هل انتهى فعلا عصر الأيديولوجيات؟

0 185

 

 

السقوط المدوي للإتحاد السوفييتي ومنظومة الدول الاشتراكية، ونهاية الحرب الباردة في أوائل التسعينيات من القرن المنصرم، أعاد بقوة طرح الأسئلة حول المفاهيم التي ارتبط حضورها بالأفكار اليسارية. وعبر كثير ممن انتشوا بالتحولات الدرامية العالمية عن نهاية الأيديولوجيات تارة ونهاية التاريخ تارة أخرى، وأن حقبة جديدة في التاريخ الإنساني قد بدأت، أهم ملامحها الانطلاق في صياغة السياسة الدولية من اعتبارات براجماتية، لن يكون للأيديولوجيا فيها دور يستحق الذكر. ولم يتردد عدد غير قليل من الكتاب، في اعتبار التوجهات الأيديولوجية أس البلاء، ومكمن الاستبداد، وسبب غياب الحرية، وأن الخلاص منها، سيعيد الاعتبار لمفاهيم الحرية والعدل والمساواة. وسيجعل فضاءات التفكير أكثر انطلاقا ورحابة. وسيدفع بالحركة العلمية أشواطا واسعة إلى الأمام. والخلاصة أنه لن يكون بعد الآن، سيد غير العقل والتقانة والعلم، بعد اندحار الأنظمة الشمولية، و”الدغميات” التي ارتبطت بها.

 

واقع الحال، أن ما شهدناه بعد نهاية الحرب الباردة، لم يكن غير تحرير شهادة الوفاة للنظام العالمي الذي ساد إثر نهاية الحرب العالمية الثانية، والذي شهد بروز محورين رئيسيين: المحور الغربي، وقادته الولايات المتحدة الأمريكية. والمحور الشرقي وقاده الإتحاد السوفييتي.

 

التزم المحور الأول بالحرية الاقتصادية، وتقديس الملكية الفردية، مسترشدا بآراء آدم سميث وريكاردو وماكس فيبر. وقد اعتبرت التنمية وفقا لهذا المنهج نتيجة التنافس وإطلاق المبادرات والحوافز الفردية، وذلك هو السبيل للحصول على النتيجة الأفضل.

 

أما المحور الآخر، فركز على سيطرة الدولة على كافة وسائل الإنتاج. والتنمية ووفقا لرؤيته فإنها نتاج تخطيط يلتزم بتنفيذ الأولويات من المشاريع التي تستجيب لحاجة المجتمع. ولذلك يرفض هذا المنهج، أن تكون التنمية حاصل مضاربات الحرية الاقتصادية، أو أن تكون القيمة النقدية للسلعة خاضعة لقانون العرض والطلب. ويسترشد بالنظرية الماركسية في قيادة الدولة والمجتمع.

 

ومما لا شك فيه، أن الإعصار الذي أدى إلى نهاية الحقبة السوفييتية وانهيار منظومة الدول الاشتراكية في أوروبا الشرقية، في بداية التسعينيات من القرن المنصرم، قد أكد بشكل لا يقبل الجدل، عقم الوسائل والأدوات التي اعتمدها المحور الاشتراكي للنهوض بمجتمعاته. إضافة إلى الاختراقات التي تكشف لاحقا قدومها من الغرب. وكانت النتيجة هي السقوط الدرامي لهذه الأنظمة مجتمعة، وتربع الولايات المتحدة على عرش الهيمنة العالمية.

 

وإذا كان من المؤكد أن غياب أحد المحورين، ونعنى به تحديدا الإتحاد السوفييتي ودول الكتلة الاشتراكية في أوروبا الشرقية، قد أدى إلى بهوت واضمحلال مقولاته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فإن ذلك لا يعني بالضرورة، أن مقولات المحور الآخر، غير قابلة للدحض، وأنها عصية على التغيير، وستبقى إلى الأبد سيدة الموقف. ذلك أن استمرارية صمود تلك المقولات لم يكن ليتم بمعزل عن وجود الآخر.

 

فقد كانت العصبية، إذا جاز لنا استعارة التعبير الابن خلدوني، والصراع الايديولوجي بين القوتين العظميتين للهيمنة على العالم، ومحاولاتهما للتفوق في التنافس الدائر بينهما محركا لمناقشات ومساجلات وإضافات في مقولات كلا المعسكرين، مما حدا ببعض المفكرين إلى التبنؤ بأن تفاعل تلك الحوارات سيؤدي إلى بروز نظرية تلاق اجتماعية convergency theory يلتقي عندها النموذجان الرأسمالي والاشتراكي، حيث يقر الأول بأهمية تحقيق التكافل الاجتماعي، ويقر الثاني بأهمية الحرية السياسية.

