نحو قراءة جديدة للمستقبل العربي
في التاسع من هذا الشهر، وعلى مدى يومين متواصلين عقد مركز دراسات الوحدة العربية، في بيروت اجتماعا تشاوريا مع نخبة من المفكرين العرب، لمناقشة برنامجه الفكري، للفترة الممتدة من عام 2015 إلى 2019، وتقييم ما أنجزه المركز خلال الخمسة وثلاثين عاما من عمره. كما ركز البرنامج على البرنامج الفكري، للمرحلة السابقة، وما لم يتم إنجازه منه. وكان لي شرف المشاركة في هذه المناقشات العميقة والبناة.
وطبيعي أن تكون متابعة قضيتي العروبة والوحدة العربية، من المحاور الرئيسية في البرنامج الفكري المعد للمرحلة المقبلة. فالمركز اختار منذ البداية الوحدة العربية، هوية وعنوانا له. وطبيعي أيضا، أن يشكل ما تواجهه الأمة في حقبتها الراهنة من انهيارات كبرى، أودت بعدد من الكيانات الوطنية العربية، هما حقيقيا بالنسبة للمشاركين في هذا الاجتماع.
في الرسالة التي وجهها المفكر الأستاذ غسان سلامة للاجتماع التشاوري بالمركز، أشار إلى أن مركز دراسات الوحدة قدم أعمالا كثيرة، لإبقاء جذوة الفكرة العربية حية في الأذهان، في ظل تطورات ومسارات أثرت في أغلبها على خيارات المركز الفكرية. لقد تفاقم التشرذم، وغلبت الفرقة على التآخي، وانقسم العرب على أنفسهم، متغافلين عما يجمعهم وما يحيط بهم من خاطر.
ومن هذه المقدمة ينطلق سلامة، إلى شعور متراكم لديه، بأن الفكرة القومية تندثر لدى الشباب العربي، مقترحا إيجاد برنامج يتساءل عن أسباب هذا التراجع في تبني الفكرة العربية، لحساب أيديولوجيات ومرجعيات فكرية منافسة، دينية ومذهبية، أو مبالغة في قطريتها، أو لحساب نوع من اللامبالاة التامة بالرابط العربي، ثقافيا كان أم سياسيا. وفي هذا السياق يطالب سلامة، بإجراء دراسات ميدانية واستطلاعات واسعة للرأي بين الشباب، وإعادة النظر في الموضوعات التي ينشرها المركز، وفي سبل التواصل الحديث مع الشباب، من خلال الانكباب على ما يهمهم فعلا، وبطريقة تبرز لهم أهمية الرابط العربي والحداثة التغييرية المضمرة في الفكرة العربية. ويختتم بالقول أنه لم يعد يستسيغ تلك الابتسامات الساخرة، التي يراها على وجوههم، خلال لقاءاته بهم مشرقا ومغربا، كلما عبر عن قناعته بسمو الفكرة العربية وبفائدتها لمستقبلهم.
لم تكن رسالة غسان يتيمة في هذا السياق، فقد وجهت للاجتماع التشاوري لإعداد المنهج الفكري أكثر من عشر رسائل من مفكرين عرب، من مختلف الأقطار العربية، التقت جميعا عند هم مشترك واحد، هو كيفية النهوض بمشروع الأمة، وما هو سبل ذلك.
من جانبي سأركز في هذا الحديث، على مجموعة من النقاط تناولتها باختصار في ذلك الاجتماع. الأولى هي أن الأفكار كما معظم الأشياء، لا تخضع لقانون السكون، وأن قانون الكون هو الحركة. بمعنى ضرورة معاودة المراجعة باستمرار ليقينياتنا. وفي هذا السياق، استعير مقولة للمفكر العربي الراحل، محمد عابد الجابري عن الفرق بين التفكير من داخل البنية والتفكير من خارجها. إنه يميز بين الكتاب العرب والكتاب المستشرقين، فيقول أن العرب يفكرون من داخل بنيتهم العربية، أما المستشرقون فيتناولون هذه البنية من خارج دائرتها.
العروبيون مدعوون لأن يقوموا بمراجعة نقدية لأفكار، من داخل البنية القومية، لأن ذلك وحده الذي يتكفل بتجديد هذا الفكر، أما إعادة التقييم من الخارج، فإن مآلاتها هي التنكر له ورفضه.
إن أية مراجعة للفكر القومي ينبغي أن تضعه في سياق التحولات التاريخية، التي شهدها الوطن العربي، لحظة انبثاق هذا الفكر، والتطورات اللاحقة التي حدثت فيه، وتأثير التغيرات في موازين القوى الدولية، في حركته، وفي صياغة مفاهيمه.
ويمكن القول في هذا السياق، أن ثمة مراحل مر بها الفكر القومي، من طابعه الجنوني كحركة سياسية في مواجهة الذويب والاضطهاد العنصري من قبل الأتراك، إلى تأسسه كتيار شعبي واسع وأحزاب سياسية، في ما قبل وأثناء وبعد الحرب العالمية الثانية. ووضع في سياق حركة التحرر الوطني، العالمية، وفي سياق الكفاح المحتدم للتخلص من الاستعمار، وربيبته “الكيان الصهيوني” بالمنطقة العربية.
اقتنص العروبيون، وغيرهم من حركات التحرر الوطني ضد الاستعمار الغربي التقليدي، لحظة تخلخل النظام الدولي، وسعي الولايات المتحدة الحثيث لإزاحة البريطانيين والفرنسيين عن المنطقة، وبداية انبثاق ما عرف بالاستعمار الجديد، لكي ينتزعوا الاستقلال السياسي لبلدانهم. وكانت حركات التحرر الوطنية، التي لمع نجمها في القارات الثلاث أسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، من أهم معالم القرن العشرين. وكان من نتائجها عربيا أن معظم البلدان العربية أنجزت استقلالها، إما بالاتفاق أو بالكفاح المسلح. وقد تركت الوسائل التي تحقق بها استقلال البلدان العربية، بصماتها واضحة على مسيرة الأمة، مؤدية إلى انشطارات سياسية حادة بين الحكومات التي أنجزت استقلالها بالتوافق، وتلك التي أنجزته عبر المنازلات الملحمية.
ما كان للأنظمة الوطنية العربية، وعلى رأسها النظام المصري، أن تنجز ما أنجزته في حقبة الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم، لولا خلخلة النظام الدولي، واستمرار منطق الإزاحة، الذي لم يكتمل إلا في نهاية الستينيات ببروز مشروع حزب العمال البريطاني للانسحاب من شرق السويس. وهل كان صدفة أن يكتمل منطق الإزاحة بنكسة حزيران، أم أن ذلك هو فعل التاريخ، والتغيرات في موازين القوى العالمية؟!
نحن نشهد في هذه المرحلة تخلخلا أخر في موازين القوى الدولية. وطبيعي أن شكله مختلف وأدواته أيضا مختلفة، لكنه يتيح لنا فرصة تاريخية مثالية إن تمكنا من اقتناصها، ووضعها في خدمة المشروع النهضوي.
اقتناص هذه الفرصة يبدأ بتحليل الواقع، وقراءة التجربة الصعبة التي مرت بها الأمة، منذ نكسة يونيو 1967، والتغيرات البنيوية التي أحدثها وجود النفط، كمعطى موضوعي، أثر كثيرا على مسيرة العمل العربي سلبا وإيجابا، وتسبب في حروب عدة بالمنطقة بأسرها. كما يتطلب وضع الكيانات الوطنية، في سياق هذه التغيرات، بما يقتضي مراجعة نقدية لمفهوم الأمة، وللعناصر التي صنعتها، بما يتسق مع المرحلة الراهنة.
وكان لمركز دراسات الوحدة العربية، دور كبير بالسابق في تلك المراجعة، حين انتقل بفكرة الوحدة، من رؤية رومانسية إلى فكرة أنزلها على الأرض، فأكد على التكامل وألغي فكرة التماثل، وركز على الاتحاد بدلا من الاندماج، واعتبر الانطلاق لبناء الوحدة مهمة تجري أفقيا وليس رأسيا. لكن ما قدمه ليس فصل الختام… وتبقى الكثير من المحاور بحاجة إلى المزيد من التأصيل والتحليل.