وكان كتاب البيروقراطية النفطية ومعضلة التنمية، الصادر عن سلسلة عالم المعرفة بالكويت عام 1982، هو أول كتاب يقع عليه يدي، وأتمكن من قراءته. ومنذ تلك اللحظة، تابعت باهتمام ما يصدر عن الكاتب، إن في صيغة مؤلفات أو دواوين شعر، أو مقالات في صحف سيارة.
لم تتح لي فرصة اللقاء بالدكتور أسامه إلا في نهاية التسعينات، من القرن الذي مضى. ومنذ ذلك التاريخ، تكررت لقاءاتنا، وتعززت علاقتنا ببعض. كان الحديث مع الراحل هو أشبه بالتجوال في حديقة كبيرة، تتنوع أشجارها. فهو المحلل السياسي الملتزم، صاحب المواقف. وهو عالم الاقتصاد المبدع، وهو أيضا شاعر الجمال، كما هو شاعر للوطن ولفلسطين. يلتحم في ذاته عشق الوطن والأرض والشجرة والإنسان.
في ملحمته الشعرية، دفاتر الشجن، يتكشف أسامة عن شاعر كبير، ترقى قامته إلى هامات كبار الشعراء العرب. يسوح في مختلف المواضيع، بغنائية عالية، والجامع المشترك لكل إبداعاته، هو أنه المثقف الملتزم، أو بحسب توصيف أنطونيو غرامشي للمثقف العضوي.
لم تكن ملحمته دفاتر الشجن، هي الديوان الأوحد، فقد عرف بغزارة إنتاجه الشعري، أصدر عددا من الدواوين الشعرية، أبرزها “استوت على الجودي” و”شمعة ظمأى”، و”غيض الماء”، و”بحر لجي”، و”فأصبحت كالصريم”، و”موج من فوقه موج”، و”هل من محيص”، و”لا عاصم”، و”عينان نضاختان”، و”رحيق غير مختوم”، و”الحب ذو العصف”،و”الحب ذو العصف”، و”أشرعة الأشواق”، و”الأمر إليك”، و”قطرات مزن قزحية”، و” يا أيها الملأ”، و”عيون المها”، و”أوتيت من كل شيء”، و”نشرة الأخبار”، و”شعار”.
وله دراسات تنموية وفكرية، أبرزها البيروقراطية النفطية ومعضلة التنمية، والثقافة بين الدوار والحصار، والتنمية بين التحدي والتردي، وعفوا أيها النفط، والمثقفون والبحث عن مسار، والمأزق العربي الراهن، هل إلى خلاص من سبيل.
وأكثر ما تميز به الراحل، على الصعيد الإنساني، هو زهده عن الدنيا، وثباته على المواقف، ووفاؤه لأهله وأصدقائه وزملائه. ولم يكن هذا الثبات من غير ثمن. فقد أدى به ذلك، في نهاية المطاف إلى اختيار العزلة في صومعة الفكر. وكان زلزال الخليج عام 1990م، قد أثر فيه كثيرا، حيث انشطر أصدقاؤه إلى مؤيدين ومعارضين، ولم يكن له أن يتفوه بسوء بحق أي منهم، واختار الطريق الصعب، اعتزال الناس إلا ما ندر، والانكفاء للكتابة والتأليف. وكانت رغم المرارة التي عاشها، حقبة زاخرة بالعطاء. وكانت صلته بالكتابة الصحفية، قد انتهت إلى مقالة في الأسبوع، تنشر على صفحات الخليج، استمرت لأكثر من عقد، ولم يتوقف عنها إلا برحيله إلى الدار الآخرة.
ولد الراحل الكبير عام 1942 بالمدينة المنورة، وحصل على الماجستير في الإدارة من جامعة منسوتا عام 1966م، ثم على الدكتوراه، من الجامعة الأمريكية بواشنطن، عام 1970/ التحق بجامعة الملك سعود بالرياض، بعد تخرجه، وتدرج في سلك التعليم، إلى أن حصل على الأستاذية عام 1979.
عمل الدكتور أسامه عميدا لكلية التجارة، وكلية العلوم الإدارية، وكلية الدراسات العليا في جامعة الملك سعود. كما عمل مستشارا غير متفرغ في وزارة المالية والاقتصاد وديوان الخدمة المدنية، ووزارة التعليم العالي. آمن بالتنمية المستقلة، وأهمية حشد القوة الذاتية العربية، لبناء نهضة جديدة، تشمل الأمة بأسرها.
وصفه زملاؤه، بالشاعر الموهوب، والكاتب المتوثب، الذي يشدك إليه حتى وإن اختلفت معه، وقالت عنه صحيفة عكاظ أنه صاحب مبدأ، وأصحاب المبادئ يدفعون في العادة ضريبة تمسكهم بها. وقال عنه الكاتب السعودي الدكتور عبد المحسن هلال، بأنه ولد وعاش ومات شريفا كريما. طلابه شغلوا المناصب العليا، أما أسامه، فرفض كل المناصب، وآثر العمل بصمت، حتى نجح أكاديميا وإداريا.
وقال عنه أحد طلابه، أنه المبدع والمفكر، المتعالي على كل المغربات. وأنه لم يجد في محيط الجامعة بين الطلاب والأساتذة، من لا يجل ويحترم أسامه عبد الرحمن. ووصفه آخر بالطود الشامخ، والشخص النزيه والجلد في العمل، وأنه المثقف وغزير العلم، والمبتسم أمام الشدائد، الصريح والوطني الذي لا يتردد عن الجهر برأيه في الشؤون العامة.
وقد وصفه المؤرخ الراحل، الأستاذ حمد الجاسر، بالشخص الذي لم يغره بريق ولا بهرجة المناصب، بحيث تصادر شخصيته وحريته وإبداعه. وكان يحرص على الوحدة الوطنية، ويؤمن بقدر أمته العربية في الوحدة والتقدم والنهوض مما جعله مثالا للأديب الملتزم.
وبالنسبة لي فقد فقدت فيه الصديق العزيز والأخ الوفي، والأستاذ الذي نهلت من علمه وثقافته الواسعة. وعزائي، كما هو عزاء جميع من أحبوه، أو تتلمذوا على يده، أنه ترك لنا فكرا نيرا، وإبداعا ثرا، سيظل نبراسا لهذا الجيل ولأجيال قادمة بإذن الله. رحمك الله يا أسامة، وأسكنك فسيح جناته، وألهم ذويك وأصدقائك ومحبيك الصبر والسلوان، وإنا لله وإنا إليه لراجعون.