نهاية خريف غضب
نستميح الأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل، في استعارة عنوان كتابه “خريف الغضب”، الذي أرخ فيه لسيرة الرئيس الراحل، أنور السادات، في مطالع الثمانينات من القرن المنصرم، معتمدا منهج التحليل النفسي. وقد استفدت كثيرا مما قدمه الكاتب الكبير، من معلومات دقيقة وثرية عن الكنسية القبطية، ودورها في الكفاح المصري من أجل استقلال مصر، وعن الجماعات الإسلامية، ابتداء من تأسيس جماعة الإخوان المسلمين، في نهاية العشرينات بالقرن المنصرم، حتى اغتيال الرئيس السادات على يد جماعة إسلامية متطرفة.
حديثنا هذا معني بخريف غضب آخر، جرى التجاوز في تسميته، حين أطلق عليه مسمى الربيع العربي. وقد أريد للتسمية أن تكون تماهيا مع ربيع آخر، ومواسم ربيع، شهدتها أوروبا الشرقية. كانت المحطات الأولى في تلك المواسم، قد حدثت أبان هيمنة الاتحاد السوفييتي، على الكتلة الاشتراكية، كما في بولندا وتشيكوسلوفاكيا، حيث برزت حركات إصلاحية موالية للغرب، ومنشقون تسلموا السلطة بالبلدين، وسحقت محاولاتهم الجنينية تحت زناجر الدبابات السوفييتية، من غير رحمة. أما التسمية الأشهر لربيع أوروبا، فقد أخذت مكانها، إثر الانتفاضات الكبرى التي شهدتها القارة في جزئها الشرقي، إثر سقوط الاتحاد السوفياتي، في أوائل التسعينيات من القرن الماضي. انتهت تلك الانتفاضات، ببروز أنظمة ديمقراطية، بمقاسات غربية، التحقت جميعها لاحقا، بالاتحاد الأوروبي، وتحت حماية مظلة حلف الناتو.
منذ بداية انطلاق الحركات الاحتجاجية العربية، تكشف زيف التسمية المجازية، للربيع العربي، حيث لا أوجه الشبه بين ما جرى بأوروبا الشرقية، وما جرى بالوطن العربي. ففي أوروبا حتم التراكم التاريخي النضالي، وشيخوخة الاتحاد السوفييتي، بروز قوى اجتماعية وسياسية جديدة، ببرامج وأهداف واضحة. وقد أسهم التطور التاريخي، في أوروبا الغربية، في التسريع بعملية الانتقال بأوروبا الشرقية، بسرعة مذهلة، فاقت كل التوقعات. حيث لم يمض سوى وقت قصير، إلا واستوعبت الدول الجديدة، والتحفت بالقاطرة الأوروبية.
في الوطن العربي، كانت الانطلاقة عفوية، بكل المقاييس، حيث لا أهداف ولا استراتيجيات ولا حامل اجتماعي، ولا عوامل محيطة، بخلاف ما جرى بأوروبا، تسهم في استثمار لحظة الغضب. وأصدق تمثيل لما حدث هو أنه خريف غضب، تمكنت من خلاله أكثر القوى السياسية تخلفا بالوطن العربي، ممثلة في جماعة الإخوان المسلمين، من اختطاف الحركة الاحتجاجية، في معظم البلدان التي شهدها موسم الغضب.
حرفت انتفاضات وثورات الحرية والكرامة، عن أهدافها الحقيقة، بفعل هيمنة الإخوان على السلطة، مكرسة أشكالا جديدة من الاستبداد، والإقصاء. وأخطر ما في هذه الأشكال الجديدة، هو عداءها الشديد لفكرة الوطن، ومقتها للحرية. فكانت النتيجة أن الوطن تحول، في الثلاث سنوات المنصرمة، إلى كانتونات وفيدراليات طائفية، وقد حفز ذلك النعرات الطائفية والفئوية، وإلغاء الهويات الوطنية، وتفكيك الأقطار التي طالها خريف الغضب، برعوده وأعاصيره العاتية. ولم يكن لهذا الإعصار أن يتوقف عند حد، إلا بوقفة عز، وقوة إرادة، تستمد مقوماتها، من جوهر تراث هذه الأمة، وقدرتها على التفاعل مع ما هو إنساني وحضاري.
