نحو صياغة منهجية للعلاقات العربية– العربية .(3/2 ).
في حديث سابق قدمنا خلفية تاريخية عن الظروف والملابسات التي أحاطت بنشوء النظام العربي الرسمي الحديث، وأوضحنا أن هذا النظام قد ارتبط إلى حد بعيد بالنتائج التي انتهت إليها الحرب العالمية الثانية التي تمثلت في انتصار الحلفاء وهزيمة المحور، ونشوء نظام عالمي جديد بقطبين رئيسيين هما الولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد السوفياتي، وقيام جامعة الدول العربية. وأشرنا إلى أن الأنظمة العربية بقيت، خلال النصف قرن المنصرم، عاجزة ومشلولة ومشغولة بمشاكلها الخاصة في حين كان المشروع الصهيوني يتقدم ويستكمل برنامجه بالتمدد والتوسع السكاني والمكاني. ووعدنا القارئ الكريم أن نناقش لاحقا نقاط الضعف وكيفية تجاوزها..
والواقع أن هناك جملة من المعوقات الذاتية والموضوعية التي حكمت سيرورة العلاقات العربية- العربية. وللأسف، فإن تلك المعوقات لم تلق الاهتمام اللازم من قبل الزعماء العرب، أو النخب المحلية، من مفكرين ومثقفين ومهتمين بالشأن العام، والذين كان المتوقع منهم أن يتناولوا قضايا الأمة، الملحة والمصيرية، بالتفكيك والتحليل والمعالجة. أولى هذه المعطيات أن الأقطار العربية، بحكم نشأتها وتطورها التاريخي، ليست متجانسة من حيث إمكاناتها وثقلها الاقتصادي والسكاني والعمراني والثقافي. فقد كان لبعض المناطق العربية دور ريادي في صناعة الحضارة الإنسانية منذ فجر التاريخ، وقد استمر هذا الدور في حقب متعددة، وحلقات ممتدة، وصولا إلى العصر الحديث. ومما لا شك فيه أن ذلك قد ترك بصماته واضحة على المستوى الثقافي والحضاري والتنموي في تلك البلدان، وبالتالي على طبيعة الأداء السياسي فيها. وساعد على ذلك أن الأقطار التي اعتبرت مراكز رئيسية للنهضة، قد تمكنت في وقت أبكر من ذلك الذي أنجزته شقيقاتها، من نيل استقلالها السياسي، وحظيت باعتراف الأسرة الدولية بها كبلدان مستقلة.
وحين هبت الطفرة النفطية، منذ منتصف السبعينيات، تمكنت البلدان الصغيرة في حجمها وكثافتها البشرية، والتي لم تلعب دورا يذكر في مسيرة اليقظة العربية الحديثة، من تحسين واقعها الاقتصادي واستكمال بنيتها التحتية، بما جعل المفاضلة، عند المواطن العربي في الشارع، تميل لصالح هذه الكيانات الصغيرة، خاصة بعد أن تكشف الدور المعادي للحرية والديموقراطية الذي مارسته الأنظمة الشمولية تحت شعار حماية الوطن والدفاع عن الثورة.
ومما لا شك فيه أن التفاوت الزمني في الحصول على الاستقلال قد ترك آثاره السلبية على التضامن والتنسيق والتكامل بين الأقطار العربية، فقد جرى تشكيل مؤسسات وهياكل الدولة في الأقطار التي أنجزت استقلالها على أسس محلية، ودون تصور استراتيجي بعيد المدى، يأخذ بعين الاعتبار حقيقة ارتباط هذه البلدان بوطن أكبر هو الأمة العربية. وقد لعبت التركيبة البطركية لهذه الأنظمة دورا أساسيا في تغييب أية إمكانية لتحقيق التكامل الإقتصادي والسياسي، حتى بين تلك الأقطار التي استقلت مبكرا. كانت حكومات تلك الأقطار، لأسباب خاصة بها، تنظر إلى ذاتها على أنها الطليعة في قيادة النظام العربي الرسمي، بينما هي في حقيقتها، أسيرة لاتفاقيات ومعاهدات تحد من قدرتها على الحركة والفعل، وتفتقر ماديا وموضوعيا لمؤهلات القيادة. وهكذا، وفي ظل تعدد المراكز، تحقق، باستثناءات نادرة، غياب حقيقي لمركز قيادي فاعل، وأصبح النظام العربي تائها في لجة الأحداث التي تسارعت في المنطقة بخطى حثيثة، وجعلت من المستعصي على الأنظمة العربية أن تصيغ أي برنامج متماسك ينظم العلاقات فيما بينها.
ولا شك أن استعار الحرب الباردة، ومحاولاتها المحمومة لاستقطاب أكبر عدد من المؤيدين والحلفاء، واتخاذها من منطقتنا ساحة لصراع عقائدي وسياسي واستراتيجي فيما بين القوى العظمى قد ساعد على تمزيق اللحمة بين الأقطار العربية، وساهم في تأجيج الخلافات بين حكوماتها، حين انقسمت الحكومات العربية في ولاءاتها، باتجاه هذا الفريق أو ذاك.
وحين تحقق الاستقلال لمعظم الأقطار العربية، تكشفت حقائق أخرى مريعة، فالحدود السياسية التي رسمها الاستعمار قبل رحيله، فيما بين هذه الأقطار كانت بمثابة القنابل الموقوته.. إنها حدود صممت لأغراض خاصة بالمستعمر، وبالحصص التي جرى التعاقد عليها بين المنتصرين في نهاية الحرب العالمية الأولى. وهي بالتأكيد لم تضع في الحسبان مصالح أو خيارات شعوب المنطقة. كانت هناك مناطق ومدنا تخص أقطارا عربية تم اقتطاعها منها وأضيفت إلى أقطار أخرى، تبعا للمصالح الاستعمارية، ولتكون أسفينا مستقبليا يحول دون تحقيق الوئام والاستقرار فيما بين هذه الأقطار. ويمكن في هذا السياق أن نشير إلى مدينة الموصل التي اقتطعت من سوريا وأضيفت إلى العراق، ومنطقة البوكمال العراقية التي ضمت للأراضي السورية. وكانت هناك مناطق سميت بالمحايدة بقيت إلى حين خارج القسمة، ومناطق أخرى اعتبرت في عداد أماكن متنازع عليها، كمنطقة حلايب بين السودان ومصر. ويمكننا القول دون تحفظ، أن حالات التشابك والتعقد في الحدود بين الأقطار العربية هي الظاهرة البارزة في جميع البلدان العربية بأسرها، وأن غيابها هو الاستثناء,
وكما أن العلاقات بين الأنظمة العربية وشعوبها، هي علاقات تستمد مشروعيتها من البنية القبلية والعشائرية السائدة، وتغيب فيها دولة المؤسسات، وتنعدم فيها الهياكل الاجتماعية الحديثة، وتصدر القرارات فيها بناء على هوى ورغبة الرئيس والحاكم في أعلى هرم السلطة، فإن العلاقات العربية- العربية بقيت هي الأخرى محكومة بهذا النمط من العلاقات. فقد كانت العلاقات، كثيرا ما تقوى وتتعزز بين قطر عربي وآخر بفعل تعزز أواصر الصداقة أو القربى بين زعيم وآخر. ولأن استمرار هذه العلاقة محكوم باستمرار الثقة أو الصداقة أو أواصر القربى بين الحكام العرب، فإنها سرعان ما تنهار عند أية انتكاسة تنشأ في علاقة الحكام مع بعضهم البعض.
وليس من الصعب على المراقب والمتتبع لسياسات الأنظمة العربية، أن يدرك حجم الكوارث والمآسي التي عانى منها المواطن العربي، العادي جدا، نتيجة لانهيار العلاقات الفردية الخاصة بين الحكام. لقد نتج عن ذلك قطع علاقات سياسية واقتصادية، انتهت بموجبها المبادلات التجارية والثقافية، ومنع سفر المواطنين إلى هذا القطر أو ذاك، وطرد عشرات الألوف من مواطني هذه الأقطار، وأحيانا وصلت الخلافات بين الحكام حد القطيعة التامة والمواجهة المسلحة.. والأمثلة في هذا السياق كثيرة.
وكان موقف تضامني أو حتى حيادي لأحد الأنظمة العربية تجاه صراع بين نظام عربي وآخر كفيل بمفرده ينقل هذا الصراع إلى ذلك النظام، فيترتب على العلاقة معه من العقوبات والقطيعة ما يترتب على الأطراف المعنية بالصراع مباشرة. ففي حرب الخليج الثانية، على سبيل المثال، انقسم الوطن العربي بشكل حاد إلى حكومات مساندة وحكومات ضد. وتعامل الجميع مع تلك الخلافات بعقلية داحس والغبراء، واستمر العداء بين الفرقاء بقسوة حتى وقت متأخر، دون أن يتنازل أحد من أطراف الخلاف بالصفح والتسامح. وللأسف فإن الحالات التي تم فيها ترميم الجسور، وعودة العلاقات بين الحكومات إلى مجاريها، قد حدثت بفعل ضغوطات خارجية، قادتها في الغالب الولايات المتحدة الأمريكية، وليس بمبادرات عربية ذاتية. ولا زالت المنطقة تعاني من تبعات تلك الخلافات حتى يومنا هذا. ولعل خير مثال على ذلك هو عدم تمكن رئيس وزراء السلطة الفلسطينية، السيد أبومازن، من زيارة دولة الكويت، بسبب موقف منظمة التحرير الفلسطينية عام 1990 من الغزو العراقي للكويت، وهو موقف قد أخذ مكانه قبل قيام السلطة، وقد سالت على المنطقة العربية منذ ذلك التاريخ مياه كثيرة، لكنها لم تتمكن من غسل ما في النفوس حتى يومنا هذا.
لا بد إذن من مراجعة شاملة للنظام العربي الرسمي الذي ساد منذ الحرب العالمية الثانية حتى يومنا هذا، وبضمن ذلك ميثاق ولوائح وهياكل جامعة الدول العربية ذاتها. لا يعقل أبدا أن تستمر هياكل وأنظمة صيغت قبل أكثر من نصف قرن، وفي سيادة نظام عالمي آخر، وتجاوزها الزمن بفعل التطور التاريخي، وتغير الخرائط السياسية وموازين القوى أن يستمر حتى يومنا هذا دونما تغيير أو تطوير.
إن جملة من التغييرات الجوهرية مطلوب إحداثها بشكل ملح في العلاقات العربية العربية، يأتي في المقدمة منها إيجاد علاقة مستديمة، قادرة على الصمود في وجه الرياح والأعاصير، وغير خاضعة للتقلبات السياسية المحلية ولا لهوى الحكام، تأخذ بعين الاعتبار مجموعة من الثوابت، أهمها التعادل والتكافؤ والتبادلية والمصالح المشتركة لشعوب هذه المنطقة.. وفي هذا الصدد، يمكننا أن نأخذ تجربة الوحدة الأوروبية كمثال رائد على فصل المصالح المشتركة عن الخلافات السياسية بين الدول المنضوية في هذا الإتحاد. لقد استطاع قادة هذا الإتحاد أن يحافظوا على مصالح شعوبهم، في ظل اختلافات جوهرية في سياساتهم الخارجية. ومثال على ذلك، الصراع الذي حدث بين ألمانيا وفرنسا وبلجيكا من جهة وبريطانيا وأسبانيا وإيطاليا من جهة أخرى تجاه الاحتلال الأمريكي البريطاني للعراق والذي بلغ حد التهديد باستخدام الفيتو من قبل الفرنسيين لمنع صدور قرار من مجلس الأمن يجيز استخدام القوة العسكرية بحق العراق.
ويقينا أن أولى الخطوات الجادة على هذا الطريق هي تحقيق الإصلاح السياسي، وأن يتأسس النظام العربي الرسمي من الداخل، بحيث يعاد النظر في الهياكل والسياسات والبنيان الداخلي لكل نظام عربي على حدة، وأن ينتقل المجتمع العربي، من النظام التقليدي، إلى نظام عصري متجانس مع روح العصر وقوانين التطور، فذلك وحده السبيل لوضع الأماني والطموحات المشروعة لشعبنا العربي على الطريق الصحيح. ويبقى أن نتناول آليات صياغة هذه العلاقات في حديث آخر، بإذن الله.
yousifsite2020@gmail.com
د. يوسف مكي
تاريخ الماده:- 2003-09-04