وحدة المتقابلات

0 168

 

 

إحدى المعضلات الرئيسية التي واجهت مشروع النهضة العربية، منذ منتصف القرن التاسع عشر، حتى يومنا هذا، هي ما يمكن أن نطلق عليها مجازا بمعضلة المتقابلات. ونعني بها تحديدا، في هذا الحديث، تغليب أحد عوامل النهوض، على ما عداه، ووضعه في حالة تقابل، تصل حد العداء مع عناصر النهضة الأخرى.

 

فنحن تارة، وأثناء الصراع مع العثمانيين، وأيضا في مراحل الصراع الأولى مع الاستعمار الأوروبي، طرحنا بقوة شعار الحرية والاستقلال. وغُيب في الكفاح القومي التطرق إلى مشاريع أخرى، كالتنوير والحداثة والعدل الاجتماعي، وتكافؤ الفرص. وكان شعار الحرية والاستقلال رهنا لطبيعة اللحظة التاريخية، لحظة المواجهة الملحمية مع الاستعمار التقليدي.

 

انتهت الحرب العالمية، الأولى، بمشروعين استهدفا شعاري الاستقلال والحرية، هما اتفاقية سايكس – بيكو ووعد بلفور. وقد أحدثت نتائجهما يقظة جديدة، هزت الوجدان العربي، وكان المؤمل أن تُُنقيه من أدران الجمود والتكلس، وتفتح الأبواب مشرعة أمام مشاريع نهضوية جديدة. لكن طبيعة الصراع، لم تترك فسحة للمراجعة. توالت مشاريع الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وتقسيم المشرق العربي، بمسطرة وإرادات من خارج المكان. وحدثت النكبة، في ظل توجس وغفلة، ما كان لهما أن يكونا غير ذلك.

 

لكن الأزمة الضميرية، والمناخات الدولية الجديدة، التي أعقبت الحرب الكونية الثانية، ووجود نظامين عالميين، أحدهما رأسمالي والآخر اشتراكي، قد نقلا موقع التقابل في الصراع من أجل تحقيق الذات، أو وعيها، من الحرية والاستقلال إلى العدل الاجتماعي. أصبح شعار الحرية مسكونا بهواجس الانتماء إلى المشروع الامبريالي، وتصدر عنوان العدل كل العناوين الأخرى. ومن جديد أصبح الصراع داخل مشروع النهضة، وبين عناصرها، وليس بين المشروع وبين عناصر التوتر المستهدفة لوجوده.

 

وهكذا، قام النظام العربي الرسمي، بعد الحرب العالمية الثانية، على قاعدة الصراع بين المتقابلات، التي تمثل عناصر لازمة للنهضة، بدلا من التفاعل الخلاق بينها. وكان الصراع في الخمسينيات والستينيات، داخل المجتمع العربي، وحتى ضمن القيادات العربية الرسمية، هو صراع بين عناوين النهضة: بين الحرية وبين العدل.

 

كان المؤمل، أن لا يوضع الهدفان، في مواجهة بعضهما، لأن كليهما لازم لمشروع الارتقاء بهذا الجزء من العالم، ليأخذ مكانه بجدارة مع مسيرة الإنسانية الصاعدة. لكن ردود الأفعال كانت قوية جدا، بحيث أصبح في حكم المستحيل، توجيه البوصلة في اتجاه مختلف.

 

فشل المشروعان، وكان السبب الرئيسي للفشل، هو “معضلة المتقابلات”. وكان طبيعيا، وبديهيا، أيضا، رغم أن الاكتشاف هذا، من قبل النخب العربية جاء متأخرا للأسف – أن يحدث الفشل، وأن تكون نكسة الخامس من يونيو عام 1967م، أحد تجلياته.

 

لماذا حدث ذلك؟ وما السبيل لتجاوز هذه المعضلة؟.

 

الواقع أن انقسام العالم إلى معسكرين، قد ترك بصماته واضحة على مجرى الحراك السياسي والاجتماعي في البلدان العربية. ولأننا لم نكن صناع أفكار أو مشاريع، فقد مثل تلقينا للمشاريع الوافدة من الغرب والشرق على السواء، صدى واهنا وعاجزا عن الارتقاء إلى مستوى اللحظة، وصياغة مشروع، يستوعب المحركات الذاتية، وينطلق من تربة الوطن الكبير. لم يكن المشروع نتاج صيرورة تاريخية، بل كان نقلا مشوها وزائفا، غيبت فيه مهام التوطين، وكان التغييب وجها آخر، للعجز عن المبادرة والإبداع، وتعبيرا عن ضحالة الفكر، وهشاشة الهياكل الثقافية والفكرية والاجتماعية السائدة.

