هل ستقلب الإدارة الأمريكية تحالفاتها بالعراق؟
يبدو أن ثمة تحول دراماتيكي في خارطة التحالفات السياسية العراقية بطريقه لأن يأخذ مكانه في غضون الأسابيع القليلة القادمة. ولا شك أن الذي سيحكم سرعة هذا التحول هو مستوى تصاعد وتيرة المنازلة بين عناصر المقاومة الوطنية وقوات الإحتلال، وهي مقاومة بدى واضحا للعيان أنها آخذة في التصاعد، وأنها أجبرت رئيس الأقلية الجمهورية في الكونغرس الأمريكي على المطالبة بالإنسحاب العسكري الفوري من بلاد الرافدين.
إن مناقشة هذا الموضوع في الكونجرس، بحد ذاتها، حتى وإن كان تصويت الغالبية هو باستمرار بقاء القوات الأمريكية في العراق، هو مؤشر على أن ثمة أزمة ومخاطر حقيقية تتعرض لها قوات الإحتلال. إن المؤشر الواضح على ذلك هو اعتراف إدارة الإحتلال بفشل جميع عمليات الإقتحام التي قام بها الجيش الأمريكي في الفلوجة وتل عفر والقائم والرمادي… في تحجيم قوة المقاومة وشل فعالياتها. ومن هنا جاء الإجتماع الذي دعت له ورعته جامعة الدول العربية، وتم عقده مؤخرا بالقاهرة، كمحاولة لإيجاد مخرج للأمريكيين، يحفظ لهم ماء الوجه، وفي الوقت ذاته يقرب بين مختلف الفرقاء. وكان مأخذنا، منذ البدء، على هذا الإجتماع أن بوصلته لم تتجه مباشرة للغرماء الفاعلين على الساحة العراقية: المقاومة الوطنية من جهة وجيش الإحتلال الأمريكي على الضفة الأخرى. ولأن الذين حضروا لا يملكون حق تمثيل أحد الطرفين المتحاربين، فإن النتيجة هي هدر للجهد وإضاعة للوقت. وقد تناولنا ذلك بالتفكيك في حديثنا على صفحات التجديد العربي قبل أسبوعين من هذا التاريخ.
وفي هذا الصدد، تحضرنا المبادرة الأمريكية للسلام في الشرق الأوسط التي تمخضت عنها اجتماعات مدريد. ففي ذلك المؤتمر أصر الإسرائيليون والأمريكيون على أن لا تمثل منظمة التحرير الفلسطينية بالمؤتمر، وأن تنوب شخصيات وطنية فلسطينية عن المنظمة كممثلين للشعب الفلسطيني. واستمرت الإجتماعات لعشر دورات متتالية استغرقت قرابة عامين، بغياب منظمة التحرير، الممثل اشرعي والوحيد للفلسطينيين. ولم يتمكن المجتمعون من تحقيق أي تقدم، لسبب بسيط هو أن من عينوا ممثلين في الإجتماع للشعب الفلسطيني لم يكونوا كذلك ولم يكونوا مفوضين من أحد للتفاوض بإسم الفلسطينيين. وفي النهاية اضطرت حكومة إسحق رابين لفتح قناة سرية مع قيادة منظمة التحرير دون علم المشاركين في مدريد، وتوصلت هذه القناة السرية إلى عقد صفقة مع الصهاينة نتج عنها ما عرف لاحقا باتفاقيات أوسلو.
بالتأكيد ليس الهدف من استحضار هذه الحادثة إيجاد مقاربة بين كلا الحالتين: الفلسطينية والعراقية، ذلك أن القضية الفلسطينية واجهت ولا تزال مشروعا استيطانيا له بعده الأيديولوجي العنصري وادعاءاته التاريخيه، في حين يواجه العراقيون احتلالا استعماريا لا يدعي صفة شرعية دائمة لاكتساب الأرض والثروة، بل يعلن صراحة أن وجوده في بلاد الرافدين هو حالة مؤقتة مرتبطة بترتيب أوضاعه السياسية والإقتصادية، في البلد المحتل، بما ينسجم مع استراتيجينه الكونية. إن ذلك يعني بداهة أن الأوراق التي لدى المقاومة العراقية، في مواجهة الإحتلال، هي أقوى بكثير من تلك التي بيد الفلسطينيين. إن هدف المقارنة هنا ترتكز فقط على التذكير بمشروعية وحدانية تمثيل المقاومة المسلحة للشعب الواقع تحت هيمنة الإحتلال.
