نحو مواجهة ثقافة الإرهاب

0 220

في الأسابيع الأخيرة شهدت بلادنا حوادث عنف متفرقة، تركزت في العاصمة الرياض، وشملت محاولة اعتداء على مبنى وزارة الداخلية، كان آخرها ما حدث يوم الأحد من هذا الأسبوع في الرياض والقصيم. ولا شك أن حوادث العنف هذه، أيا تكن نتائجها، هي مبعث خوف وقلق من الجميع على استقرار وسلامة الوطن، وأمن المواطن. وهي أيضا تستدعي مواجهات وتضحيات، تودي في الغالب إلى زهق مزيد من الأرواح العزيزة، عدا الجرحى والخسائر الأخرى المادية والمعنوية.

 

ويقينا أن كل مواطن غيور على مصلحة بلاده ومستقبلها سينظر بعين العطف والتقدير للجهود التي تبذل من قبل القيادة السياسية للقضاء على ظاهرة العنف، وبخاصة الدور الكبير والهام الذي يضطلع به رجال الأمن، في مختلف المناطق والساحات، من أجل توفير الإستقرار وحماية الأعراض والمال، وكسر حاجز الخوف لدى الناس. لكننا، وكما أشرنا في أحاديث سابقة، أن المواجهة مع الإرهاب ينبغي أن لا تقتصر على خندق واحد، وتدع الخنادق الأخرى مكشوفة دون حراسة، وقابلة للإختراق. بمعنى آخر، فإنه مع تسليمنا بأن الحل الأمنى هو أمر لا مفر منه، لكن الإكتفاء به ربما يضعف من قدرة عناصر التخريب على العمل، ويشلها لفترة ما، ولكنه لا يسبر غور المشكلة، ولا يتصدى جذريا لمعالجتها.

 

ينبغي أن يكون هناك مشروع استراتيجي وطني شامل لمواجهة الإرهاب، يتخطى التشرنق في أوساط النخب المثقفة، ليصبح مشروعا وطنيا، يزج بطاقات الشعب كله في المواجهة الوطنية الكبرى للإرهاب.

 

ولعل من أهم خطوات المعالجة الجذرية لقضية الأمن في وطننا، والتي ينبغي البدء بها، تفكيك ظاهر الإرهاب، ومعرفة القواعد الفكرية التي يستند عليها، والعناصر المجتمعية التي يزج بها في هذه المحرقة، والظروف الإجتماعية والإقتصادية التي أدت لتحقيق الإختراق، واستفحال الظاهرة،. ومواجهة ذلك بمشروع وطني، يأخذ في الإعتبار مجمل المعطيات التي يؤدي لها التحليل الموضوعي، الرصين والشجاع.

 

لقد أشرنا في مواضيع سابقة، على صفحات التجديد، إلى أن مواجهة الإرهاب تقتضي ضرب مرتكزاته الفكرية والثقافية. وضمن تلك المرتكزات، ضروب النشاط الإجتماعي السلبي والمؤذي الذي نمارسه في مختلف الميادين. وقلنا إن المرتكزات الفكرية والثقافية لأي مجتمع هي الحاضن الشامل لكل ما يصنعه ويبدعه ذلك المجتمع من الأفكار والأشياء وطرائق العمل. ومع أن أفكار الأمم تتكون وتتراكم عبر حقب تاريخية طويلة، يظل بعضها ظاهر على السطح، ويبقى الآخر كامن تحته منتظرا فرصته التاريخية للإنفجار عند بروز ظروف موضوعية جديدة متعدية، ربما تكون من صنع المجتمع ذاته أو ناتجة عن تدخل عوامل خارجية ومحيطة يصعب التحكم فيها وتوجيه حركتها.