 

انتهت حقبة من التاريخ، بسقوط الاتحاد السوفييتي، وهيمنة اليانكي الأمريكي على العرش الأممي. وكان دورنا من جديد هامشيا وعاجزا. فقد انسقنا دون وعي لمهرجان “نهاية التاريخ”، وبلوغ المجتمع الإنساني، مرحلة “النظام العقلاني” على الطريقة الفيبرية. وعاد الحديث مجددا عن الليبرالية والنظام الغربي، والديمقراطية باعتبارها مثلاً وقيماً جديدة، رغم أنها سادت في الغرب لما يقرب من قرنين ونصف، أعقبت اندلاع الثورة الفرنسية، وكأننا نكتشف روما من جديد، مع أن رواحلنا لما تزل، منهكة وعطشى، وعاجزة عن الإمساك بناصية مقاديرها.

 

ولأن أريحية اليانكي وأبناء عمومته، لم تقبل لنا العجز، فقد سارعت لمواجهة أنظمة القمع والاستبداد، في هذا الجزء من العالم. وكان فرن التجربة، هو أرض السواد. وثمن العراق الجديد، هو ما يقرب من نصف مليون طفل، ماتوا تحت وطأة الحصار، وقيام نظام ديمقراطي، يفتت العراق، على أسس هويات اندثرت منذ عهود سحيقة، واقتضى مخاض الولادة الجديد، وفوضاه الخلاقة، إعادة بعث تلك الهويات، وتشريد أربعة ملايين عراقي إلى الخارج، وإعادة تشكيل عاصمة الرشيد، على أساس الانتماء لمرجعية فارس، أو مثلث سني، ليس له مكان إلا في خيالات المسكونين بروح الثار من التاريخ.

 

الآن شهدنا جميعا، مكمن الداء، في وضع عناصر النهضة، في مواجهة بعضها. لينتقل التقابل إلى السودان، جنوبه وغربه. وليوضع المواطن بين خيارين مرين، أحدهما يصادر حرية المواطن، والآخر يصادر الوطن والمواطن جميعا، ويوصل بنا إلى الفتنة والتناحر وتفتيت المفتت.

 

ويحدث ذلك أيضا في صعده وجنوب اليمن والشعار كما كان دائما، مواجهة الاستبداد بالتفتيت. ويقع لسوء الحظ كثير من المثقفين في حبائل التنظير الهادف لإضعاف الأمة والتنكيل بتاريخها. عنصر نهضوي في مواجهة عنصر نهضوي آخر، الحرية في مواجهة التنمية والعدالة. وكان الطبيعي والمفترض أن تكون الحرية والعدالة في مواجهة التفتيت والاستبداد.

 

في اليمن، هناك تمرد في صعدة، وأخر في الجنوب، وفي السودان تمرد في الجنوب وآخر في الغرب، وفي كلا البلدين، يبدو التدخل الخارجي فاضحا وعاريا. ففي اليمن، لا يخفي الإيرانيون دعمهم للحوثيين. وقد كشفت الأنباء مؤخرا، أن الدعم الطائفي للحوثيين قد تعدى الدعم المالي والمعنوي والعتاد، ليبلغ حد إرسال المقاتلين، لدعم مشاريع التفتيت. ومما يدعو للأسى، أن بعض الأنظمة العربية، تسهم في دعم فلول المتمردين في صعده وجنوب اليمن، متناسية أن مشاريع التفتيت ستفتح أبواب جهنم على الجميع، ولن يسلم منها أحد.

 

والحال أيضا ينسحب على السودان، والتدخلات الخارجية، قد بلغت حد تدويل أزمات السودان، وتشكيل محاكم دولية، مهمتها التدخل في شؤون هذا البلد، وتقرير ما يجب، أو ما لا يجب على حكومة السودان فعله. وقرار المحكمة الدولية باعتقال الرئيس البشير، يغني في هذا السياق عن كل قول.

 

لن يكون أمام الأمة مخرج سوى إعادة الاعتبار، لعنصري النهضة والتقدم، الحرية والمساواة. وكلاهما يتطلب نبذا لسياسة الإقصاء، وقضاء على الفساد، وحقا في تكافؤ الفرص، وإسهام الأمة في صناعة قراراتها، ضمن علاقات تعاقدية، تؤكد على تجاوز التفرد والاستبداد، وتسلم بتداول السلطة، وتغليب لغة القانون والاحتكام إلى الدستور. وتلك مخارج رئيسية لتجاوز “معضلة المتقابلات”، وتفاعل عناصر النهضة جميعا لخلق الغد الأفضل.

 

makki@alwatan.com.sa

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

اثنان × 2 =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي