وجه آخر للأزمة العربية: القمة والقرارات
أنهت القمة العربية للدورة العشرين، اجتماعها الذي عقد ليوم واحد بالعاصمة السورية، دمشق. وصدر بيانها الختامي، في صياغة لم تخرج عما كان متوقعا، ومألوفا. كلمات عامة وفضفاضة حول مجمل القضايا التي تناولها القادة العرب. هذه اللغة للأسف لم تكن مقتصرة على القمة الأخيرة، بل كانت، هي الطابع العام لمجمل القمم العربية، منذ تأسيس جامعة الدول العربية، وبروز ميثاقها، وحتى يومنا هذا.
لن نقف كثيرا، هنا عند الظروف التي سبقت اجتماع القمة، ولا عند تدني نسبة تمثيل القادة العرب فيها. فتلك في اعتقادنا وجه آخر للأزمة السياسية المستعصية التي يعاني منها النظام العربي الرسمي. في هذا السياق نعنى بالنظام العربي الرسمي، جملة النواظم والمؤسسات والمحركات التي تحكم العلاقات العربية- العربية. إن ذلك يعني أن مناقشة الظروف التي سبقت القمة الأخيرة، ينبغي أن تكون جزءا من معالجة هذه الأزمة.
ولعلنا لا نضيف جديدا، حين نقول إن تأسيس جامعة الدول العربية، حاضنة العمل العربي المشترك شابه طابع الصنعة، وإنه حدث في ظل ظروف دولية بالغة التعقيد. لقد بدأت ملامح الحرب الباردة في التشكل, وكان التأسيس، في أحد تعابيره نتاجا للقسمة الدولية، بين المنتصرين في الحرب العالمية الثانية، حيث أصبح جزءا من الموروث السياسي وإعادة تشكيل خارطة المشرق العربي. اقتصرت العضوية في الجامعة، على سبع دول، هي الأقطار العربية التي انضمت إلى هيئة الأمم المتحدة، باعتبارها دولا مستقلة. وكان السفراء والمستشارون البريطانيون يتحكمون في توجيه السياسة في ثلاث عواصم عربية على الأقل، آنذاك، هي القاهرة وبغداد وعمان. ومن جهة أخرى، كانت سوريا ولبنان عند تأسيس الجامعة حديثتي الاستقلال.
لقد كان من نتائج ذلك، أن القرار العربي، منذ تأسيس الجامعة لم يكن مستقلا، كما لم يكن تعبيرا عن إرادة حرة، بل كان محكوما بالعلاقات الاستراتيجية التي كانت قائمة بين الأقطار العربية قبل استقلالها وبين القوى الكبرى التي كانت مستعمرة لها، وبتأثير المعاهدات والاتفاقيات التي بقيت قائمة بعد الحصول على صكوك الحرية. وقد حكمت تلك البداية شكل العمل في المؤسسات العربية الرسمية. وأصبح واضحا عمق ارتباط القرار العربي الجماعي، بالتحالفات مع الخارج. بل لعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن تلك الارتباطات كان لها الأولوية على العلاقات التي تنشأ بين العرب أنفسهم.
من هنا نلاحظ انفصاما تاما، بين القول والممارسة. نرفض على سبيل المثال، قرار التقسيم، ونخوض حرب تحرير لفلسطين تحت قيادة ضابط بريطاني… ندير المعركة من الأراضي المصرية عبر شبه جزيرة سيناء، ويغيب عن صانع القرار أنه لا يملك سيطرة على ممر السويس. وفي الوقت الذي يمتلك فيه العدو استراتيجية موحدة، وجيشا واحدا فإن ذلك ليس له ما يماثله على الجبهة العربية. وكان أول أمين عام لجامعة الدول العربية، قد سئل بعد الحرب العربية- الإسرائيلية عام 1948 عن سبب فشل الجيوش العربية في تحقيق النصر مع أنها سبعة جيوش، فكان الجواب ببساطة: فشلت لأنها سبعة جيوش.
