نهاية امبراطورية
د. يوسف مكي
منذ بداية تأسس الامبراطوريات، ساد ما كان معروفا بحق الفتح، حيث تتوسع الممتلكات وتنكمش بناء على قوة الامبراطورية. والحرب هي العنصر الحاسم في تقرير من هو الأقوى. وفي ظل ذلك الواقع، لم تتجسد مفاهيم السيادة والاستقلال وحق تقرير المصير. وكانت الحصة الأكبر من تلك الحروب، من نصيب القارة الأوروبية، حيث يقدر بعض المؤرخين فترات اشتعالها بما يقرب من السبعمائة عام.
ضمن ما سجله التاريخ في اسفاره، من الحقب القديمة، اسم القائد العسكري الشاب، الاسكندر المقدوني، الذي عرف أيضا بالإسكندر الأكبر، وهو أحد ملوك مقدونيا الإغريق، وأشهر الغزاة في التاريخ الإنساني. تربع على عرش بلاده، وأسس إحدى أعظم الامبراطوريات التي عرفها العالم القديم. وقد امتدت امبراطوريته شرقا، حتى حدود بلاد فارس، ولم يمنعه عن اقتحامها سوى إصابته بمرض الطاعون، ورحيله المبكر، وهو لا يزال في ريعان شبابه.
يذكر أن أمنية السلطان العثماني، سليمان القانوني، الذي بلغت في عهده السلطنة ذروتها، في التوسع، أن يذكره التاريخ، بالطريقة التي كتب فيها عن الاسكندر، وقد نال إلى حد كبير، ما تمناه، حيث يعتبر عهده، ذروة ما بلغته السلطنة، فيما بات معروفا في التاريخ العثماني، بالقرن العظيم.
يجمع المؤرخون، على أن اتفاقيتي وستفاليا، عام 1648، انهت حربا استمرت ثلاثين عاما، في الامبراطورية الرومانية المقدسة، ورسمت حدود ألمانيا، لما قبل الحرب العالمية الاولى. وقد أرست تلك الاتفاقية، مبدأ سيادة الدول بالعصر الحديث.
في العقد الثاني من القرن الماضي، أعلن الرئيس الأمريكي، ويدرو ويلسون، مبادئه الأربعة عشر، المعروفة بالإعلان العالمي، لحقوق الإنسان، الذي اعتبر الاستعمار عملا مقيتا، وغير أخلاقي، وطالب بحق تقرير المصير للشعوب. ولكنه، من جهة أخرى، اقر مفاهيم جديدة للاستعمار التقليدي، عبر عنها بالوصاية والحماية والانتداب. كما رحب بوعد بلفور عام 1917، الذي وعد بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين. لكن الخروج الحقيقي للولايات المتحدة، إلى القارات القديمة، قد تم بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، في مسعى حثيث لإزاحة الاستعمار التقليدي، والحلول محله، في صيغة مغايرة، عرفت بالاستعمار الجديد، حيث الهيمنة في الأساس اقتصادية، وليست عسكرية.
لكن من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، الفصل بين الاقتصادي والعسكري، فكل مشروع اقتصادي بحاجة إلى فعل عسكري يحميه. وهكذا وجدت الإدارات الأمريكية المتعاقبة نفسها متورطة، في بناء قواعد عسكرية، ببلدان العالم الثالث، ومنهمكة في حروب، قادت إليها مناخات الحرب الباردة، بين العملاقين، الأمريكي والسوفييتي. ولعل الابرز بين تلك الحروب، الحرب الكورية، والحرب في الهند الصينية، والصراع العربي- الإسرائيلي.
واقع الحال، أن انهيار الامبراطوريات القديمة، ونجاح سياسة الإزاحة، التي اعتمدتها الولايات المتحدة، بحق حلفائها، تعيدنا إلى نظرية العلامة عبد الرحمن ابن خلدون، حيث تبدأ الأمم بتأسيس كياناتها بحالة مواجهة مستمرة وساخنة، وأن الكيانات الجديدة، تقوم على أنقاض كيانات سابقة. لقد تصرفت الولايات المتحدة، كإمبراطورية، لا تضاهى في قوتها، وأكدت ما هو مطلوب منها، تجاه حلفائها. وقد أشرنا لبعض ذلك في الحديث السابق: مشروع مارشال لإعادة إعمار ما خلفته الحرب العالمية الثانية، في أوروبا الغربية، ووضع الحلفاء تحت المظلة النووية.
هذا السلوك، كلف الخزينة الأمريكية، أموالا هائلة، ولكن ذلك لم يكن منه مناص، طالما أن أمريكا، تريد الاستمرار كقوة عظمى بأوروبا الغربية، في مواجهة غريمها الاتحاد السوفييتي.
الأزمة الاقتصادية الأمريكية الراهنة، بدأت منذ أكثر من ثلاثة عقود، تجسدها بوضوح، أعداد العاطلين عن العمل، والفاقدين للسكن، والذين يقدر تعدادهم بأكثر من عشرة ملايين من البشر. كما تجسدها الشيكات التي تدفعها الحكومة الفيدرالية، لموظفيها، والتي يتم صرفها، من غير تغطية لها، على أساس وعود مفتوحة بدفع قيمتها لاحقا للبنوك المحلية. ولا تزال الذاكرة، تحتفظ بأزمة الرهن العقاري، الشهيرة، التي تسببت في أزمة اقتصادية عالمية حادة.
الرئيس الحالي، دونالد ترامب، في اجراءاته الضريبية الداخلية، وأيضا في موقفه تجاه حلفاء بلاده بالقارة الأوروبية، يجسد واقعية سياسية. فهو يدرك بوضوح، أن بلاده لم تعد في وضع يسمح لها، بمواصلة دورها الامبراطوري، وأن الوقت قد حان لمواجهة الحقيقة. صحيح أن السلوك الأرعن، والتصريحات الصاخبة، التي يطلقها، مقززة لحلفائه، وأيضا لمواطنيه العاديين، الذين سيكونون في النهاية أولى ضحايا إجراءاته الضريبية القاسية.
يضاف إلى ذلك، ما سينتح عن اجراءاته الضريبة، تجاه دول العالم، وبشكل خاص بحق الصين الشعبية، التي تهيمن بجدارة وذكاء حاد على الأسواق العالمية. إن ذلك ستكون له نتائج سلبية مباشرة على المواطنين الامريكيين، الذين توفر لهم الصين بضائع وصناعات باهرة، رخيصة الأثمان.
خلاصة القول، إن الولايات المتحدة، تمر الآن بأزمة اقتصادية حادة، ولم تعد بعد الآن، القوة الاقتصادية العظمى، في العالم. والصين الشعبية، التي تغزو ببضائعها الأسواق العالمية، بشكل غير مسبوق في التاريخ، تدرك أن حماية اقتصادها يتطلب في المحصلة، بناء قوة عسكرية، قادرة على تأمين مصالحها في العالم، وستثبت قدرتها في التفوق العسكري، كما في التفوق الاقتصادي. وليشهد العالم بأسره، نهاية امبراطورية، وبروز أخرى، على أنقاضها، وذلك هو قانون الدورة التاريخية.