هل من سبيل لمواجهة ثقافة الموت؟!
وزارة الداخلية السعودية تعلن بين فينة وأخرى عن احباط محاولات تخريبية بالبلاد، وتكشف عن النقاب عن خطة كانت تعد من “الفئة الضالة” لإعادة تكرار سيناريو 11 سبتمبر عام 2001، اختطاف طائرات وتفجيرها.. لكن هذه المرة في أرض القداسات، ومهوى أفئدة المسلمين، وفوق منشآتنا النفطية… اشتباكات مسلحة في مخيم نهر البارد في بيروت بين عناصر ترتبط بتنظيم القاعدة والجيش اللبناني… تفجير ببيروت الشرقية في حي الأشرفية، يودي بحياة وجرح عدد من المدنيين… اقتتال في صعدة باليمن بين عناصر متشددة والجيش اليمني… سيارات مفخخة وفرق موت في بغداد تحصد يوميا أرواح العشرات من المدنيين.. صراع في قطاع غزة بين حركتي حماس وفتح، يحصد هو الآخر عشرات الأرواح، تستكمله عصابات القتل الصهيونية، فتنقض بالطائرات على الأحياء السكنية وتقتل العشرات من المدنيين من النساء والأطفال والشيوخ، والقاعدة تعلن عن وجودها في فلسطين… والمعارك تتواصل في الصومال بين أتباع المحاكم الإسلامية، والحكومة المدعومة من أثيوبيا.. واعتقالات ومحاكمات في صفوف المتشددين بمصر والمغرب والجزائر.. وموريتانيا تعلن عن مثول ثلاثين شخصا أمام المحكمة بتهمة الإنتماء لتنظيم القاعدة.. وفي سوريا وتونس أيضا اعتقالات لعناصر متشددة… والسودان لا يزال مشغولا بفتن التفتيت في دارفور والمنطقة الجنوبية… والقائمة لا تزال طويلة، وقابلة للإتساع… هذا من دون السوح والبوح بما يجري في بقاع أخرى من العالم، وبضمنه عدد من البلدان الإسلامية.
هل أصبح قدر هذا الجيل من الشباب أن يتعايش مع هذا البؤس، وأن يكيف أوضاعه مع ثقافة الموت التي تسود، بشكل يكاد يكون أفقيا وشاملا، معظم أرجاء أقطارنا العربية؟ وهل عجزت فعلا عبقرية إنساننا العربي عن تبضيع هذا الواقع، وتفكيكه والخروج بحلول تضمن الأمن والسلام والإستقرار وحق الحياة للجميع؟.
بعض من هذه الأسئلة تناولناها في أحاديث سابقة، وناشدنا المفكرين والمثقفين والمهتمين بالشأن العام ومراكز البحوث العلمية، رسمية وأهلية، أن يفحصوها ويجعلوها في سلم أولوياتهم. وللأسف فإن هذه القضايا لم ترقى حتى هذه اللحظة، إلى المستوى الذي تصبح فيه شأنا وطنيا ملحا، رغم صلتها المباشرة بمواضيع الأمن والإستقرار في مجتمعاتنا، وبحق الإنسان في التحرر من القلق والخوف.
هنا في المملكة العربية السعودية، طرح حلان أحدهما أمني، وكان له دور في إفشال عدد كبير من محاولات التخريب، وحماية أرواح الناس. وهو أمر يحظى بالتقدير والعرفان، لكن تكرار بيانات الداخلية عن اكتشاف خلايا إرهابية جديدة، يعني في الجانب الآخر، أن بذور الإرهاب والعنف لا تزال كامنة، وأنه ما لم يتم استئصالها فإن الخطر سوف يظل ماثلا. وهذا الحل جرى تبنيه بدرجات مختلفة في بلدان عربية أخرى، لأكثر من عقدين، كما هو الحال، بالجزائر، وأكدت التجربة الميدانية عجزه بمفرده عن إيجاد حل نهائي للمعضلة.
الحل الآخر، كان ما عرف بالمناصحة، وخلاصته قيام بعض رجال الدين بمحاولة الإتصال بعناصر التخريب، وتقديم النصيحة لهم، ومحاولة إعادتهم للجادة الصحيحة. والواقع أن هذا الحل قد بدا طوباويا ومثاليا. وهو قد يتمكن من استقطاب عدد محدود من الفئة الضالة، وتأهيلهم للعودة إلى مجتمعهم، للمشاركة في بنائه، فإنه تعامل مع الإرهاب كأمر واقع، واعتبر الوعظ والإرشاد مخارج للتوصل إلى حل المشكلة. بمعنى آخر، إنه تعامل مع الحالة، من داخل بنيتها المجتمعية والثقافية والفكرية، التي أفرزت هذا الواقع المر. وكانت النتيجة نجاح محدود لا يكاد يذكر، بدا وكأنه مكافأة للخارجين على النظام والقانون، أكثر منه وعي بأسباب استفحال هذه الظاهرة وشيوعها على مستوى الوطن العربي بأسره.
بإمكاننا شيطنة كل الشباب الذين جرى التغرير بهم، والزج بهم في قافلة الموت، فنريح ونستريح. لكن أزير المتفجرات وقنابل القتل، لن تتوقف، وستبقى تقض مضاجعنا، في بقاع كثيرة من وطننا الواسع. وستفرض علينا طرح الأسئلة التي بدأنا بها حديثنا من جديد.. وهي أسئلة تستمد مشروعيتها من واقع العجز، وحالات الإحباط واليأس التي تطبق على نفوس كثير من مجتمعاتنا العربية.
ولعل أول ما يتبادر إلى الذهن، ونحن نحاول تلمس طريق للخروج من عنق الزجاجة، هو أن أي سلوك إنساني، هو حاصل بنية ثقافية وفكرية، بعضها جلي ومقروء، والآخر كامن ينتظر فرصته، في لحظة تاريخية معينة ليعبر عن ذاته في أنماط سلوكية مختلفة.. لعل ثقافة الموت هي أحد تعابيرها. النقطة الأخرى، هي وجود علاقة جدلية بين ثقافة النهوض والإبداع والتنوير، والعلم الحق، وبين عشق الحياة.. فعندما تسود ثقافة التنوير، ويتجه خطها البياني نحو الصعود، كلما تسود ثقافة التسامح واحترام ثقافة ورأي الآخر، وينمو الإعتزار بالوطن، وينخرط الجميع في بنائه.. ويصبح حب الوطن جزء من عشق الحياة، وتتراجع ثقافة الموت. وبالمقابل، فإن سيادة نمط ثقافة أحادية، تسفه العلم، وتشجع على الشعوذة، وتقفل أبواب الإجتهاد، وينحط فيها الفكر ويحتقر العلم والعمل، سوف تؤدي إلى تراجع الدور الوطني الحضاري، وشيوع ثقافة الموت.
إذن القضية الأساسية، التي ينبغي التنبه لها، عند التصدي للإرهاب، هي استبدال ثقافة بثقافة. وهذه القضية لم تعد رفاهية، أو ترفا فكريا، بل معالجة صميمية لاحترام حق البشر في الحياة والأمن والسلم والإستقرار. والإنتقال من ثقافة إلى أخرى، هو بالتأكيد عمل شاق ودؤوب، يشمل تغيير في طرق التفكير، ومعالجات فكرية وهيكلية، ينبغي أن تستثمر فيها كل الطاقات الوطنية.
ينبغي العمل على إعادة تأهيل المربين، والمشرفين على معسكرات الشباب الصيفية، التي كانت ولا تزال تمارس إعادة استنساخ لفكر التكفير، ودورة إنتاج أخرى لثقافة الرأي الواحد، ورفض الآخر التي أفرزت وحرضت على ثقافة الموت. لا بد من الدخول في عصر تنوير جديد، يعيد الإعتبار لثقافة التسامح وفتح أبواب الإجتهاد، التي حض عليها ديننا الإسلامي الحنيف، وثقافتنا العربية الإسلامية الأصيلة، دون خوف أو وجل، فذلك وحده، ربما يكون سبيلنا للخروج من الأزمة، والإنفتاح بآفاق أوسع نحو الإبداعات الإنسانية، والتماهي مع عصر كوني، ليس أمامنا سبيل للإنطلاق إلى الأمام، وإثبات كينونتنا من غير اللحاق به.
وتبقى هناك أسباب أخرى للإحتقان، ولشيوع ثقافة الموت السائدة في عالمنا العربي، لا تقل إلحاحا في معالجتها عن الدخول في عصر التنوير، ينبغي التعامل معها بجدية وحرص، في مقدمتها وجوب تصعيد وتيرة العمل على محاربة الأمية، والفقر والبطالة، ومكافحة الفساد، وحماية المال العام، وفتح الأبواب مشرعة لحرية التعبير واحترام الرأي الآخر، والتشجيع على سيادة قيم المشاركة في بناء الوطن وصناعة القرار، واستكمال بناء مؤسسات المجتمع المدني، والحرص على بناء علاقات وطنية، عمادها الإقرار بأن الوطن للجميع، وأن المشاركة في بنائه مسؤولية على الجميع، وللجميع… بعيدا عن المناطقية والعشائرية والقبلية، والوجاهات والمحسوبية. ومن جهة أخرى، يعاني الوطن العربي من احتلالات خارجية مباشرة، في العراق وفلسطين، وأجزاء أخرى منه، كما يعاني من تبعية اقتصادية، لقوى الهيمنة، وعزو عن تحقيق برامج التنمية، وتراجع في الإنتاج الزراعي والصناعي، واستفحال ظواهر التضخم والإستهلاك، وتبديد الثروات.
سد الذرائع، لا يتأتي من غلق أبواب الإجتهاد، بل من خلال فتحها على مصاريعها للإبداع والحوار، وإعمال الفكر وفتح منافذ الإجتهاد. ذلك هو الطريق لمحاصرة خفافيش الليل، وإخراجها عنوة من مخابئها في الظلام، إلى حيث الضوء.. والضوء حسب القانون الطبيعي كفيل بحرقها، والقضاء عليها جذريا ونهائيا إلى الأبد,.