وانتهت رحلة التنافس على كرسي الرئاسة

0 166

عند كتابة هذا الحديث، الموافق الاثنين من الأسبوع، يكون الصراع للوصول إلى البيت الأبيض، في يومه الأخير، حيث يقضي المرشحان هذه الليلة استراحة قلقة في انتظار ما تفصح عنه أصوات الناخبين. وغدا 4 نوفمبر ستكتظ مراكز الاقتراع بالناخبين، وتعلن النتائج بمساء ذلك اليوم، محددة اسم الرئيس الأمريكي لأربع السنوات القادمة. وسيكون على أحد المرشحين للرئاسة الاتصال بالآخر، مهنئا له بالفوز، ومتمنيا له النجاح والتوفيق.

 

وتشير جل التوقعات، إلى أنه عند نشر هذه المقالة سيكون المرشح الديموقراطي، باراك أوباما هو الفائز بكرسي الرئاسة، ما لم تحدث تحولات دراماتيكية في اللحظة الأخيرة. فآخر الاستطلاعات تشير إلى تقدمه بنسبة 6% على غريمه الجمهوري، جون ماكين.

 

والواقع أن التنافس للوصول إلى البيت الأبيض، في هذه الدورة كان مريرا وضاريا، منذ بداية الرحلة حتى نهايتها، وحظي بفرادة، في أكثر من موضع، لم يحظ بها أي تنافس سابق بالولايات المتحدة، على كرسي الرئاسة، وبخاصة في الجانب الديموقراطي. فلأول مرة يتقدم منافسان عن الحزب، من خارج الدائرة التقليدية المعتادة. أحدهما أنثى، هي السيدة هيلاري كلينتون والآخر ملوّن، هو السيد باراك أوباما.

 

استمدت السيدة كلينتون حضورها السياسي، من كونها سيدة أولى لفترة استمرت ثماني سنوات هي عهد زوجها الرئيس، بيل كلينتون، خلال الفترة من 1993 إلى 2001، وقادت خلالها، بتكليف من زوجها، فريقا خاصا بتطوير تشريع مقترح من أجل توفير الرعاية الصحية العامة لجميع الأمريكيين. وأيضا من كونها عضوا بمجلس الشيوخ الأمريكي عن ولاية نيويورك. أما غريمها، السيد أوباما، فهو من أصول أفريقية، ومن أب كيني، وكان عضوا في مجلس الشيوخ عن ولاية إيلينوي.

 

وهكذا تحققت في حملة الانتخابات هذه فرادتان في آن واحد: تنافس على كرسي الرئاسة من قبل أنثى وملون في مجتمع لا تزال تحكمه رؤى عنصرية تجاه الملونين، ونظرات دونية تجاه المرأة، رغم أن منطوق الدستور الأمريكي يشير بوضوح إلى حق الجميع في المشاركة والتنافس الحر في الانتخابات، بغض النظر عن اللون والجنس.

 

بعد منافسة حامية، وبعد انتشار الذعر في صفوف الديموقراطيين من الانشقاق الواضح الذي خلقته المنافسة بين مؤيدي المرشحين، سناتور نيويورك وسيناتور إيلينوي، حسم الأمر في المؤتمر القومي للحزب الديموقراطي، لصالح السيناتور أوباما، وأعلنت هيلاري كلينتون انسحابها أمام منافسها.

 

على صعيد الحزب الجمهوري، كان الأمر أكثر سهولة، فقد اكتسح جون ماكين منافسيه، وأصبح المرشح، دون منازع عن الحزب الجمهوري. فمنذ البداية أسهم تاريخ ماكين، “القومي والبطولي” في حسم الموقف ضد المتدافعين معه إلى سدة الرئاسة. فقد ساعد سجله كأحد الطيارين الأمريكيين الذين تم إسقاط طائراتهم وجرحهم في حروب بلدهم ضد فيتنام في إعطاء حملته ضد منافسيه داخل حزبه ثقلا اعتباريا. وكان منحه ميدالية “النجمة الفضية” ووسام الشرف وصليب الطيران للخدمة المميَّزة والنجمة البرونزيّة والقلب الأرجواني، عوامل حاسمة لفوزه كمرشح أثير للجمهوريين في مواجهة خصمهم الديموقراطي باراك أوباما.

 

ولم يكن الصراع بين أوباوما وماكين أقل احتداما، عن ذلك الذي ساد في البداية بين أوباما والسيدة كلينتون. فنقاط الخلاف هنا أكثر بكثير من تلك التي كانت قائمة بين المرشحين الديموقراطيين. وبالمثل حضرت الجذور العرقية لكلا المرشحين في التنافس، مما أضاف للصراع الأيديولوجي بينهما نكهة أخرى، وسمات جديدة.

 

كانت مواضيع الخلاف كالعادة تتركز داخليا حول الضرائب والصحة والتعليم والضمان الاجتماعي، والموقف من الإجهاض ومنع الحمل، وحقوق المثليين، وحماية البيئة. وعلى صعيد السياسة الدولية، كانت مواضيع الخلاف التقليدية تتركز حول الحد من سباق التسلح، ومنع أسلحة الدمار الشامل، ومواجهة الاحتباس الحراري. ومع أن مختلف هذه المواضيع بقيت حية وقائمة في هذا التنافس المحموم، لكن قضيتين مركزيتين أخريين برزتا بعنف كأهم قضيتين تشغلان بال الناخب الأمريكي في هذه الدورة، وطغتا على ما عداهما من المواضيع المذكورة الأخرى. كانت قضية الوجود العسكري الأمريكي في العراق، وخسائر الأمريكيين في الأرواح والمعدات، وتراجع سمعة الولايات المتحدة الأمريكية في العالم بأسره، بسبب خروجها على قرارات مجلس الأمن، وقيامها باحتلال العراق، قد ألقت بظلال كثيفة على برنامج المرشحين للرئاسة.

 

وكان الخلاف بين المرشحين حول هذا الموضوع كبيرا وصارخا. فبينما يؤيد المرشح الجمهوري ماكين قيام إدارة الرئيس بوش باحتلال العراق، وينتقد فشل الجيش الأمريكي في إحكام القبضة على العراقيين، واعدا بتحقيق ذلك في حال فوزه، فإن غريمه أوباما يعارض سياسة بوش في العراق، ومن ضمنها عملية الاحتلال ذاتها، بالجملة والتفصيل. إن أوباما يعد ناخبيه بإيجاد استراتيجية تضمن انسحاب القوات الأمريكية من العراق، وتعيد الاعتبار لسمعة الولايات المتحدة في العالم التي مرغتها السياسات الفاشلة للرئيس بوش.

 

أما القضية الأخرى، موضوع الخلاف الرئيسي، بين ماكين وأوباما، فإنها تتعلق بطريقة التصدي للأزمة الاقتصادية الحادة التي تمر بها أمريكا والعالم، والتي بدأت مع أزمة الرهن العقاري. فبينما يصر ماكين، بشكل أو بآخر، على متابعة السياسة الاقتصادية للرئيس بوش، القائمة على تخفيض الضرائب، وفتح الأبواب على مصاريعها للحرية الاقتصادية، فإن أوباما يتبنى سياسة رفع الضرائب بشكل تصاعدي، والقضاء على البطالة من خلال تأمين عشرات الآلاف من الوظائف، والعودة لتحقيق دولة الرفاه، وتنشيط الحركة الاقتصادية، من خلال تبني سياسة إنعاش للطبقة المتوسطة.

 

نحن هنا إذاً أمام برنامجين انتخابيين، أحدهما يعتبر استمرارية للسياسات الاقتصادية التي مورست في ثماني سنوات مضت، وثبتت نتائجها الكارثية، وبالا ومرارة وخرابا، على الغالبية من الأمريكيين. والخطة بدت نسخا مشوها لبرنامج بوش الانتخابي، حتى وإن حملت بعض التعديلات. أما الخطة الأخرى، فإنها في هذا المفترق من التاريخ، تبدو وكأنها خطة إنقاذ حقيقية للأزمة المستعصية التي يمر بها الاقتصاد الأمريكي، رغم أنها لم تخرج في صياغتها عن السياقات التقليدية للبرامج الديموقراطية السابقة.

 

إن ما منح أوباما ثقلا قويا في العملية الانتخابية في هذه الدورة، ليس اختلاف برنامجه عن البرامج الديموقراطية السابقة، فقد جاء مقتربا في جملة تفاصيله من تلك البرامج، بل هو طبيعة الأزمة الاقتصادية العميقة التي تمر بها أمريكا. وينتاب الناس العاديين شعور بأن ورطتهم في العراق قد أسهمت في تفاقم أزمة الاقتصاد وتصاعد حدتها، ولذلك يتزامن إقدامهم على انتخاب أوباما بعاملين مترابطين هما الخلاص من الورطة العراقية، ووجود خطة إنقاذ قابلة للتنفيذ للاقتصاد الأمريكي.

 

وهنا نلحظ جملة من الظواهر الاستثنائية التي طبعت الحملة الانتخابية الأخيرة. أولى هذه الظواهر هي تدني اهتمام الناخب الأمريكي بقضايا أخرى، كانت تعتبر حتى وقت قريب من المواضيع الأثيرة بالنسبة للناخب الأمريكي، كقضايا الإجهاض ومنع الحمل، وحقوق المثليين وثقب الأوزون والانحباس الحراري وتلوث البيئة. وقد كانت هذه المواضيع حاضرة بقوة في التنافس بين آل جور وبوش قبل ثماني سنوات، كما كانت حاضرة، وإن بنسبة أقل في التنافس بين جون كيري وبوش، في الدورة الانتخابية الثانية للأخير.

 

الظاهرة الثانية، هي استخدام تعابير أيديولوجية كانت غائبة من قبل في الصراع بين المتنافسين، كاتهام أوباما من قبل خصومه بأنه مسلم، في مرات، ومرات أخرى بأنه يمثل سياسة حماس أو إيران. وأنه يستخدم تعابير شيوعية استخدمها الزعيم الكوبي فيديل كاسترو من قبل، كشعاره في الدعوة إلى التغيير. وبالمثل اتهام أتباع أوباما لماكين بأنه مجرد استمرار لسياسة اليمين الأمريكي المحافظ، وبأنه فاشي ومعاد للديموقراطية.

 

ويلاحظ أيضا، أنه رغم شعور غالبية الأمريكيين بالمرارة، بسبب خسائرهم في العراق، وأيضا بسبب الأزمة الاقتصادية المستعصية، ورغم هبوط شعبية بوش في الاستطلاعات الأخيرة إلى أقل من الـ 60%، فإن الاستطلاعات الأخيرة لا تشي بتقدم ساحق لأوباما على منافسه الجمهوري. وفي هذا السياق، فإن التفسير الوحيد لذلك هو الجذور العرقية للمرشح الديموقراطي، وكون المشاعر العنصرية لا تزال راسخة بقوة لدى الغالبية من البيض الأمريكيين. ولعل تعرض أوباما لمحاولتي اغتيال خلال فترة وجيزة من قبل بعض المتطرفين والنازيين الجدد هو تأكيد آخر على قناعتنا هذه.

 

ولسوف تكشف الأيام القليلة القادمة نجاح أو فشل الرئيس في الوعود التي قدمها للناخبين، كما سوف تكشف لنا، بالسلب أو بالإيجاب مستوى سيادة ثقافة التمييز والعنصرية في مجتمع يؤكد دستوره وقوانينه على التساوي في الحقوق بين مختلف المواطنين بغض النظر عن أصولهم ومعتقداتهم.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

1 + سبعة عشر =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي