نزيف الدم يتواصل بقوة في العراق
لأكثر من ثلاثة عقود، إثر الحرب العراقية الإيرانية وأرض السواد تنزف بحورا من الدم. والذين حكمهم الزيف وصدقوا فرية الديمقراطية والحرية والعراق الجديد، وساندوا احتلال بلادهم، اكتشفوا متأخرا أن هذه الأهداف ليست سوى أوهاما،
وأن مشروع الدمقرطة، لم يكن غير تفتيت للعراق، ولمكونات نسيجه الاجتماعي، وتقسيمه إلى كانتونات مجهرية، على أساس القسمة بين الأقليات والطوائف.
أكثر من عشر سنوات على الاحتلال، ولم يتوقف شلال الدم، ولا تبدو في المدى المنظور نهاية، لمنابر الموت. والأنكى من كل ذلك، أن العراقيين، يكادون هم الشعب الوحيد بين أمم الأرض، الذي يشيع قتلاه، بشكل يومي، من غير أن يعرف أسباب تفجير السيارات المفخخة، والألغام والقذائف التي تتساقط عليه.
فالتفجيرات المتتالية، التي تطال الأسواق وأماكن التجمعات ودور العبادة، لا تميز بين أتباع دين وآخر، ولا بين مكون مذهبي، ومكون آخر. وهي لا تحدث على أساس المناطق، ولا تستهدف أقلية أو طائفة بعينها، بل هي وباء يطال الجميع، وليست لها هوية، فهي تطال السني والشيعي والمسيحي والصابئي والكردي والتركماني والآشوري والكلداني على السواء، وليس فيها غالب أو مغلوب. وإذا كان لا بد من توصيف وتحديد هوية لها، فإنها جرائم إرهابية، موجهة ضد الجميع، وتطال العراقيين، من غير تمييز.
وإذا كان مفهوما، وإن يكن غير مقبول، أن تسود الفوضى كل أرجاء العراق، وأن تبرز بقوة حالات الانتقام والكيد من التاريخ، فتنهب المتاحف، وتحرق المكتبات ويجري الاعتداء على الجامعات ومراكز البحوث العلمية، ويحدث عمل منهجي ومدبر لتفكيك الدولة الوطنية العراقية، لحساب الميليشيات التي أتت مع الاحتلال، وعلى ظهور دباباته.
إذا كان مفهوما أيضا، أن يتصدى العراقيون، بأكفانهم للاحتلال، وللقوى الإقليمية التي ردفته، معبرين عن رفضهم للهيمنة، ومؤكدين تمسكهم بعروبة العراق، كيانا وهوية، فإن من غير المفهوم، وغير المقبول أن يتواصل مسلسل القتل والتدمير وحرب الإبادة، بعد أكثر من عشر سنوات على احتلال العراق.
إن أي عمل جدي لإيقاف بحر الدم، الذي يأخذ في هيجانه العشرات من المدنيين العراقيين كل يوم، ينبغي أن ينطلق من الكشف عن الأسباب، والعمل على تفكيكها وحلها، بما يؤمن عودة الأمن والاستقرار والسلام لكل العراقيين، من غير تمييز. لكن المعضلة أن لا أحد يدرك بالدقة، دوافع ما يجري، وإلى أين يتجه، إلا أن يكون استمرارا لفوضى خلاقة، تأكد أنه لن يخرج من رحمها سوى المزيد من شلالات الدم والفوضى.
في الشهر الذي مضى فقط، قدم العراقيون 800 شهيد، دونما ذنب اقترفوه، سوى انتمائهم لأرض السواد. وإذا ما عدنا إلى هويات القتلى ومناطقهم وانتمائهم، فسنجد أنهم يمثلون بشكل واقعي صورة العراق المكلوم، وخارطته وجميع مكونات نسيجه الاجتماعي. ولسوف يتواصل مسلسل القتل، ما لم يتمكن العقلاء من وضع حد ونهاية له.
ولكي تتضح لنا بشكل جلي حالة العجز، سنجد بعضا من فرضيات تفجر الصراع بقوة في الأشهر الأخيرة. قيل أن المفجرين في بغداد هم أتباع الحركة الكردية، بكل تفرعاتها. وأن أسبابها تكمن في رغبة الأكراد بإضعاف المركز في العاصمة، بحيث يتمكنون في النهاية من إعلان دولة مستقلة في شمال العراق، في ظل وضع وعجز من المركز، عن الاضطلاع بحماية وحدة الأراضي العراقية.
وقيل أيضا، إن أتباع الحكومة المركزية، التي يراسها نوري المالكي، يفجرون في الموصل وكركوك والسليمانية وشقلاوة، وذلك بهدف الرد على التفجيرات التي يشنها الأكراد في المركز. والهدف هو خلق ظروف تجعل الأكراد في وضع صعب، لا يمكنهم فيه الإعلان عن استقلال كيانهم في شمال العراق.
وقبل إن ما يجري من تفجيرات، وبشكل خاص في مناطق الصحوات، هو عمليات انتقام ينفذها تنظيم القاعدة، بسبب تخلي من نظموا الصحوات عن التحالف مع القاعدة، بل ووقوفهم مع المحتل الأمريكي والحكومة المعينة في بغداد، ضد “الجهاد”، الذي تقوده عدة قوى، تنتمي في غالبيتها لمنظمات إسلامية متطرفة. وفي المقابل، تتصدى الصحوات، في عمليات رد انتقامية لأماكن تواجد التكفيريين، وفي مقدمتهم ما يعرف بدولة العراق الإسلامية، المسمى الآخر لتنظيم القاعدة.
وأخيرا وليس أخرا، قيل إن التفجيرات الأخيرة، هي مواجهات بالوكالة وتصفية حسابات بين قوى إقليمية وعربية، على أرض العراق، حيث يدعي فريق مناصرته للشيعة، بينما يدعي الفريق الآخر، مناصرته للسنة. والخاسر الوحيد، من كل هذه التفجيرات هم العراقيون.
لا مخرج من الأزمة، وإيقاف شلال الدم، إلا بمعالجة المأزق الذي وصلت له العملية السياسية التي هندسها السفير الأمريكي، بول برايمرز، والكامن في جوهر العملية ذاتها. تحقيق المصالحة الوطنية، يقتضي بالدرجة الأولى، إلغاء لكل إفرازات الاحتلال، بما في ذلك العملية السياسية، والدستور الملحق بها، والهياكل الجديدة التي تشكلت بعد الاحتلال، والمستندة على إضعاف دور المركز، وتغليب دور الإدارات غير المركزية، تحت مفهوم مشوه، عرف بالفيدرالية.
ولا شك أن تحقيق ذلك، يقتضي وقت التدخلات الإقليمية في شؤون العراق، سواء كانت من طهران أو أنقرة، وترك العراق لأهله ليقرروا ما يشاؤون في طريقة إدارة شؤون مستقبلهم. وعلى الأشقاء العرب، أن يناصروا هذه الخيارات، وهي خيارات في كل الأحوال، ستعيد للعراق حضوره وانتماءه العربي وهويته القومية. وستسهم دون شك في تعضيد الأمن القومي العربي الجماعي، لخدمة الأمة وتعزيز استقلالها وفرض إرادتها، والنهوض بمشروعها في التنموي في مختلف المجالات.
فعسى أن نسهم جميعا، في وقف شلالات الدم، واستعادة العراق الشقيق لعافيته قبل فوات الأوان.