 

ولا شك أن منطقتنا العربية حافلة من جهة، بعوامل الإحتقان واليأس، فهناك ارتباط وجداني عميق وعلاقة لا تنفصل مع الجوار العربي، في فلسطين والعراق. وليس من جدل في أن كثيرا من الظلم والجور الذي لحق بالقضايا العربية، والتحيز الفاضح وغير العادل من قبل الإدارات الأمريكية المختلفة لصالح إسرائيل، والعدوان على العراق الذي انتهى باحتلاله، وحملات التهديد المستمرة بحق عدد من البلدان العربية، قد ألقت جميعا بظلالها ثقيلة على أوضاعنا. ومن جهة أخرى فإن القواعد الفكرية للإرهاب، كانت كامنة في أعماقنا وموجودة في سلوكنا ومناهج تفكيرنا، وإن بقيت في السابق عاجزة وغير قادرة على التعبير عن نفسها في ممارسات عنفية، كتلك التي نشهدها الآن.

 

إن الإرهاب هو عمل تآمري، صفته السرية، وينطلق من التسليم بسيادة التوجيه من الأعلى إلى الأسفل. والأوامر أو التوجيهات التي تصل من القمة إلى القاعدة غير خاضعة للسؤال أو للمناقشة والحوار. وما يجعل الإلتزام بها سهلا هي وجودها في مجتمع منغلق، يجرم فكرة التنوع وتنتفي فيه مفاهيم التعددية واحترام الرأي الآخر، مع رفض قاطع لمشروعية حق الإختلاف في ظل الوحدة. إنه يتطلب تماهيا وخضوعا كاملا، وتغييبا للعقل، وتقديسا للأصنام، وجمودا في تفسير النصوص، واتهام لمن يؤمن بالحوار بالجهل والهرطقة إن لم يكن بالخيانة. وهكذا تهمش ثقافة الإرهاب الرأي الآخر وتحاول إقصاؤه. وإذا ما أتيحت الفرصة، في مجتمع تسود فيه هذه الثقافة لنوع من الحوار، وهي نادرة في الغالب، فإنه سرعان ما يتحول إلى حرب أيديولوجية بين “المتحاورين” يحشد كل طرف فيها أسلحته البائسة، مازجا بين الحقائق والأوهام، فتتبارى الشعارات والمواقف، ويعلو الصخب والضجيج، دون فكرة أو طريحة، ويتشدد المتحاورون في طرح أفكارهم بغية الوصول إلى “ليلي”، وليلى ترفض أن تسمع أو تصغي لنداءاتهم الجوفاء، تلك النداءات التي ليس بوسعها الوصول إلى القلب ولا ملامسة الروح أو مخاطبة العقل.

 

ذلك أن أولئك الذين يجدون أنفسهم في وضع يكونون مضطرين فيه تكتيكيا للتسليم بلغة الحوار، فإنهم يتناسون أن الحوار يتم أساسا بين قوى وأطراف وتيارات مختلفة في توجهاتها وانتماءاتها، وأن دلالته المعرفية هي إمكانية الإستفادة المتبادلة من خبرات وآراء المتحاورين. وأنه يعني منهجيا، استحالة استحواذ فرد أو فئة سياسية أو اجتماعية أو ثقافية على مجمل القول، دون إتاحة الفرصة للإسهامات الفكرية الأخرى. إن الحوار في أساسه تسليم بنسبية الحقائق وإمكانية تغيرها، بما يسهم في إثراء المعرفة بحاجات المجتمع وطرق نموه وتطوره… إنه بمعنى آخر، عمل يهدف إلى تكامل الخبرات، ويؤهل لمزيد من التبلور والنضج والإنفتاح على تفهم المستجدات.

 

هكذا نصل من هذه المقدمة، إلى أن ثقافة الحوار نقيضة للإرهاب، إنها تقف بحسم وشجاعة في مواجهة القواعد الفكرية للإرهابيين، وتهدف إلى التحرر والإنعتاق والتعبير الإيجابي عن مختلف الرؤى والأفكار والمنطلقات في المجتمع، وصولا إلى صهر جميع الأفكار الجميلة، وتفاعلها في بوتقة واحدة، واستخدامها كدليل ومرشد في مشروع النهضة والبناء. في حين يضيق فكر الإرهاب بتعدد الآراء، ويغيب برنامج العمل والإصلاح، وتسود الخزعبلات والدجل والخرافة، وتفتقد النظرة الموضوعية والمواقف الرصينة من الأشياء، والآراء لا تحتمل الإختلاف، ويجري تكفير المجتمع وتقسيمه بشكل حاد إلى مؤمن وكافر. حيث لا تحتمل الحياة تعدد الألوان.

 

إننا إذن أزاء مشروعين، يمكن اختزالهما إما بتغليب السيف على القلم، وسد أبواب الإجتهاد وحرية الفكر، أو أن نغلب القلم على السيف وفتح النوافذ والأبواب للهواء النقي. وليس من شك أن المواجهة الوطنية للإرهاب ينبغي أن تكون حاسمة في هذه اللحظة العصيبة، والمنعطف التاريخي لمجتمعنا. ينبغي أن يتراجع السيف لصالح القلم، فذلك وحده الذي يهزم فكر الإنغلاق والتحجر، ويفتح أفاقا للعطاء والإبداع، ويجعل من بلادنا واحة جميلة.

 

لا بد من الولوج إلى عصر تنوير جديد، تشارك فيه القوى الواعية والمبدعة والخلاقة في مجتمعنا، كل من موقعه. فيمارس الأديب والكاتب والمسرحي والفنان التشكيلي، والأستاذ في جامعته ومدرسته، والعامل في مصنعه، والفلاح في حقله، كل من موقعه، في عملية التنوير والكشف عن مواطن الضعف الكامنة في ثقافتنا.

 

وهكذا فإننا حين نتحدث عن مجتمع مدني، وعن مؤسسات لهذا المجتمع، فإن المنطلق لتلك الدعوات، ليس ترفا فكريا، ولا نزوعا اعتباطيا لممارسة السجال، ولكنه وعي لضرورة مستلزمات المواجهة. إن وجود حاضنات فكرية وثقافية ومهنية تضم فئات هذا المجتمع هي ضرورة قصوى، لا تقل أهمية عن المتاريس التي ينصبها رجال الأمن لمواجهة الإرهاب. فكما يستند الإرهابيون إلى قاعدة فكرية وعناصر موضوعية، تقف بإصرار ضد المستقبل، لا بد أن تتكئ عناصر المقاومة للإرهاب أيضا إلى قواعد فكرية، تستند إلى التنوع وخصب العطاء، وإلى حاضنات حقيقية تعبر عنها، متجهة بخطى راسخة وواعية نحو المستقبل، والإلتحام بالعصر، بدلا من المصادمة والصراع معه.

 

من هنا فإن هذه اللحظة ربما تكون هي الوقت المناسب، لكي يأخذ شكل المواجهة مع الإرهاب طابعا حضاريا، فيتداعى الكتاب والفنانون والأدباء والشعراء والخطباء، كل من موقعه، لنصرة البلاد، يكتبون أنشودة وأغنية جديدة في الوطن الغالي، ويتحلقون جميعا من أجل نصرته وحمايته. وستكون تلك إضافة جميلة ورائعة تضاف إلى جملة الخطوات التي بدأت تأخذ مكانها على الأرض في بلادنا العزيزة، وبضمنها تأسيس مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني، والإنتخابات البلدية، والجمعيات العمالية، وآخرها إجازة إجراء انتخابات طلابية في الجامعات.

 

لا شك أن الوقت مبكر جدا لكي نصل إلى موسم الحصاد، لكننا وقد بدأنا رحلة الألف ميل، فإن هذه الخطوات إذا ما اتسمت بالتراكم، فإنها سوف تحفر مجراها بالنهر، مبدلة ثقافة بثقافة، ونهج بنهج، ولتحل ثقافة التسامح والحوار بدلا عن ثقافة التكفير والضيق بالرأي الآخر. فلندع القافلة تسير، وليكن هناك مكان لصراع الأزهار وتفاعلها، فذلك هو وحده السبيل، كما يقول المثل الصيني، كي تتفتح زهرة.

 

yousifsite2020@gmail.com

 

 

 

 

د. يوسف مكي

تاريخ الماده:- 2005-01-12

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

عشرين − 16 =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي