وانزاح ليل…
في نظرية الصراع وحل الصراع يوجد نمطان للتعامل مع النزاعات الكبيرة، وإيجاد الحلول الملائمة لها. النمط الأول يعتبر النزاعات السياسية في جوهرها ناتجة عن سوء فهم مختلف الفرقاء لمطالب واحتياجات بعضهم. وأن النزاعات تنمو بالتقادم، وتصبح في النهاية أشبه بكرة الثلج، التي تنمو وتكبر كلما تدحرجت، بحيث نصبح أكثر ابتعادا عن نواتها كلما تفاقمت وتقادمت أيام الصراع.
إن الحل في هذا النمط من الصراعات يحتاج إلى وسيط ماهر. ومهمة الوسيط، لكي تكون ناجحة يجب أن تنأى عن الولوج بشكل مباشر إلى لب المشكلة. إن المطلوب هو التعامل مع قشرة الكرة، ومحاولة تذويبها من السطح، وكلما تآكلت الكرة، اقتربنا من النواة، أي من جوهر المشكلة.
النمط الآخر، يحاول تفكيك المشكلة المطروحة، وفهم كنهها. إنه يتعامل مباشرة مع جوهر القضية، ويعمل على التوصل إلى حلول جذرية لها.
لكن الذي يقرر نجاح أي من النمطين، ليس هو سلامة المنهج المتبع. إذ لو كان الأمر كذلك، لكانت قاعدة نجاح الحل هي باستمرار، التعامل مع جوهر المشكلة وأسباب الأزمة. ولكن هناك حقائق أخرى، ينبغي أن تكون حاضرة بالذهن، عند التصدي لمواجهة الأزمات المستعصية. لعل أهم تلك الحقائق هي رغبة مختلف الفرقاء في التوصل إلى تسوية مقبولة لخلافاتهم من جهة، ومهارة الحكم الذي يتولى الوساطة بين الغرماء. والمهارة هنا ليست عملية فنية بحتة، بل ترتبط بمهارات أخرى، منها القدرة المادية والمعنوية على إجبار الفرقاء لقبول توصياته ومقترحاته.
في الصراع العربي- الصهيوني، استخدم مستشار الرئيس الأمريكي نيكسون لشؤون الأمن القومي، هنري كيسنجر النمط الأول في وساطته، إثر حرب أكتوبر عام 1973، بين مصر وسوريا من جهة والكيان الصهيوني من جهة أخرى، التي عرفت بسياسة الخطوة – خطوة. فوفقا للفهم العربي، فإن جوهر القضية هو تشريد شعب فلسطين، وحقوق هذا الشعب في إقامة دولة مستقلة. لكن مناقشة ذلك والذهاب إلى لب المشكلة من وجهة نظر كيسنجر، لن يجعل الفرقاء يتقدمون خطوة إلى الأمام. وكان البديل هو التعامل مع القشرة، دون النفاذ إلى عمق الكرة. إن التاريخ وتبعاته، وفقا لهذا النمط من الحلول يشكل مانعا فولاذيا يحول دون التوصل إلى حلول مقبولة من مختلف الأطراف. لكنه يتناسى عن عمد أنه طيلة الاستخدام “الفني” لهذا النمط من الحلول، كان الذي يقدم التنازل، تلو التنازل هو أحد طرفي الصراع، حيث لم يتزحزح الصهاينة قيد أنملة عن موقفهم. وأن الوسيط كان قادرا، بما يملكه من عدة وعتاد، ووسائل ضغط وإكراه، على فرض مطالب حليفه.
في الحالة اللبنانية، توصل الفرقاء عن طريق وساطة قادتها دولة قطر إلى اتفاقية الدوحة. وكانت الصيغة التي وافق عليها مختلف الفرقاء، هي صيغة التعامل مع قشرة الكرة، دون الوصول إلى نواتها.
ومساء الأحد من هذا الأسبوع احتفل اللبنانيون جميعا، ومعهم عشاق لبنان في كل مكان بأداء الرئيس اللبناني العماد ميشال سليمان اليمين الدستورية بعيد انتخابه من جانب مجلس النواب. وشغر الفراغ الدستوري في الكرسي اللبناني الأول الذي استمر أكثر من ستة أشهر.
وفي خطاب القسم الذي ألقاه الرئيس الجديد، حاول الرئيس أن يكون متوازنا في مواقفه، تجاه مختلف الفرقاء، فشدد على أهمية تحديد استراتيجية دفاعية عبر حوار هادئ وعلى قيام علاقات دبلوماسية مع سوريا، رافضا توجيه السلاح إلى الداخل، في إشارة واضحة لتوجيه حزب الله سلاحه إلى خصومه. ودعا الجميع للبدء بمرحلة جديدة، من خلال الالتزام بمشروع وطني، تغلب فيه مصلحة الوطن على المصالح الفئوية والطائفية ومصالح الآخرين.
لقد جاء انتخاب الرئيس الجديد تنفيذا لاتفاقية الدوحة التي توصل إليها الفرقاء اللبنانيون، والتي جاءت استكمالاً لجهود اللجنة الوزارية العربية لمعالجة الأزمة اللبنانية برئاسة رئيس الوزراء القطري ووزير الخارجية، الشيخ حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني والسيد عمرو موسى الأمين العام لجامعة الدول العربية ووزراء خارجية: الأردن والإمارات والبحرين والجزائر وجيبوتي وعمان والمغرب واليمن، واستناداً إلى المبادرة العربية في شأن احتواء الأزمة اللبنانية. وتنفيذاً للاتفاق الذي تم بين الفرقاء اللبنانيين برعاية اللجنة الوزارية العربية في بيروت بتاريخ 15/5/2008.
أكدت الاتفاقية المذكورة حرص القيادات السياسية اللبنانية على إنقاذ لبنان والخروج من الأزمة السياسية وتداعياتها الخطيرة على صيغة العيش المشترك، والالتزام بمبادئ الدستور اللبناني واتفاق الطائف. وعلى ضوء ذلك اتفق على انتخاب العماد ميشيل سليمان كمرشح توافقي لرئاسة الجمهورية كما جرى الاتفاق على تشكيل حكومة وحدة وطنية من 30 وزيراً توزع على أساس 16 وزيراً للأغلبية – 11 للمعارضة – 3 للرئيس. كما اتفق على تحديد المناطق الانتخابية في لبنان، وفقا للتفاهمات التي توصل لها الفرقاء بمدينة الدوحة، وبضمن ذلك الموافقة على إحالة البنود الإصلاحية الواردة في اقتراح القانون المحال إلى المجلس النيابي والذي أعدته اللجنة الوطنية لإعداد قانون الانتخابات.
وبموجب هذا الاتفاقية، تعهدت الأطراف المشاركة بالامتناع عن أو العودة إلى استخدام السلاح أو العنف بهدف تحقيق مكاسب سياسية. كما تم الاتفاق على إطلاق الحوار حول تعزيز سلطات الدولة اللبنانية على كافة أراضيها وعلاقاتها مع مختلف التنظيمات على الساحة اللبنانية بما يضمن أمن الدولة والمواطنين. كما حظر اللجوء إلى استخدام السلاح أو العنف أو الاحتكام إليه في ما قد يطرأ من خلافات أياً كانت هذه الخلافات وتحت أي ظرف كان، بما يضمن عدم الخروج على عقد الشراكة الوطنية في إطار نظام ديموقراطي، وتعهد الفرقاء بحصر السلطة الأمنية والعسكرية على اللبنانيين والمقيمين بيد الدولة.
ومن جهة أخرى، أكدت اتفاقية الدوحة على “أهمية تطبيق القانون واحترام سيادة الدولة في كافة المناطق اللبنانية بحيث لا تكون هناك مناطق يلوذ إليها الفارّون من وجه العدالة، احتراماً لسيادة القانون، وتقديم كل من يرتكب جرائم أو مخالفات إلى القضاء اللبناني”. وأن يتم استئناف الحوار الوطني برئاسة رئيس الجمهورية فور انتخابه وتشكيل حكومة الوحدة الوطنية وبمشاركة الجامعة العربية، وبما يعزز الثقة بين اللبنانيين. وأعادت تأكيد التزام القيادات السياسية اللبنانية بوقف استخدام لغة التخوين أو التحريض السياسي أو المذهبي على الفور.
المؤكد أن اللبنانيين، قد تمكنوا، من خلال توقيع هذه الإتفاقية والمباشرة بتنفيذ بنودها من تحقيق اختراق حقيقي للأزمة، وأن صيفا ربيعيا سينعم به لبنان في ظل التوافق الجديد. لكن ذلك سوف يظل مرهونا بنوايا الأطراف التي وقعت على اتفاقية الدوحة، وليس اعتمادا على ما ورد فيها من نصوص. فالاتفاقية، كما برزت على السطح أقرت هدنة بين الغرماء، ولكنها لم تذهب إلى معالجة لب المشكلة. فلم يكن للأزمة في جوهرها أية صلة بانتخاب رئيس الجمهورية. لقد كان الفراغ في الموقع الرئاسي هو أحد إفرازات الأزمة، وليس سببها. وبالمثل، فإن توجه حزب الله بسلاحه إلى الداخل، هو تعبير عن حالة احتقان، بلغت حدا غير مقبول بين مختلف الفرقاء، والمطلوب هو التعامل مع حالة الاحتقان، وليس نتائجها، مهما كانت درجة سوء التمظهر، الذي برزت به.
ولعلنا مع الاختلاف الشديد، مع المحركات التي تحكم السياسة الفرنسية، نتفق مع الانتقادات التي وردت على لسان وزير خارجيتها، برنارد كوشنر إلى اتفاقية الدوحة التي أنهت الأزمة السياسية في لبنان. فقد أوضح أن الاتفاقية التي وقعها الفرقاء اللبنانيون في الدوحة قد أخفقت في معالجة جذور الأزمة رغم أنها تشكل خطوة أولى في هذا الاتجاه.
لقد بدأ لبنان كرنفال فرحه، وانزاح ليل طويل وحالك عنه، نأمل أن يكون الاتفاق خطوة في الاتجاه الصحيح، وأن يسعى الفرقاء في الأيام القادمة، بوعي وتصميم إلى التعامل المباشرة مع العناصر الجوهرية للأزمة، التي أشرنا لها في حديث سابق تحت عنوان المحاصصة الطائفية وعلاقتها بأحداث لبنان، وإيجاد حلول ناجعة لها، من أجل أن يستمر موسم الحصاد والفرح، ولا يكون مجرد حدث عابر، في طريق مليء بالأشواك والمصاعب.
cdabcd
yousifsite2020@gmail.com
اضف تعليق
اسمك بريدك الالكتروني
تعليقك:
تعليقات
* تعليق #1 (ارسل بواسطة حسين سياب)
تحية طيبة …
هذا المقال والذي قبله يشخص الحالة تشخيصاً دقيقاً ويقاربها مقاربة تجعل الأمور واضحة فهي تفتح أمام القارئ كل الاحتمالات المتوقعة عن نتيجة الحلول العربية لأزماتها. فالصراع في لبنان هو أحد الوجوه البارزة والمعبرة عن طبيعة بناء وتكوين المجتمع العربي القديم / الحديث, حيث يتم الاحتكام إلى الفئوية والطائفية لتصفية الحسابات وتعزيز المواقع وتحقيق المزيد من المكاسب حتى وإن كان على حساب المواطن والوطن فهذين المفهومين يغيبان تماماً عن دائرة اهتمام المتصارعين على أرض الواقع. كما إن الحلول والمعالجة للأزمة في حال اشتدادها ووصولها إلى أفق مسدود يكون عبر ما عبرت عنه في الورقة حلولاً فوقية لا تلامس لب المشكلة وهي حالة متبعة لمعالجة العديد من القضايا والأزمات التي تعصف بالواقع العربي الراهن فعادة ما يتم ترحيل الأزمات للأمام بدلاً من حلها حلاً جذرياً.
شكراً لكم ودمتم عطاءً.
حسين سياب
* تعليق #2 (ارسل بواسطة فائق المرهون)
الكاتب الكبير نشكره جدا على الوضوح والموضوعية التي قد يفتقدها غيره من الكتاب القوميين , فحقيقة الحالة اللبنانية حالة معقدة جدا وليس من السهولة بمكان الخوض المنطقي فيها, ولكن يبدو أن للخبرة والتجربة دورها لدى أبو الوليد … مع التوفيق .