إن العجز عن تطبيق القرارات والتوصيات التي تتخذ في أعلى المستويات العربية، تجاه التعامل مع التحديات والمخاطر القومية، وفي المقدمة منها الخطر الصهيوني، قد جعلنا موضع سخرية من الخصم، وأصبح من المألوف أن نقرأ في الأدبيات السياسية الغربية أن العرب مجرد ظاهرة صوتية. وكان الأمل أن يتغير واقع الحال، بعد حصول معظم الأقطار العربية على استقلالها، مع بداية السبعينيات، خاصة أن عددا من تلك الأقطار قد انتزع استقلاله بالقوة المسلحة. لكن ذلك بقي أملا مؤجلا، حيث استمر الموروث القديم هو السائد. بل إن اجتماعات القادة العرب ظلت لفترة طويلة، رهنا لحدوث أزمات حادة، بين قطر عربي أو أكثر، بمعنى أنها كانت قرارات اضطرارية، وردود أفعال، وليست نتاجا لوعي أهمية تحقيق التكامل السياسي والاقتصادي بين العرب، والتماهي مع عصر كوني أهم سماته أنه عصر تكتلات كبرى، لا مكان فيه للضعفاء.
لقد عقد أول مؤتمر قمة عربي، في أنشاص عام 1946، بناء على دعوة مصرية، بعد تصاعد الهجرة اليهودية إلى فلسطين، واندلاع مواجهات بين العرب واليهود. أما القمة الثانية، فعقدت في العاصمة اللبنانية، بيروت عام 1956، لتقديم الدعم السياسي والمعنوي لمصر، التي فرغت لتوها من مواجهة العدوان الثلاثي. أما القمة الثالثة، فعقدت إثر إعلان الكيان الصهيوني عن عزمه تحويل مياه نهر الأردن إلى أراضي النقب، وبناء سدود على ضفة النهر الغربية. وربما كانت تلك القمة هي الأهم في نتائجها، حيث تبنت جملة من القرارات في المقدمة منها تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية، وجيش التحرير الفلسطيني، والقيادة العربية الموحدة، والتأكيد على استمرار انعقاد القمة العربية دوريا، دون تحديد للفترة الفاصلة بين مؤتمرين.
في عام 2000 تم تعديل ميثاق جامعة الدول العربية، بعد تعديل الميثاق أصبح لزاما على مجلس الجامعة العربية أن يجتمع مرة واحدة على الأقل في دورة اعتيادية تعقد على مستوى الملوك والرؤساء في شهر مارس من كل عام، وأن يجتمع مرتين سنويا على مستوى وزراء الخارجية: الأولى في مارس، تخصص للتحضير لاجتماع القمة والأخرى في سبتمبر لبحث القضايا المدرجة على جدول أعمال المجلس والمرفوعة من المندوبين لاتخاذ ما يراه ضروريا بشأنها.
وتفاءل كثيرون بهذه التعديلات ورأوا فيها مؤشرا على وجود إرادة جديدة لتفعيل العمل القومي العربي الجماعي، وأنها ستشكل انتقالا نوعيا باتجاه تحقيق التكامل السياسي والاقتصادي العربيين. لكن التطورات اللاحقة قد كشفت أن تلك الأماني هي أوهن من خيوط العنكبوب. لقد جاء احتلال العراق، الذي عبر القادة العرب في مؤتمرهم الذي عقدوه قبل الاحتلال بأشهر قليلة عن رفضهم له، ليشكل ضربة قوية ليس فقط لقرارات ذلك المؤتمر، بل وللدعائم التي ارتكزت عليها جامعة الدول العربية، بما في ذلك ميثاقها، وميثاق الأمن العربي الجماعي، ومعاهدة الدفاع العربي المشترك.
أصبحت العبارات الحماسية والفضفاضة، وبيانات الاستنكار لا تعني شيئا للمواطن العربي، ورأى فيها الكثيرون تعبيرا، عن أزمة أخرى، ساكنة في القلب في معظم الأقطار العربية، هي أزمة غياب العقد الاجتماعي، وضعف أداء مؤسسات المجتمع المدني، بل وضعف هياكل الدولة ومؤسساتها في عدد من البلدان العربية. إن إصلاح العمل العربي، على هذا الأساس، ينبغي أن ينطلق من الأسفل إلى الأعلى، في خط متصاعد. وذلك وحده الذي يقوي من العزيمة، ويعزز من الشفافية، ويجعل القادة العرب مسؤولين أمام شعوبهم عن تحقيق التضامن فيما بينهم، وصولا إلى تحقيق التكامل العربي، على كل الأصعدة.
قرارات القمة الأخيرة، جاءت فضفاضة، كسابقاتها، مكرسة عجز العرب عن الارتقاء إلى مستوى المخاطر التي تتعرض لها الأمة. وباسثناء نقاط ثلاث من بين عشرين نقطة، كان البيان تكرارا لمواقف سابقة. وحتى النقاط الجديدة، لم تكن فعلا ذاتيا مبادرا، بل مباركة لخطوات جرى تبنيها من قبل هذا القطر أو ذاك. تأييد المبادرة اليمنية للصلح بين حماس وفتح، على سبيل المثال، هو مجرد دعوة لليمن لمواصلة دورها، ولا يترتب عليه فعل شيء من القادة العرب, وهو مرهون باتفاق الفلسطينيين أنفسهم. أما تأييد المبادرة العربية الخاصة بلبنان من أجل انتخاب رئيس لبناني توافقي، في أسرع وقت ممكن، فهو تأكيد للمؤكد، والمطلوب هو الانتقال بهذه المبادرة إلى الفعل الجاد. أما البحث في العلاقات العربية – العربية، فينبغي أن يجري التعامل معه ليس بالوساطات وبوس اللحى، بل من خلال آليات تلزم الجميع، وتكون مقدمة لعصرنة العمل في كافة مؤسسات العمل العربي المشترك، انطلاقا من التمسك بالثوابت الوطنية والقومية.
من جهة أخرى، يلاحظ أن بيان القمة قد تعمد عدم استثارة غضب الإدارة الأمريكية، فتبني، وإن كان ذلك بشكل غير مباشر، استجابة واضحة لدعوة نائب الرئيس الأمريكي، ديك تشيني للحكام العرب بإرسال سفرائهم إلى العراق المحتل، وفي ذلك مكافأة للإدارة الأمريكية التي تمارس يوميا حرب الإبادة، وجرائم ضد الإنسانية في العراق، وتقدم دعما مفتوحا للعربدة الصهيونية في فلسطين..
إن العمل العربي المشترك، لا يمكنه أن يستمر بتقاليده القديمة، بل لا بد من خلق علاقات مؤسسية، يكون وجودها انعكاسا لمؤسسات محلية تنمو وتتعزز على مستوى البلدان العربية، مؤكدة دور الإنسان العربي، وحقه في الهيمنة على مقدراته وصنع مستقبله. وما لم يعمل العرب على عصرنة مؤسساتهم فسوف تبقى أمتنا إلى ما لا نهاية، تابعا ذليلا، وعبئا على التاريخ…
yousifsite2020@gmail.com
اضف تعليق
اسمك بريدك الالكتروني
تعليقك:
تعليقات
* تعليق #1 (ارسل بواسطة احمد ابو السعود)
لا بد من ووجود اليه تضمن تنفيذ القرارات التى تتخذ بالاجماع-على الاقل-مثل قرار حل مشكلة لبنان ولابد من تكوين جيش عربى قوى يضمن عدم تدخل الدول الاجنبيه وأيضا مجلس لحقوق الانسان العربى يحميه حتى لا تتخذ اى دوله اجنبيه ذلك ذريعه للتدخل فى شئون الدول العربية وايضا لابد من وجود اليه بمجلس الدول العربيه لاخذ القرارات بالاغلبية وعلى الاقليه الامتثال حسب قواعد اليمقراطية