ولأن قاهرة المعز لدين الله، كانت دائما، وسوف تظل، الحصن الحصين، لحماية الأمة، والدفاع عن الأمن القومي العربي، كانت انتفاضة الثلاثين من يونيو، حيث خرج عشران الملايين إلى الشوارع والميادين، مطالبين بإنهاء حكم الإخوان. وانحازت مؤسسة الجيش الوطنية للحراك الشعبي، كما هو ديدنها دائما، منذ ثورة عرابي، منهية حقبة قصيرة مظلمة في تاريخ مصر.
ثورة الثلاثين من يونيو عام 2013م، لم تكن سوى محطة أولى على طريق هزيمة المشروع الإخواني، الوجه الآخر لمشروع الشرق الأوسط الجديد، ولتتبعها محطات أخرى في هزيمة المشروع. وكان الحصاد الآخر، هو تتويج المعارضة الوطنية والقومية التونسية نضالاتها بدستور مدني، يلغي حالة الأخونة والاستتباع، ويعيد لتونس وجهها القومي والوطني.
في اليمن أنهت القوى السياسية، مرحلة صعبة، وجرى اتفاق، بعد حوار طويل بين القوى السياسية، تجاوز العام، على مشروع سياسي، وميثاق وطني للخروج من الأزمة الراهنة. وينتظر أن يسير اليمن الشقيق على السكة الصحيحة، بعد فشل أوهام التفتيت والتقسيم.
وفي سوريا اتضحت مخاطر الإرهاب على الأمن القومي العربي، واحتمالات انتشاره إلى البلدان العربية المجاورة، وتحولت ثورة الحرية والكرامة، التي أمل السوريون في أن تنقلهم إلى حال أفضل، إلى صراعات دموية بين جبهة النصرة وداعش، وبقية التنظيمات المتطرفة.
في قطاع غزة، تتراجع حماس عن مواقفها، بعد أن خسر الإخوان جل أوراقهم، وتعود إلى سدة المفاوضات مع السلطة الوطنية الفلسطينية. والأمل كبير، في أن يعود القطاع إلى الوحدة مع الضفة الغربية، ليعود للنضال الوطني الفلسطيني مجددا ألقه ووحدته.
وفي خضم كرنفالات الفرح، واندفاع الجمهور نحو صناديق الاقتراع، في انتخابات رئاسية بعدد من الأقطار العربية، بعد النجاح الباهر في الانتخابات الرئاسية بالجزائر، حيث أعيد انتخاب الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة، لدورة رئاسية رابعة، ينتفض الجيش الليبي، ضد التطرف واستبداد جماعة الإخوان، بقيادة العقيد خليفة حفتر، وتنحاز له قطاعات الجيش الليبي وقوى الأمن، وبعض من المؤسسات المدنية. والهدف كما جاء في البيان الصادر عن العقيد، هو القضاء على الفوضى والتطرف والعصابات الإرهابية، والإنفلات الأمني، وإنهاء هيمنة الإخوان، ومأسسة الدولة، وخلق ليبيا قوية، قادرة على المساهمة مع شقيقاتها العربيات في الدفع بمسيرة التضامن العربي. وتتزامن التحولات في ليبيا مع انتخابات رئاسة الجمهورية في مصر، والمتوقع أن يفوز فيها وزير الدفاع السابق، المشير عبد الفتاح السيسي، لتوسع العمق الاستراتيجي المصري والليبي معا، ولتعانق بلد المليون شهيد، ولتنتهي إلى الأبد حقبة مظلمة في التاريخ العربي.
ما نشهده في هذه الأيام هو نهاية محققة لخريف الغضب، وليس بعده سوى السلام والأمن وبلوغ موسم الربيع المعطر بالخزامى ورائحة الياسمين، وليكون ربيعنا العربي من صنعنا نحن، وأجندته ليست الشرق الأوسط الجديد، أو مخاض الولادة الجديدة، والفوضى الخلاقة، بل عودة الروح للأمة، حيث ترفع رايات النهضة عاليا، فيعود للتاريخ ألقه وحضوره.