إن غياب الأطراف ذات العلاقة المباشرة بحل قضية الصراع المحتدم الآن في بلاد الرافدين، في الإجتماع الذي دعت له جامعة الدول العربية، أدى إلى أن يتحول اجتماع القاهرة إلى مبارزات لفظية وعنتريات فارغة، تمسك فيها المحسوبون على إدارة الإحتلال بسياسة الإقصاء، واستمروا فيما ظلوا يكررونه في السابق من شعارات “الإجتثاث”، في الوقت الذي كان الهدف من الإجتماع، حسب إعلان الأمين العام لجامعة الدول العربية، هو التقريب بين العراقيين والعمل على صيانة الوحدة الوطنية العراقية، والعمل على إيجاد مخرج للمأزق الأمريكي. وهكذا انتهى الإجتماع دون تحديد سقف زمني لرحيل قوات الإحتلال عن العراق. وحدد موعد لانعقاد مؤتمر وطني، يجري في العراق ولكن دون تحديد للقوى التي يفترض أن يكون لها دور فاعل في صياغة مستقبله. وهكذا فإن سياسة الحوصان والإلتفاف وتغييب ما هو بديهي في الإجتماع قد أدت إلى فشله.
إن سؤالا يطرح نفسه بحدة في هذا الإتجاه، وهو سؤال له علاقة مباشرة بعنوان هذا الحديث، هو لماذا فشل الإجتماع الذي دعت له جامعة الدول العربية بالقاهرة في أن يكون حشدا لكل العراقيين الوطنيين؟ ولماذا غابت عنه قوى الممانعة التي تتصدى بشكل يومي لقوات الإحتلال وتلحق به أفدح الخسائر؟.
ولعل من الأهمية الإشارة إلى أن الظروف التي تقبل فيها حركة المقاومة العراقية لحضور الإجتماع لم تكتمل بعد. إن هذه الشروط، كما وردت في البرنامج السياسي للمقاومة والبيانات اللاحقة تتمثل في رحيل المحتل دون قيد أوشرط عن العراق، وتقديم تعويضات عن الدمار والخراب الذي لحق بالبلاد، بشكل شامل، نتيجة للإحتلال ومصادرة الدولة كيانا وهوية، وعدم التهاون مع القوى التي جاءت رديفة للإحتلال ومارست الخيانة العظمي بحق وطنها، واستبعادها كلية من العملية السياسية، تماما كما هو الحال مع البلدان الأخرى التي وقعت ضحية للإحتلال الإستعماري المباشر. وبالمقابل، فإن الصراع المحتدم الآن بين المقاومين وجيش المحتل والقوات العميلة، لم يصل بعد إلى نقطة الحسم، في صالح خيار التحرير والمقاومة، وإن كان قد أكد ثبات حضوره وتصاعد أدائه كميا ونوعيا. ومن هنا يمكن فهم أسباب غياب حركة المقاومة عن اجتماع القاهرة. وهو غياب يبدو مرغوبا فيه من كلا طرفي المعادلة: المقاومة والإحتلال. لكن ذلك لن يستمر إلى ما لا نهاية، ولسوف يحدد ميدان المواجهة كيفية الأداء السياسي المطلوب ونوعه خلال الفترة القادمة، وهو انتظار لن يطول على أية حال.
إن استحضار صور من مسرح الأحداث، وبخاصة في المرحلة التي تزامنت وأعقبت الإنتخابات الأخيرة، حتى يومنا هذا، إضافة إلى المواقف التي برزت أثناء انعقاد اجتماع القاهرة سوف تقدم إجابات أولية عن حقيقة ما يجري الآن على الساحة العراقية.
الصورة الأولى هي تصريحات لآية الله العظمى السيد السيستاني، قبيل الإنتخابات الأخيرة، وهو يعلن تمسكه بالحياد وأنه لن يقف إلى جانب أية لائحة انتخابية، ولن يتدخل لدعم أي من المرشحين. إن تلك التصريحات تعتبر صورة مغايرة لما كان متوقع من مناصرة السيد السيستاني للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية، الدي عرف بتحالفه مع المرجعية.
ولعل جملة من التصريحات لرئيس الوزراء العراقي السابق، السيد إياد علاوي حول تأييده للمقاومة الوطنية “الشريفة” وتمييزه بين العنف والمقاومة تلقي ظلالها على تغير المواقف التكتيكية السياسية، وتغير في خارطة التحالفات، وهي تغيرات لا يمكن أن تأخذ مكانها، من قبل الذين يردفون الإحتلال، دون الحصول على ضوء أخضر من الإدارة الأمريكية، صاحبة الرأي الأول والأخير في هذا الشأن.
الصورة الأخرى، هي تصريحات وزيرة الخارجية الأمريكية، السيدة كونداليزا رايس بأنه لا مفر من التفاوض مع بعض قيادات المقاومة العراقية لصالح تحقيق استقرار العراق، من جهة ولوضع جدول زمني تنسحب خلاله القوات الأمريكية بشكل تدريجي من جهة أخرى. في هذا الوقت بالذات ارتفعت أصوات، موالية لإيران، داخل الوزارة العراقية، على رأسها رئيس الوزراء، إبراهيم الجعفري وبعض القيادات الحزبية في المجلس الأعلى للثورة الإسلامية وحزب الدعوة معلنة موقفا واضحا ضد انسحاب القوات الأمريكية من العراق، أو حتى جدولة ذلك الإنسحاب زمنيا. وقد جاءت هذه التصريحات في ظل تقارب واضح بين التيار الصدري والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية، وموقف متشدد من السيد مقتدى الصدر إزاء مشاركة عناصر ورموز سياسية محسوبة على حزب البعث، بما يعني رفض أي تنسيق أو لقاء مع جبهة المقاومة الوطنية المناوئة للإحتلال. وهذا الموقف لا يعني، في النهاية، غير استمرار سعير المواجهة المسلحة بين المقاومين والأمريكيين.
إن هذا الموقف يطرح بدوره سؤال آخر، لا يقل أهمية عن الأول، حول الأسباب التي تدفع بالقوى المعروفة بتأييدها لإيران للإستمرار في الإلحاح على أهمية بقاء القوات الأمريكية في العراق، والمطالبة باستمرار المواجهة بينها وبين العراقيين. في هذا الصدد تشير تقارير أمريكية إلى أن هناك رغبة جامحة لدى القوى المناصرة لإيران والمتنفذة في السلطة المعينة من قبل قوات الإحتلال لإبقاء القوات الأمريكية رهينة، لصالح إيران على الأرض العراقية. إن الحضور المكثف للجيش الأمريكي في العراق، من وجهة نظرها، سيجعل الإدارة الأمريكية غير قادرة على اتخاذ أي قرار حاسم فيما يتعلق بقضية المفاعلات النووية الإيرانية. وإذا ما حدثت الإدارة الأمريكية نفسها باتخاذ أي قرار يضر باستراتيجية طهران العسكرية، فإن الميليشيات المؤيدة للجمهورية الإسلامية الإيرانية سوف تأخذ على عاتقها مواجهة الجيش الأمريكي، ليس على الساحة الإيرانية، بل على ساحة العراق، تماما كما تصارع العثمانيون والصفويون من قبل فوق بلاد الرافدين. وهكذا تبدو السلطات الإيرانية مطمئنة بأنها ستكون بمنأى عن أية عقوبة أمريكية طالما أن قوات الإحتلال لا تزال غارقة بالمستنقع العراقي.
