هل تتجه الإدارة الأمريكية نحو تبني سياسة شرق أوسطية جديدة؟
في السياسة ليست هناك صداقات دائمة، فما يحكم التحالفات في العلاقات الدولية، ويقرر حركتها هي جملة المصالح وتوازنات القوة. وعلى هذا الأساس تعيد القوى الكبرى، بشكل خاص، صياغة استراتيجياتها وبرامجها، وعلاقاتها مع الدول، بين فينة وأخرى، بما يضمن إستمرار هيمنتها وتأمين مصالحها.
من هذه الزاوية، يمكننا فهم طبيعة التشكيل السياسي الدولي الذي ساد العالم بعد الحرب العالمية الثانية، واشتعال الحرب الباردة بين العملاقين، الولايات المتحدة والإتحاد السوفييتي، والتي استمرت حتى مطلع التسعينيات، وانتهت بسقوط أحد القطبين، والكتلة الإشتراكية بأوروبا الشرقية. فقد كانت التحالفات والإستقطابات متأثرة إلى حد كبير بنتائج الحرب، وانشطار العالم إلى معسكرين يتنافسان في أيديولوجياتهما وأهدافهما واستراتيجياتهما، وحتى أنماط العيش في بلدانهما. وفي سياق تأمين المصالح، ساد نظام تميز بالإعتراف بحتمية التعايش السلمي، بين القطبين، خاصة بعد اكتشاف القنبلة النووية، وبلوغ القدرة التدميرية لدى كل قطب لمستوى خطير يهدد بفناء البشرية بأسرها. وخلال تلك الحقبة، اعتمدت العلاقات الدولية على محاولة استقطاب بقية دول العالم لهذه الكتلة أو تلك. وفي هذا الإتجاه، نشأت منظومات عسكرية واقتصادية جديدة، تابعة للقطب الرأسمالي أو الإشتراكي، برز من بينها حلف وارسو والنيتو وحلف بغداد ومجموعة الكومنولث.. كما برزت منظومات تعبر عن رغبة في اختيار نهج مستقل ينأى بنفسه عن الإنحياز لأي من القطبين المتصارعين، ككتلة عدم الإنحياز، والحياد الإيجابي، ومؤتمر القارات الثلاث.
وخلال تلك الحقبة، شهد العالم حروبا من طراز جديد، جرت في معظم القارات. لقد كانت الحروب التي تحدث بين الدول الصغيرة، هي استمرار للحرب الباردة، وكانت حروبا بالنيابة تتم لصالح هذا القطب أو ذاك، نظرا لإدراك القطبين، على السواء، باستحالة نشوب حرب مباشرة بينهما نتيجة لامتلاكهما لقوة الردع النووية. وهكذا كانت حروب الهند الصينية، وكوريا، والحروب التي شنتها، إسرائيل، العصى الأمريكية الرادعة، ضد الأمة العربية. وكانت علاقة كلا القطبين مع حلفائهما وأتباعهما تتسم بالمودة والتدليل والرصانة، لإدراكهما بأن بإمكان الحليف أن يغير جلده، ويتجه بعلاقاته الودية إلى المعسكر الآخر. وقد شهد العالم آنذاك انتقالا دراماتيكيا لعدد لا بأس به من دول العالم الثالث إلى هذا المعسكر أو ذاك، وبخاصة في الأقطار العربية. وكان وجود القطبين، صمام أمان لعدم اتجاه العلاقات الدولية نحو الإنفلات والفوضى.
وانتهت الحرب الباردة مع مطلع التسعينيات، ومع انتهائها، تربعت الولايات المتحدة الأمريكية على عرش الهيمنة العالمية، وأعيد تشكيل خارطة الإستقطاب الدولي. وكانت المرحلة الأولى لنهاية الحرب الباردة قد شهدت سقوط جدار برلين وانفراط عقد الكتلة الشرقية، ونهاية حلف وارسو، والحرب الأمريكية الأولى على العراق، وانعقاد مؤتمر مدريد بين الحكومات العربية ذات العلاقة المباشرة بالصراع العربي الصهيوني، والإسرائيليين، وتدخل القوات الأمريكية في بنما والصومال وراوندي.
