نحو عالم أكثر عدلاً
ستبقى ظاهرة انتشار وباء كورونا، محرضاً للكشف، وإعادة تركيب وصياغة المفاهيم والنظريات السياسية، بما يتسق مع ما كشف عنه الوباء، من معطيات بقيت مغيبة لفترة طويلة من الزمن. وعلى رأس هذه النظريات، ما تم التعارف عليه بنظرية التبعية، والتطور اللامتكافئ.
فمنذ الخمسينات، برز تحليل جديد ضمن مفكري أمريكا اللاتينية، وبعض اليساريين في أوروبا ودول العالم الثالث، من بينهم داس انتوس، وغندر فرانك، وإيمانويل ويليرشيتاين، وحمزة علوي ومحمد إقبال وسمير أمين، خلاصته أن العالم مقسم بين أطراف ومركز. وأن المركز يستأثر بالثروات والخدمات الاجتماعية، وفرص العيش الكريم. وصدرت في هذا الاتجاه عشرات الكتب، والنظريات. وقد استلهم بعض هؤلاء المفكرين نظرياتهم من كتابات سابقة، حول الاستعمار، ودوره في نهب خيرات الشعوب. وأن ما يهمه هو الاستيلاء على المواد الخام، وتكريس التخلف، وأن ادعاء تحقيق أي تقدم في البلدان النامية، من قبل الغرب، وضخ أموال للاستثمار فيها، هو فرية كبيرة، لا تدعمها الوقائع.
وتعتبر نظرية التبعية، الهجرة المكثفة من الأرياف إلى المدن، تأكيداً لوجود أطراف ومراكز على مستوى العالم. فالمدن بالنسبة للبلدان النامية هي المركز والأرياف والبلدات هي الأطراف. وكلما اقتربنا من المركز، تحسنت فرص العيش والرعاية الصحية والتعليم، وكلما ابتعدنا، غابت هذه الفرص.
مثل هذه القراءة، تغيب جملة من الحقائق، أهمها من يقود السلطة ضمن لعبة الديمقراطية السائدة في الغرب. والمعروف، وقد أثبتته التجارب التاريخية، أن نظرية التبعية، تكون صحيحة إلى حد ما، حين يصل ممثلو الطبقة المتوسطة إلى السلطة، ضمن اللعبة الانتخابية.
من المألوف في الغرب، وجود حزبين رئيسيين يتنافسان باستمرار على السلطة، والوصول إلى البرلمان، الأول هو حزب الأوليجارشية، ويمثل الفعاليات الصناعية الكبرى، والقطاع المصرفي، وبيوت المال، ويهيمن على الفعاليات التجارية الكبرى. وبرنامج هذا الحزب يركز على تقليل دور الدولة، وتخفيض الخدمات الاجتماعية، في كل مجالاتها، بما يتيح تخفيض الضرائب على أرباب العمل، بشكل خاص.
أما الحزب الآخر، فيمثل الطبقات العليا المتوسطة. وينشط أكثر في المكونات القومية الأخرى، ويتمترس في وسائل الإعلام والأدب والفن. ويتبنى في الأغلب، النظرية الكنزية، وما بات معروفاً بدولة الرفاه. ويعتمد حزب الطبقة المتوسطة على زيادة الضرائب، وتضخيم دور الدولة، بزيادة عدد الموظفين، ودعم الخدمات الاجتماعية، من سكن وصحة وتعليم.
والوضع هذا سائد تقريباً، في كل البلدان التي تنتهج الديمقراطية بنمطها المعروف بالغرب. فهناك في الولايات المتحدة الحزب الجمهوري ممثلاً لكبار أرباب العمل، والديمقراطي ممثلاً للطبقة المتوسطة، ومثل ذلك في بريطانيا بالنسبة لحزبي المحافظين والعمال، وفي فرنسا، أحزاب رأسمالية ومتوسطة. الديجولية والحزب الاشتراكي مثالاً. وهكذا.
فرص الأحزاب اليمينية للوصول إلى السلطة هي في شيوع حالات التضخم بشكل كبير جداً، وفرص الأحزاب المتوسطة تكون أكثر، في حالة بروز ظاهرة الكساد. وهكذا يأتي تداول السلطة بين هذه الأحزاب، للتقليل من أحد خطرين: الكساد أو التضخم.
من سوء طالع البشر في الغرب، أن كورونا جاء في حقبة إمساك اليمين بالسلطة في الولايات المتحدة ومعظم دول أوروبا الغربية. والنتيجة التي لا مراء فيها، هي أن أكثر من ثلثي إصابات كورونا في العالم، من نصيب هذه البلدان.
على الصعيد النظري، نحن بحاجة إلى إعادة قراءة لأفكارنا، ووضعها في المسار الصحيح، فيما يتعلق بقضية المركز والأطراف على ضوء هذه المعطيات. وعلى الصعيد الإنساني، والأخلاقي، يجب ألّا تترك احتياجات البشر الأساسية، للمساومة، خاصة في اللحظات الحاسمة والمصيرية، وألّا تخضع لواقع التضخم والكساد، لأن ذلك يضع القيم النبيلة والحاجات الإنسانية الأساسية، في موضع السؤال. نحن بحاجة إلى عالم تنص دساتيره، على عدم جواز العبث بالحقوق الأساسية للبشر، وعلى رأسها الحرية والكرامة والحق في العيش الكريم. إنها رحلة مضنية، من أجل عالم أكثر توازناً، لا مناص من السير فيها حتى نهاية المطاف، إلى عالم أكثر عدلاً وإنسانية.
صحيفة الخليج الإماراتية