نحو وقف نزيف الدم الفلسطيني
لا شك أن إحدى السمات الرئيسية للسياسة الدولية في هذه المرحلة هي أنها تعيش حالة فوضى وانفلات، سببها تفرد الولايات المتحدة الأمريكية على عرش الهيمنة، وغياب الثنائية القطبية. وقد استثمرت الإدارة الأمريكية حوادث 11 سبتمبر عام 2001 لتقود، تحت شعار الحرب على الإرهاب، نظام إرهاب دولي، يمارس الحصار والتهديد، وحتى استخدام القوة والاحتلال، بحق كل من يرفع عقيرته معارضا لسياساتها الظالمة.
وكانت حصة الأسد، في الإرهاب الأمريكي، هي من نصيب الأمة العربية، مصعدة بذلك من تحالفها الاستراتيجي، مع الكيان الصهيوني، ليصل حد التطابق التام مع النهج العدواني الصهيوني بحق الشعب الفلسطيني والأمة العربية. وكانت النتيجة هدراً لحقوق الشعب الفلسطيني، ووقوفاً ضد تحرير الأرض وتطبيق قرارات الشرعية الدولية والقرارات الصادرة عن مجلس الأمن الدولي، واستخداماً مفرطاً لحق النقض (الفيتو) عندما يتعلق الأمر بإقرار حقوقنا واستنكار العدوان على أمتنا.
وكانت ردة فعلنا، للأسف، غير متجانسة أو مقتربة مع رد الفعل الطبيعي والمطلوب عندما تتعرض أمة ما للعدوان، وتهدر الحقوق. وهنا لا بد من الاعتراف أن مشروعنا العربي الوطني، قد تاه مع ضجيج التهديد والوعيد، وكاد الشعب الفلسطيني، من خلال احتكامه لطاولات المفاوضات، والدخول في نفق المساومات أن يتيه بوصلته. وتحول نضاله من أجل قيام دولته المستقلة إلى صراع على مكتسبات واستحقاقات ومناصب ومراكز لم تنجز بعد، وعلى سلطة فلسطينية لم تتحقق فعليا على الأرض. وفي حمى الصراع انتهى دور توجيه البندقية إلى صدر العدو، وأصبح دورها حسم صراعاتنا مع بعضنا البعض.
ولا جدل في أنه ينبغي على الجميع، عربا وفلسطينيين، حكاما ومحكومين أن يحققوا وقفة صادقة مع النفس، وأن يتمسكوا بالثوابت ويحتكموا إلى العقل، من أجل مواجهة النظام الدولي غير العادل بحق قضايانا، وللخروج من النفق المظلم الذي وجدت عناصر الفعل الفلسطينية أنفسها غارقة فيه. ومن البديهي أن يكون الهدف هو إعادة اللحمة للنضال الفلسطيني، ليواجه الفلسطينيون جميعا مشاريع التفتيت ومصادرة الحقوق. ومن الأولويات التي ينبغي التركيز عليها في هذا الصدد، تجنب الاستئثار بالسلطة، والقضاء على الفساد، وعدم الاحتكام إلى السلاح في مواجهة بعضنا، وأن يجري التركيز على القضايا الرئيسية، بدلا من استهلاك قوانا في تفاصيل الحصص والمكتسبات الذاتية والأنانية.
ولعلي أشير إلى نقطة جوهرية ومهمة في هذا الاتجاه، هذه النقطة تتعلق بشكل مباشر بقضية الديموقراطية. لقد سعت الولايات المتحدة، تحت شعار إصلاح البيت الفلسطيني، وإيجاد طرف مقبول من أجل التعامل معه في مفاوضات السلام إلى رفع شعار الديموقراطية، رغم أن الشعب الفلسطيني، لم ينجز بعد استقلاله الوطني، ولم يتمكن بعد من التحكم في مصائره وأقداره. وقبل الفلسطينيون بالمطلب الأمريكي. وخاضوا انتخابات شهد العالم بنزاهتها. لكن النتائج جاءت، على ما يبدو، خلافا للتوقعات الأمريكية، وفازت حركة المقاومة الفلسطينية الإسلامية (حماس). وكانت ردة الفعل الأمريكية والإسرائيلية هي التنكر لنتائج الانتخابات، وفرض حصار ظالم على الشعب الفلسطيني.
وكان المؤسف هو تماهي عدد من الحكومات العربية، مع ردة الفعل الصهيونية والأمريكية، وانصياعهم لأوامر الحصار. وكان مؤسفاً أيضا عدم احترام البعض على الساحة الفلسطينية، ممن تحمسوا للانتخابات، لنتائج الانتخابات الفلسطينية، وفقدان الرغبة في الشراكة السياسية. وهذا يعني أن الإدارة الأمريكية والكيان الصهيوني، والمتحمسين معهما لشعارات الديموقراطية قد طعنوا الشعارات التي رفعوها، وتنكروا لها. إن الديموقراطية المعلبة المطلوبة، كما يبدو، هي تلك التي يصل عن طريقها أناس موالون للخط الأمريكي، والذين يعتبرون متمدنين وغير إرهابيين من وجهة النظر الصهيونية. والنتيجة أن الديموقراطية مطلوبة حين تأتي بأنصار السياستين الأمريكية والإسرائيلية، ومرفوضة حين تكون نتائج صناديق الاقتراع غير متجانسة مع تلك السياسات.