ومع أن خطاب الرئيس، بوش الأب قد بشر بنظام دولي جديد، يعتمد على الشراكة بين الدول الكبرى. وقد تمثلت تلك الشراكة عام 1990 في الحرب على العراق, لكن تفرد الولايات المتحدة كقوة عظمى ووحيدة في السياسة الدولية، قد جعل مفهوم الشراكة يبهت رويدا رويدا، ويأخذ طريقه في التلاشي. وبرز ذلك بوضوح في هيمنة الولايات المتحدة على قرارات مجلس الأمن الدولي، وتفردها باستخدام حق النقض، واختطافها لمؤتمر مدريد، ومباحثات السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين، التي انتهت بتوقيع اتفاقيات أوسلو، التي كانت الإدارة الأمريكية، على الصعيد العملي، هي الراعي الوحيد للوساطة فيها، وفي اتفاق وادي عربة بين الأردن والإسرائليين، والمباحثات اللاحقة بين السلطة الفلسطينية في واي ريفير وكامب ديفيد وشرم الشيخ، ومباحثات ميتشل وتفاهمات تنيت. ومع القرار الأمريكي بالعدوان على العراق الذي انتهى باحتلاله عام 2003م، بدت المسافات تتباعد بين الأوروبيين بزعامة فرنسا وألمانيا، وبين الإدارة الأمريكية، حتى بلغت درجة الصدام السياسي، إثر فشل إدارة الرئيس بوش في استصدار قرار من مجلس الأمن الدولي يجيز لها العدوان على العراق، بعد أن هددت فرنسا باستخدام حق النقض ضد أي قرار يجيز ذلك.
آنذاك، أصبح الصراع بين الأمريكيين وحلفائهم، في أوروبا الغربية، علنيا. وصار وزير الدفاع الأمريكي، دونالد رامسفيلد يتحدث عن أوروبا قديمة، في إشارة إلى فرنسا وألمانيا، وأوروبا جديدة في إشارة إلى الدول الأوروبية الشرقية التي التحقت بالسياسة الأمريكية بعد سقوط سيدها. وكرر مسئولون أمريكيون بأن الولايات المتحدة لن تتردد في الخروج على الإجماع الدولي حين يتعلق الأمر بمصالحها وأمنها القومي. وأنها لن تعتبر مجلس الأمن والأمم المتحدة مرجعية لقراراتها المتعلقة بالحروب الإستباقية التي تخوضها، في مناطق نفوذها، وبعيدا عن حدودها الجغرافية، وعن حقها في “الدفاع عن النفس”.
وهكذا قامت إدارة الرئيس الأمريكي، جورج بوش، تساندها في ذلك بريطانيا وأسبانيا وإيطاليا واستراليا، وعدد قليل من الدول الصغيرة، بالضد من الشرعية الدولية وميثاق هيئة الأمم المتحدة باحتلال العراق. وكان التصور الأمريكي، في حينه، أن الشعب العراقي سيخرج للمحتلين بالورود والزغاريد، مهللا للغزو ومباركا خطوة “التحرير”. لكن العراقيون فاجأوا الغزاة، والعالم بأسره بمقاومتهم الإسطورية، التي بدأت بعد سقوط بغداد مباشرة. واكتشف الغزاة، بعد فوات الأوان أن ما عللوا أنفسهم به من سطو وهيمنة ونهج توسعي، وإعادة تشكيل سياسي للشرق الأوسط، وجعل إسرائيل مرتكزا في الهيمنة والقرن الأمريكي الجديد، قد تعثر، وغاص في المستنقع العراقي. وأن المقاومة والخسائر الأمريكية، أصبحتا تسيران في خط بيان متواز متجه إلى الأعلى، لم تشفع له أو تحد من عتوه المقابر الجماعية التي صنعها المحتلون وعشرات الألوف من القتلى المدنيين، (الذين فاق عددهم على المائة ألف حسب المصادر الأمريكية ذاتها). وأن الأشباح المقاومة تطل برؤوسها عنيدة من أطلال ومقابر الفلوجة وبعقوبة لتقض مضاجع الغزاة، وتحيل الأرض تحت أقدامهم إلى جحيم.
تضاعفت عمليات المقاومة خلال شهرين، بعد مذبحة الفلوجة، وانتهت عملية الإنتخابات، بمحاولات لن يكتب لها النجاح في تقسيم الوجدان العراقي إلى طوائف وأقليات، تمهيدا لتجزئة العراق، كجغرافيا وكتاريخ. وأخيرا أعلن البنتاجون أن عدد العمليات تضاعفت أكثر من أربع مرات، وبنفس المستوى، تضاعفت أعداد القتلى من الأمريكيين والمتحالفين معهم. ومع بداية عودة الوعي، وإدراك حجم الكارثة، أخذ كبار المسؤولين السابقين في الإدارات الأمريكية، وبعض المسؤولين الحاليين، والجنرات، والخبراء اللامعين يتسابقون، في طرح سيناريوهات للخروج من مستنقع العراق. ومن بينهم: كيسنجر وبريجنسكي وسكوكرفت وكوردزمان وزيني، وأبي زيد وكيسي واعضاء في الكونغرس كالسناتور كنيدي.
وفي عشية رأس السنة الجديدة أجرت المحطة التلفزيونية “الديمقراطية الآن” مقابلة صحفية على الهواء مع الصحفي البريطاني الشهير “روبرت فيسك”، الذي قام بتغطية احداث العراق كصحفي مستقل، وجهت اليه المحطة سؤالاً عن انطباعاته عن احداث عام 2004 في العراق، فلخص جوابه بالقول: “هناك الكثير من الادلة تشير إلى ان مشروعنا في العراق قد فشل فشلا ذريعاً، وان جيوشنا الغربية، تهزم بحرب عصابات، لم نر لها مثيلا في الشرق الاوسط”. ويضيف فيسك قائلا: “اعتقد ان كامل المشروع في العراق قد انتهى. ان المشروع الامريكي، إن كان للديمقراطية او من اجل النفط والتوسع الاقتصادي او من اجل شرقً اوسطيً اكثر ملائمة لامن إسرائيل، هذا المشروع قد انتهى، وتكشف أنه مشروع بائس، لا يمكن ان يكتب له النجاح. فالمقاومة في العراق اليوم هي من القوة بحيث ان القوات الامريكية ومهما امتلكت من تكنولوجيا هائلة لا يمكن لها من ان تسيطر عليها.” ثم يصل فيسك الى الملاحظة الجوهرية الحاسمة: ” وهكذا وصلنا الآن الى مرحلة ان قوات المقاومة تسيطر على معظم انحاء البلاد. والمنطقة الآمنة الوحيدة في العراق هي منطقة كردستان في الشمال، والتي هي منطقة تدار من قبل حكم ذاتي كفوء. وهي خارج سيطرة الحكومة العراقية في كل الاحوال… واعتقد ان ما سوف نشاهده في نهاية الامر، وكما كنا قد شاهدناه في كل حروب الاحتلال في الشرق الاوسط، هو فتح بعض الاتصالات بين الامريكان والمقاومة، وهذا ما فعله الفرنسيون حين قبلوا أخيرا بالتفاوض مع جبهة التحرير الوطني الجزائرية. وفعله البريطانيون بعد سنوات من الرفض، حين تفاوضوا مع الجيش الايرلندي السري، ومع المناضلين في عدن. انا اتوقع ان يبدأ الامريكان بايجاد الصلات مع المقاومة، ان لم يكونوا قد بدأوا فعلا. وذلك يعني بداية النهاية، إنه يعني فشل المشروع الامريكي. ان الجنرالات في العراق الآن يدركون ذلك، غير ان جنرالات البنتاغون، واولئك القابعين في فلوريدا القديمة، والسادة في الخارجية الامريكية والبيت الابيض فانهم لا يقرون او يعترفون بهذا الواقع، لان هناك حاجزاً يقف بين وهمهم الذاتي وبين الحقائق على الارض. إن الامر قد حسم. وما سنشاهده هذا العام سيكون بداية نهاية اللعبة، وسيحاول الامريكيون الخروج من العراق دون ان يفقدوا ماء وجههم”. ويختتم فيسك المقابلة بالقول:” في مرحلة معينة فان القوى السياسية التي تقف خلف المقاومة سوف تتحرك في المكان لتسيطر على البلاد، ومن المحتمل انهم سيفعلون ذلك”.
ولعل مثل هذه المقابلة هي أحد المداخل الصحيحة للولوج في الحديث عن ملامح السياسة الأمريكية الشرق أوسطية الجديدة، والتي ستكون محور حديثنا القادم بإذن الله.
yousifsite2020@gmail.com
د. يوسف مكي
تاريخ الماده:- 2005-02-16