هولكوست صهيو- أمريكي
لم يعد مجديا التمييز بين مشروع الهيمنة الصهيوني والمشروع الإمبريالي الأمريكي للسيطرة على الوطن العربي. فقد تمثلت النتائج الأولى للمشروع الصهيوني في تشريد الشعب العربي الفلسطيني من أرضه، وزرع خنجر يحول دون وحدة الأمة ويمنعها من بناء وتنمية أوطانها، ويغرقها في حروب وأزمات مستمرة، ونكبات ونكسات وهزائم، محدثا شروخا وانكسارات في النفس وعلى أرض الواقع، جعلت من البحث عن شرعية، للأنظمة السياسية العربية، تبدو مهمة عسيرة، إن لم تكن مستحيلة. وقد بدا المشروع الإمبريالي الأمريكي في المنطقة، وبشكل خاص منذ الأربعينيات متجانسا، بشكل يصل حد التطابق مع المشروع الصهيوني. فهذا المشروع هدف، منذ البدء، إلى حرمان العرب من استخدام ثرواتهم، وبناء أوطانهم بما ينسجم مع أمالهم وطموحاتهم في الوحدة والتقدم والحياة الحرة الكريمة.
وفي هذا الإتجاه، لم يتردد الساسة الأمريكيون عن استخدام كافة وسائل الضغط على القادة العرب، بما في ذلك استخدام العصا الغليظة الرادعة، إسرائيل، في تركيع العرب. وكان تداخل السياسات والمصالح بين قوى الضغط اليهودي داخل الولايات المتحدة والقيادات التي تتنافس للوصول إلى المواقع الأمامية في صناعة القرار الأمريكي، يفعل فعله في توسيع دائرة الإنحياز والتلاقي بين المشروعين. ولم يكن ذلك سرا على أي متتبع للعلاقات الأمريكية الإسرائيلية. ولعل في مذكرات هاري ترومان ما يغني عن الإستطراد في السرد. فقد أعلن بوضوح أن الحكام العرب لا يملكون أي تأثير في صناديق الإقتراع الأمريكية، بينما يملك الصهاينة كثيرا من ذلك، وأنه كباحث عن الوصول إلى البيت الأبيض لا يمكنه أن يضع في اعتباره سوى الأصوات التي يمكنها أن توصله إلى البيت الأبيض وسدة الحكم، وليس تلك التي تفتقر إلى القوة والتأثير.
ومن أجل غاية الوصول إلى الموقع الأول كان كل مرشح أمريكي جديد للرئاسة يتبارى في الإنحياز للمشروع الصهيوني. وباستثناء حالات نادرة جدا، يمكن اختزالها، بموقف الرئيس أيزنهاور في حرب السويس، تكاد المواقف الأمريكية تكون متطابقة بالكامل مع المشاريع الصهيونية. وحتى ذلك الموقف لم يكن موجها، بشكل خاص، ضد الكيان الصهيوني، بل كان جزءا من تنافس وصراع، بين الإستعمار التقليدي الذي كانت تمثله آنذاك بريطانيا وفرنسا، وبين القوة الفتية التي حسمت نتائج الحرب العالمية الثانية الأمر لصالح هيمنتها على العالم الرأسمالي. وإذن فقد حكم منطق الإزاحة الأمريكي للاستعمار التقليدي والحلول محله موقف الرئيس أيزنهاور، في تلك اللحظة من التاريخ.
وبالإمكان رصد التطابق في المشروعين الأمريكي والصهيوني في الموقف الأمريكي المبكر من وعد بلفور، في عهد الرئيس ويلسون، ومن مشروع التقسيم، وسياسات جون فوستر دالاس في منع السلاح والقمح والتنمية عن مصر، والموقف المؤيد لحلف بغداد، وما سمي بمشروع ملأ الفراغ في شرق السويس، وموقف الرئيس ليندون جونسون أثناء حرب يونيو/حزيران عام 1973م، حيث لم يكتف بتقديم المساندة والتأييد العسكري الكامل للعدوان، ولكنه ساهم في صياغة القرار 242 الصادر عن مجلس الأمن الدولي، والذي اعتبر القضية الفلسطينية، مجرد قضية لاجئين ومشردين، وليست قضية شعب له كامل الحق في الحرية والاستقلال وتقرير المصير. وموقف الرئيس ريتشارد نيكسون في حرب أكتوبر عام 1973م، الذي أقام جسرا جويا ضخما لإمداد الصهاينة بكافة المعدات العسكرية، من طائرات ودبابات ومدفعية ثقيلة، ووسائل أخرى، بعد الضربة الموجعة التي تلقاها الجيش الإسرائيلي في المراحل الأولى لمعركة العبور. وقد توج الرئيس نيكسون انحيازه الكامل لإسرائيل، بالإنذار المبكر باستخدام السلاح النووي، في المواجهة مع الإتحاد السوفييتي، الذي كان يضغط باتجاه وقف إطلاق النار والإمتناع عن مواصلة الإختراق الإسرائيلي على ثغرة الدفرسوار غرب السويس، وفي عمليات فك الإرتباط على الجبهتين المصرية والسورية التي قادها وزير خارجيته ومستشاره لشؤون الأمن القومي، هنري كيسنجر.
وقد صعد جيمي كارتر، بعد انتخابه مباشرة من وتيرة التحالف بين المشروعين، ونقله إلى مستوى إستراتيجي غير مسبوق، وأردفه بتشكيل قوة عسكرية للتدخل السريع في منطقة الصراع العربي الإسرائيلي والخليج العربي، منعا لإمكانية تكرار استخدام النفط كسلاح سياسي للضغط على الولايات المتحدة الأمريكية لاتخاذ موقف متوازن من الصراع العربي مع الصهاينة. وكرس جل فترة رئاسته في محاولة لإخراج مصر من دائرة المواجهة العربية مع المشروع الصهيوني، وتمكن من تحقيق ذلك، إثر زيارة الرئيس المصري، أنور السادات للقدس والمباشرة في مفاوضات مباشرة، برعاية أمريكية مع إسرائيل، انتهت بتوقيع معاهدة كامب ديفيد بين وتطبيع العلاقات بين مصر وإسرائيل.
وسقط جيمي كارتر وسط أزمة الرهائن الأمريكيين في طهران، ووصل رونالد ريجان لسدة الرئاسة. وقد اعتبر الأخير الصراع مع المقاومة الفلسطينية جزءا من الحرب الباردة بين الأمريكان والسوفييت، والصراع مع الشيوعية، وأعلن موقف مساندا لكل المشاريع الصهيونية، بما في ذلك الغزو الإسرائيلي للبنان واقتحام مدينة بيروت وإخراج المقاومة الفلسطينية من لبنان.
وجاء بعده جورج بوش الأب، وسار على ذات النهج. وكان السقوط الدرامي للإتحاد السوفييتي في التسعينيات وانفراط عقد الكتلة الشرقية، وغزو الجيش العراقي للكويت فرصة لا تعوض للإنقضاض الأمريكي الصهيوني على البقية الباقية من اللحمة والتضامن العربيين، وتدمير القوة العسكرية والعلمية للعراق، وفرض حصار مرير وقاس استمر أكثر من ثلاثة عشر عاما على هذا البلد الجريح. وفي نفس الوقت، الإندفاع بشكل غير مسبوق نحو فرض معاهدات مهينة ومذلة على العرب، بدأت بمؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط، وتواصلت بعد وصول الرئيس بيل كلينتون للبيت الأبيض، حيث تم توقيع اتفاق وادي عربة بين الأردن وإسرائيل، واتفاق أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية. وقد عمل الرئيس كلينتون، دون كلل، على تصفية القضية الفلسطينية، وإدخال المنطقة كلها في ما عرف بالشرق أوسطية، من خلال البوابة الإسرائيلية، وتمكن من تحقيق نجاحات ومصالحة مع الكيان الصهيوني في بعض العواصم العربية.
وكانت الطامة الكبرى في الانحياز الأمريكي للمشروع الصهيوني، قد أخذت مكانها بعد وصول الرئيس بوش الابن لسدة الحكم، وتزامنت بأحداث سبتمبر عام 2001 وبدأ ما يمسى بالحرب على الإرهاب، والعدوان على أفغانستان والعراق الذي انتهى باحتلال هذين البلدين المسلمين. وقد أوضح العدوان الأمريكي على أفغانستان والعراق بجلاء العلاقة العضوية والوحدة بين المشروعين الأمريكي والصهيوني، ليس فقط من حيث المضمون، بل ومن حيث الشكل أيضا. فقد مارس المحتل الأمريكي في أفغانستان والعراق ذات الأسلوب الذي يستخدمه الصهاينة في فلسطين، من بطش وقهر للسكان، واعتداء على الأعراض وهدم للمنازل والآثار وحرق للمزارع ونهب للثروات، وحصار قاس وإغلاق للمعابر وحملات مطاردة واغتيالات وارتكاب عقوبات ومجازر جماعية. فهناك تماثل واضح وتطابق في شكل السيناريو المعد، بين ما حدث في مخيم جنين الفلسطيني على يد الصهاينة وما حدث في الفلوجة العراقية على يد جيش الإحتلال الأمريكي. وهناك تماثل أيضا بين إغلاق الطرق والممرات المؤدية إلى قطاع غزة، بفلسطين والممرات المؤدية إلى محافظة الأنبار في العراق. والأمثلة في هذا الصدد كثيرة من الصعب حصرها.
إنه إذن هولوكست واحد، صهيوني أمريكي متماثل من حيث الشكل والمضمون، ويجري تطبيقه ضد أهلنا في فلسطين والعراق. ومن الغريب أنه في الوقت الذي تحاول فيه القيادات السياسية العربية أن تميز بين المشروعين، وتطالب ببناء علاقات تضامنية وتحالفات مع المشروع الأمريكي باعتبار ذلك السبيل لاحتواء المشروع الصهيوني وتضيق الخناق عليه، فإن القادة والسياسيين في الإدارة الأمريكية لا يترددون عن الإعلان صراحة عن وقوفهم إلى جانب المشروع الصهيوني، كما لا يتردد إرييل شارون عن إعلان التأييد للسياسات الأمريكية في الفلوجة والنجف والكوفة وبقية المدن والبلدات العراقية. إنها جبهة مقاومة واحدة العدو فيها واحد، سواء تلبس فيها جندي الاحتلال نجمة داوود أو التحف بجبة العم سام، وهدف الإحتلال في كلا الموقعين هو تركيع الأمة العربية ونهب ثرواتها. وإن أي نصر تحققه المقاومة في أي من مواقعها هو خطوة على طريق النصر في كل المواقع.
ولذلك لم يكن من المستغرب، حين نضع الأمور في إطار هذا التحليل، أن يتجرأ الرئيس بوش على التنكر لقرارات الأمم المتحدة ومبادئ الشرعية الدولية، وأن يقوم باحتلال العراق، ويستبح كل ما هو عزيز على العراقيين والعرب جميعا. وفي هذا الإطار أيضا يمكن فهم تصريحاته أثناء المؤتمر الصحفي الذي عقده مع مجرم الحرب إريل شارون رئيس الوزراء الصهيوني، خلال زيارته الأخيرة للولايات المتحدة الأمريكية، والتي تعهد فيها بالحفاظ على يهودية إسرائيل، وتنكره لحق الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم، والخروج على قرارات الأمم المتحدة والقوانين الدولية التي تؤكد على أن أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة هي أراض محتلة، وعدم جواز الإستيلاء على الأراضي بالقوة المسلحة، وتأكيده على ما دعاه بحق إسرائيل في عدم العودة إلى حدودها التي كانت قائمة حتى عدوان حزيران عام 1967م. كما يمكن فهم الأسباب التي دفعته لتأييد اغتيال الشيخ أحمد ياسين والقائد الدكتور عبد العزيز الرنتيسي، ومن قبله أبو على مصطفى وإسماعيل أبو شنب والكوكبة من الشهداء الذين قدمتهم فلسطين على مذبح الحرية والكرامة.
ليس أمام العرب التعويل على قوى العدوان في الوصول إلى حل عادل لقضاياهم، وليس أمام النظام العربي الرسمي سوى أحد أمرين إما إصدار شهادة الوفاة، أو الإرتقاء إلى حالة الشهادة، التي تشرف بها الأنبياء والقديسين والصالحين والمدافعين عن كرامة أمتهم. لم يعد مقبولا أبدا أن يستمر الهولكست الصهيو- أمريكي إلى ما لا نهاية على أية حال..
hfgehfgehfge
e mail: yousifsite2020@gmail.com
د. يوسف مكي
تاريخ الماده:- 2004-04-21