والمؤكد أن غياب القيادة، والمرجعية الفلسطينية من الأسباب التي أدت إلى شيوع حالة الفوضى، وذلك يستدعي إعادة الحياة لمنظمة التحرير الفلسطينية، وتجديد هياكلها، وضخ دماء جديدة لها بما يتناسب مع تغير توازنات القوة، والتحولات الرئيسية التي حدثت في خارطة النضال الفلسطيني. وينبغي التركيز على أن فلسطين ليست قطاع غزة والضفة الغربية فقط، لكنها كل فلسطين، وأن منظمة التحرير الفلسطينية، كما نص على ذلك ميثاقها الوطني ليست ممثلة للفلسطينيين في الضفة والقطاع فحسب، ولكنها الممثل الشرعي والوحيد للفلسطينيين حيثما كانوا وأينما تواجدوا: في الأراضي المحتلة وفي الشتات أيضا. وأن من صلب مهمتها تمثيل الفلسطينيين جميعا وصيانة حقوقهم، وليس الانشغال فقط بقضايا اللحظة في القطاع والضفة.
وعند صياغة الهياكل الجديد للمنظمة، ينبغي أن يكون حاضرا في الذهن، أن الضغوط الدولية، بقيادة الإدارة الأمريكية سوف تمارس بعنف على الفلسطينيين، حتى تكون المنظمة، بشكلها الجديد، مستوفية للشروط الأمريكية. ومن هنا يقتضي التنبيه إلى أهمية رفض التدخل الأجنبي، الأمريكي والصهيوني في خيارات الشعب الفلسطيني، ورفض رهن القرار الفلسطيني لأي قوة أخرى، وعدم الخضوع للابتزاز والتهديد.
ومع الإقرار بأهمية الدور العربي الرسمي، في تشجيع كل الأطراف الفلسطينية، على المضي قدما في مسيرتهم نحو تحرير الأرض واستكمال تحقيق البرنامج الوطني الفلسطيني، فإن الدور العربي ينبغي أن يكون فاعلا، وباتجاه تصليب الموقف الوطني نحو عدم التفريط بالحقوق، وهدر المكتسبات التي حققها الفلسطينيون عبر نضالهم الطويل. إن بعض العرب، يمارسون للأسف دورا سلبيا، في حماية الحقوق القومية، ويكتفون بدور الوسيط بين الكيان الصهيوني والفلسطينيين، وأحيانا يوحي سلوكهم بانحياز تام للطرف الإسرائيلي. إن الانحياز العربي ينبغي أن يكون دائما لخط المقاومة ولمصالح الشعب الفلسطيني.
لقد عمل الصهاينة، بعد انتفاضة الأقصى على إقحام العناصر الفاعلة في النضال الفلسطيني بمعارك جانبية، وتمكنوا إلى حد كبير، من تحقيق ذلك. وقد حان الوقت لإجراء تغيير جذري في معادلات الصراع والعمل بشكل جدي على إنجاز مشروع التحرير، بدلا من استنفاد الطاقات في صراعات داخلية. إن الهدف الرئيسي ينبغي أن يكون دائما وأبدا هو تحرير الأرض والدفاع عن الهوية والإفراج عن آلاف المعتقلين في السجون الإسرائيلية. والفلسطينيون كما يبدو ليس لهم إلا واحد من خيارين: إما التمسك بالبرنامج الوطني للمقاومة أو الوقوع فريسة أمام المشروع الأمريكي الصهيوني. والحديث عن رفع حصار الفلسطينيين، عن طريق المفاوضات، هو بالتأكيد مرهون بالموافقة على شروط المجتمع الدولي، الذي تمثله الإدارة الأمريكية، ولن يكون، رفع الحصار ممكنا ضمن هذا المنطق، إلا بدفع ثمن سياسي، وتقديم المزيد من التنازلات مقابل ذلك.
ومن هنا فإن السبيل الوحيد، لتجاوز الضغوط الأمريكية والصهيونية، هو أن يعطى الشعب الفلسطيني الأولوية لترتيب بيته، وتصليب موقفه، ورفض أي تدخلات خارجية، تستهدف النيل من حقوقه ووحدته. وأن يتوصل الفلسطينيون إلى ميثاق شرف فلسطيني يتعهدون بموجبه، بعدم توجيه البندقية إلى صدور بعضهم البعض، وأن يتحقق وفاق فلسطيني، برعاية عربية، لا تراهن على الإدارة الأمريكية للتوصل إلى حلول تضمن استعادة الحقوق. ولعل التراجع عن قرار الرئيس الفلسطيني بإجراء انتخابات مبكرة، يأتي في مقدمة الخطوات المطلوبة من أجل الحفاظ على الوحدة الوطنية، لأن الإصرار على ذلك من شأنه تصعيد الصراع الفلسطيني، بدلا من تغليب لغة الحوار، والتوجه جديا للخروج من الأزمة. لا بد أيضا من إلغاء فوضى السلاح، والمظاهر المسلحة، والتمسك بعروبة القدس، وعدم التفريط في حق العودة للاجئين الفلسطينيين.
تلك في اعتقادنا خطوات هامة وملحة إذا ما أردنا وقف نزيف الدم الفلسطيني، وإعادة قاطرة نضاله، إلى مكانها الصحيح، وصولا إلى تحقيق صبوات الفلسطينيين في العودة والتحرير وحق تقرير المصير، وإقامة الدولة المستقلة فوق التراب الوطني الفلسطيني.
yousifsite2020@gmail.com