نفوذ إيران والخيارات الأمريكية في الخليج العربي
العلاقة بين أمريكا وإيران، كانت ولا تزال محكومة بما هو أبعد كثيراً من العلاقات التقليدية بين الدول. وكانت الجغرافيا هي الحجر الرئيس في صياغة تلك العلاقات، وليس مجرد المصالح الاقتصادية أو السياسية التبادلية المباشرة، المنطلقة من قوة الفعل الإنساني.
وحتى سقوط إيران الشاه، شهدت العلاقة بين البلدين، تحالفا استراتيجيا راسخا، يمكن ربطه بالسياقات التي عبر عنها النظام العالمي الجديد الذي انبثق بعد الحرب العالمية الثانية. وقد تعزز ذلك التحالف، بفعل عوامل أخرى، جعلت من إيران ضمن مناطق المصالح الحيويةsphere of influenceفي الحسابات الأمريكية. وبشكل خاص، كان ضمن هذه العوامل، اندلاع الحرب الباردة بين القطبين العظيمين، وموقع إيران بالقرب من أهم حقول النفط، وأكثرها غزارة إنتاج في العالم بأسره.
فإيران تشكل منطقة عازلة بين الاتحاد السوفييتي، والمياه الدافئة بالخليج العربي، حيث يوجد أهم احتياطي عالمي للنفط، وحيث تنتشر حقوله في العراق والجزيرة العربية، ودول الخليج. ولذلك غدا استقرار هذه المنطقة العازلة بين السوفييت، وهذه المنطقة، من صميم السياسة الأمريكية. وحين تعرضت إيران في مطلع الخمسينيات لاحتمالات سيطرة القوى القومية الإيرانية، بزعامة رئيس الوزراء الإيراني، الدكتور محمد مصدق، وأدركت الإدارة الأمريكية انفلات الأمور عن دائرة هيمنتها، لم تتردد عن القيام بانقلاب مضاد، عام 1953 بقيادة الجنرال، زاهدي وبدعم مباشر من وكالة المخابرات المركزيةCIAأعاد شاه إيران إلى الحكم، وقضى على الحكومة الوطنية، المنتخبة ديمقراطيا، والمعبرة عن إرادة شعب إيران.
وقد وقفت الإدارة الأمريكية موقفاً سلبياً، ولم تحرك ساكنا تجاه أطماع إيران الشاهنشاهية بالخليج، سواء فيما يتعلق بتهديد استقرار العراق، أو ادعاء أحقيتها التاريخية في مملكة البحرين، أو استيلائها على الجزر الإماراتية، أو تدخلاتها المستمرة لزعزعة أمن الخليج، رغم ارتباط هذه الأنظمة بتحالفات استراتيجية، ومعاهدات عسكرية مع الإدارة الأمريكية، ورغم وجود قواعد عسكرية، للأخيرة في معظم دول الخليج.
وحتى بعد انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية، واستلامها الحكم، ومجاهرتها بالعداء للشيطان الأكبر، وقيام الحرس الثوري بمهاجمة السفارة الأمريكية بطهران، وجعل موظفيها رهائن لفترة طويلة، لم تقدم إدارة الرئيس الأمريكي جيمي كارتر على تنفيذ أية خطوة جدية من شأنها إرباك النظام الثوري من الداخل، واكتفت بتنفيذ عملية إنزال جوي صغيرة لإنقاذ الرهائن، كان مصيرها الفشل.
وإذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية حريصة، فيما مضى، على استقرار الأوضاع في إيران، بما يؤمن وحدة أراضيها، وعدم تعرضها للتفتيت طيلة أكثر من ستة عقود، فإن استمرار استقرار تلك الأوضاع الآن، هو أكثر أهمية بالنسبة لصانع القرار الأمريكي، عما كان عليه من قبل. فقد أصبح الدور الإيراني، من وجهة النظر الأمريكية أكثر أهمية وحيوية، بالعقد الأخير، وبشكل خاص بعد حوادث 11 أيلول/ سبتمبر عام 2001.
فقد أثبت نظام الملالي فاعلية قصوى في إسناد مشاريع أمريكية، تم تبنيها وتنفيذها بعد ذلك التاريخ، خاصة فيما عرف باستراتيجية الحرب العالمية على الإرهاب. فهذا النظام هو الذي مهد الأرضية للأمريكيين، لاحتلال أفغانستان. وكان الجيش الأمريكي قد استند على قوى محلية أفغانية، متحالفة مع إيران لإنهاء حكم حركة طالبان، كانت تتمركز في مزار شريف، شرق أفغانستان. ولفترة طويلة، بعد الاحتلال الأمريكي لأفغانستان، لم يقم أي من قادة الدول المجاورة لهذا البلد بزيارة كابول سوى رئيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية آنذاك، محمد خاتمي.
وكان التنسيق قد بلغ حد الشراكة والتكامل، بين إدارة الرئيس الأمريكي، بوش وقيادة الجمهورية الإسلامية، فيما يتعلق باحتلال العراق عام 2003. فقد كان للميليشيات التابعة لحزب الدعوة والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية، وكلاهما يرتبطان بعلاقة عقدية مع المرجعية الدينية في قم، وقد اتخذا من إيران مركزا لانطلاق عملياتهما وأنشطتهما، الدور الأساس في إسناد مشروع الاحتلال، منذ لحظاته الأولى. كما كان لتلك القوى دور مباشر في تدمير بنية الدولة العراقية، وتعميم “الفوضى الخلاقة” وقيادة ما عرف بمجلس الحكم الانتقالي، الذي أسسه المندوب السامي الأمريكي بول برايمر، لتسيير العمل الإداري ومقابلة المهمات البيروقراطية. وحسب مذكرات برايمرMy Year in Iraq The Struggle to Build a Future of Hopeكان التنسيق كاملاً مع المرجع الشيعي الأعلى في النجف، والمرتبط بعلاقة وطيدة مع مرجعية إيران، أية الله علي السيستاني.
ومن جانب آخر، فإن العملية السياسية التي فرضها الاحتلال الأمريكي بالعراق، قامت على أساس القسمة الطائفية. وهذه القسمة، لم يكن لها أن تتحقق، لولا المساندة الجوهرية الإيرانية لتلك العملية، بسبب هيمنة العناصر العراقية الموالية لإيران في تلك العملية. وإذا ما قررت الإدارة الأمريكية لأي سبب كان، المواجهة العسكرية مع الجمهورية الإسلامية، فإن معنى ذلك انهيار العملية السياسية في العراق برمتها. فالجيش والشرطة والحكومة والقضاء والأجهزة البيروقراطية الأخرى المستحدثة، هذا عدا الميليشيات الرئيسية الثلاثة، التابعة لحزب الدعوة والمجلس الأعلى والتيار الصدري، هي تحت سيطرة تلك القوى، وتدار من قبلها.
في هذا المضمار، يجد المرء صعوبة بالغة، أن تتخلى أي إدارة أمريكية عن العراق، وتتركه لقمة سائغة لإيران. كما هو صعب أيضا العبث الأمريكي بالداخل الإيراني، واستثمار لوحة تشكيله الفسيفسائية لتسعير النزعات الدينية والقومية والانفصالية، في وقت تتراجع به القبضة الأحادية القطبية، لمصلحة تعدد الأقطاب، بعد التقدم الصيني الاقتصادي الكاسح، والعودة القوية لروسيا الاتحادية، بنزعاتها العسكرية، إلى المسرح الدولي، ووقوع الاقتصاد الأمريكي في أزمة اقتصادية صعبة. لأن معنى ذلك ترك فراغ خطير، في منطقة هي من أكثر المناطق أهمية وحيوية في الحسابات الاستراتيجية الأمريكية.
إلى جانب ذلك، فإن أي موقف أمريكي، تجاه إيران سواء في ما يتعلق بالأطماع الإيرانية بالخليج العربي، أو تجاه ملفها النووي، أو موقفها الإعلامي المعادي للكيان الصهيوني، ينبغي عليه أن يأخذ في حسبانه، الدور الذي يمكن أن يلعبه حزب الله اللبناني، المرتبط بعلاقة عقدية مع المرجعية الدينية الإيرانية، والملتزم بولاية الفقيه. فالحزب في واقعه ذراع عسكرية قوية لإيران، وقد مارس فعليا المقاومة المسلحة، ضد “إسرائيل”. وأثبت قدرته وفعاليته في حرب يوليو/ تموز عام 2006. وتشير تقارير عديدة إلى أنه عوض عن خسائره من السلاح الذي فقده في تلك الحرب، كما تلقى أسلحة بتقنيات عالية من إيران. وكما كان قادراً من قبل على إلحاق الأذى بالمدن الواقعة في شمال فلسطين، بما في ذلك حيفا والناصرة وتل أبيب، فضلاً عن المستوطنات “الإسرائيلية” القريبة من الحدود اللبنانية، فإنه سيكون أكثر قدرة على تحقيق ذلك في حالة نشوب حرب بين “إسرائيل” وإيران.
جملة هذه الأوراق ربما كانت السبب في تردد إدارة الرئيس الأمريكي السابق، بوش، في القيام بأية مواجهة حقيقية ضد إيران، رغم ما عرف عن إدارته من قسوة مفرطة وتشدد، طبعت دورتين رئاسيتين. لكنها في صراعها المعلن مع إيران اكتفت بتكرار الخطابات والتصريحات النارية، بديلاً عن الفعل.
ولعل وعي القيادة الإيرانية للأوراق التي بحوزتها، هي التي جعلتها تتشدد في مواقفها، وتوسع من دائرة حركتها في العراق المحتل، وتدفع بها لتبني سياسات عدائية، إن كان فيما يتعلق باستمرار الاستيلاء على الجزر الإماراتية، أو تهديد مملكة البحرين، ومحاولة نشر الفوضى إلى عموم الجزيرة العربية، وعدم الخضوع للضغوط الأمريكية والأوروبية، ومواصلة أنشطتها بعناد وتحد، فيما يخص الملف النووي الإيراني.
في هذا السياق، لا بد من التسليم بأن هناك قضايا رئيسية ملحة، مطلوب من القادة العرب مجتمعين معالجتها بتصميم وقوة، كونها ذات علاقة مباشرة بأمن المنطقة واستقرارها. ومن بين هذه القضايا ما هو عدوان متحقق فعليا من قبل إيران وأمريكا و”إسرائيل”، كما هو الحال في احتلال العراق، وفلسطين، وجزر الإمارات العربية، ومنها ما هو تهديد ماثل للخليج، كما هو الحال في التهديدات الإيرانية الأخيرة بإغلاق مضيق هرمز، أو الادعاء بتبعية مملكة البحرين لإيران. وهذه القضايا ستظل سيفاً مسلطاً على المنطقة بأسرها، ما لم يتم حسمها. وهي جميعاً، تخص العرب وحدهم من دون غيرهم، وهم المعنيون مباشرة بالتعامل معها.
yousifsite2020@gmail.com