والواقع أن بعضا من الحقائق المتعلقة بهذا الموضوع قد بدأت تتكشف للأمريكيين وحلفائهم البريطانيين. ففي عملية استغراض للقوة قامت بعض الميليشيات المؤيدة لإيران بعمليات اختطاف وتفجير، وتعرض لبعض القواعد الأمريكية بالمنطقة الجنوبية. وقد تنبهت الإدارة الأمريكية لذلك. وكان رد فعلها عنيفا وقاسيا، تمثل في الكشف عما تقوم به ميليشيات بدر من حملات قتل وتعذيب بحق السجناء العراقيين الذين يجري اختطافهم من قبل عناصرها، والذين أودعوا في مقر وزارة الداخلية، بموافقة من الوزير ذاته، الذي هو عضو قيادي بارز في المجلس الأعلى للثورة الإسلامية. وقد هددت إدارة الإحتلال بأنها سوف تقوم بجولات مفاجئة لبقية السجون العراقية وأنها سوف تكشف عن المتسببين في التعذيب وتقوم بمحاسبتهم.
من جهة أخرى، كشف تقرير بريطاني، حسب صحيفة الإندبندنت أن مليشيا فيلق بدر هي المسؤولة عن إدارة مركز الإعتقال السري الذي جرى كشفه مؤخرا في منطقة الجادرية ببغداد، والذي تم العثور فيه على 173 معتقلا تظهر عليهم آثار التعذيب. وقد كشف التقرير أن وزير الداخلية بيان جبر كان قائدا لهذه الميليشيات التي لا تزال تسيطر على جانب من مبنى الداخلية. وأنه يحتفظ باتصالات يومية مع ضباط ارتباط في المخابرات الإيرانية منتشرين في المدن العراقية.
لماذا تقوم إدارة الإحتلال في هذه الحقبة بالذات بالكشف عن جرائم التعذيب التي تقترفها عصابات بدر في السجون العراقية، وهي التي أفلتت عقالها فيما مضى لتسعير الفتنة الطائفية، وسمحت لها بممارسة عمليات التصفية والملاحقة بحق الوطنيين والشرفاء من العراقيين. لا يمكن فهم ذلك إلا من خلال وعي التحولات التي طرأت على السياسة الكونية للولايات المتحدة في الدورة الرئاسية الثانية، والتي تحدثنا عنها مطولا بعدة أحاديث في حينه. وهي سياسة فرضها فشل المشروع الأمريكي في العراق، مما أدى إلى تعثر الإستراتيجية الأمريكية في بقية المناطق، وتحول تقرير راند الموسوم بـ “الإستراتيجية الكبرى” إلى مجرد ملف ما يلبث أن يلفه غبار النسيان.
إن ثمة مخاطر يتحدث عنها الآن كبار الساسة الأمريكيون، نتيجة لانشغال الجزء الأكبر من القدرة القتالية الأمريكية في العراق، وهو انشغال يلحق الأذى باستراتيجية الدفاع الأمريكي على مستوى العالم. وليس له من حل سوى الخروج من العراق، والإعتراف بأن ارتكاب جريمة الإحتلال، هو بالإضافة إلى كونه عملا غير أخلاقي، فإنه عجل بفشل المشروع الأمريكي للقرن الواحد والعشرين.. ولسوف يعود بلد النهرين حرا عربيا مستقلا، وينكفيء الإحتلال الأمريكي متراجعا على عقبية… وسيعود الذين جاءوا على ظهور الدبابات من حيث أتوا خائبين، لكنهم هذه المرة دون مآزر أو نصير. ولسوف يصيغ العراق الجديد تحالفاته التي تأخذ بعين الإعتبار هويته وثقافته وموقعه من التاريخ، ومن مسيرة الإنسانية المتجهة إلى أمام.
yousifsite2020@gmail.com
د. يوسف مكي
تاريخ الماده:- 2005-11-23