 

بل إن البعض من المفكرين أصبح يرى في النظرية الكنزية وقيام دولة الرفاه، وخاصة في الدول الاسكندنافية، ومشروع مارشال للإعمار، وبروز نماذج اقتصادية قوية خارج منظومة الدول الغربية، كاليابان وكوريا الجنوبية وهونج كونج وماليزيا وسنغافورة وتايوان، على أنها جزء من برنامج التنافس الأيديولوجي الغربي مع النظرية الاشتراكية في الشرق الأوروبي.

 

وكان النظام الشيوعي من جانبه، هو الآخر، منذ عهد ستالين قد بدأ في الإقرار بمشروعية الجهد الخاص، وسمح للفلاحين بامتلاك جزء من الأراضي التي يقومون بزراعتها، أطلق عليها مزرعة المطبخ، وأصدر تشريعات بتشجيع الحوافز الفردية، والعودة التدريجية نحو الملكية الشخصية. وفي عهد آخر سكرتير للحزب الشيوعي السوفييتي، غورباتشوف شهدت بلاده إصلاحات واسعة في النظام عرفت بالبروستريكا، في محاولة لحل المشاكل الداخلية المستعصية الناجمة عن هيمنة البيروقراطية. كما جاءت تلك الإصلاحات لتعكس رغبة جادة في التكيف مع الحقائق الاقتصادية العالمية التي أفرزها العصر.

 

إن غياب أحد المحورين في الصراع الايديولوجي الذي احتدم بعنف، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، قد أدى إلى تفرد المحور الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية بصناعة القرار العالمي. ومثل هذا التفرد، لم يكن كما أشيع معادلا لقيام نظام دولي يسود فيه السلام والوئام في العالم.

 

فقد رأينا أن مهرجان الفرح، واستمرار عزف سيمفونية النصر، لم يحولا دون استمرار إراقة الدماء في بقاع كثيرة من الأرض، ليس آخرها احتلال أفغانستان والعراق، وتقسيم الأخير إلى كانتوت طائفية وإثنية، والحرب على لبنان، وإبادة قطاع غزة، وتعليق مبادئ القانون الدولي وحقوق الإنسان، في سجون الجادرية وأبو غريب وغوانتنامو، وبلقنة الصومال، وتدمير باكستان، وصدور أمر من محكمة الجنايات الدولية باعتقال الرئيس السوداني. وإعلان حرب لا تبقي ولا تذر بحق عدد من البلدان، تحت ذريعة الحرب على الإرهاب.

 

بل إن حالة الاسترخاء الأيديولوجي للنظام الرأسمالي التي سببها غياب الأخر، وبالتالي انتفاء حالة التنافس بين المعسكرين السابقين، الشرقي والغربي، قد أدى إلى انتفاء الحاجة لتعزيز الفكر الرأسمالي وترصينه.

 

وهكذا فتح الغرب الرأسمالي الأبواب مشرعة، لمبدأ آدم سميت “دعه يعمل” بعنفوانه المعهود، وقبضته الحديدية، دون حدود، ودون اكتراث لما يمكن أن يسببه إطلاق العنان لهذا المبدأ، من معاناة وبؤس وكوارث إنسانية، تبدت بصورها الفاضحة في أزمة الرهن العقاري الأمريكية، وفي بروز أعنف أزمة كساد اقتصادية عالمية، منذ أزمة الكساد الاقتصادي عام 1928، والتي استمرت حتى نهاية الحرب الكونية الثانية. فالمطلوب في التنافس بين الكبار في العالم الرأسمالي هو تحقيق أكبر قدر من الربح، ولا يهم بعد ذلك حجم الخسائر والكوارث، ولا عدد الضحايا من شعوب العالم المقهور.

 

فلم يعد هناك من كابح، وفي خضم هذا التنافس الاقتصادي المروع، المحتدم بين أرباب المال، يضطر الذين لا مال لهم ولا هوية في العالم الثاني أو الثالث، لا فرق، للبحث من جديد عن طريق للخروج من مأزقهم، ولربما وجدوا كل الأبواب موصدة أمامهم، بحيث لا يبقى أمامهم سوى بعث ميتهم من جديد.

 

ترى هل فعلا انتهى عصر الأيديولوجيات؟؟!

 

cdabcd

 

yousifsite2020@gmail.com

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

واحد × واحد =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي