نحو صياغة منهجية للعلاقات العربية- العربية 3/1
بدأ تشكل النظام العربي الرسمي الحديث إثر نهاية الحرب العالمية الثانية، وفي ظل تصاعد المطالبة الشعبية، وبخاصة في العراق وبلاد الشام بقيام نوع من الاتحاد بين الأقطار العربية، وذلك لتعضيد التطلعات القومية والعمل على تحقيق استقلال البلدان التي ما زالت تعيش تحت وطأة الاحتلال الأجنبي. في تلك الظروف، وقبيل انتهاء الحرب العالمية الثانية بزمن قصير، جرت اتصالات ومشاورات بين الحكومة البريطانية وبعض القيادات العربية للوصول إلى حل وسط، يحول من جهة دون قيام أي شكل من أشكال الوحدة بين العرب، ويؤمن، من جهة أخرى، التشاور والتنسيق والتعاون بين الأنظمة العربية التي تمكنت من إنجاز استقلالها السياسي عن الاستعمار التقليدي. وفي هذا الاتجاه، تم اقتراح تشكيل تكتل عربي، يمثل الحكومات العربية المستقلة أو شبه المستقلة، انتهت بعد مداولات ومشاورات ومباحثات بقيام جامعة الدول العربية.
كانت الخطوة العملية في تأسيس الجامعة قد بدأت في أواخر أيام الحرب الكونية الثانية، عندما تبنى ثلاثة من الزعماء السياسيين العرب، هم كل من مصطفى النحاس باشا، زعيم حزب الوفد ورئيس وزراء مصر، وجميل مردم بيك رئيس الوزارة في سوريا، وبشار الخوري الزعيم الوطني اللبناني وأول رئيس لجمهورية لبنان بعد مشاورات مكثفة مع مسؤولين بريطانيين، وبعد أن ضمنوا التأييد السياسي من الحكومة البريطانية، فكرة قيام جامعة الدول العربية وعرضوا هذه الفكرة على الملوك والرؤساء العرب الذين استحسنوها وأيدوها,
وإثر تكشف نتائج الحرب العالمية الثانية واقتراب الحلفاء من تحقيق النصر على دول المحور، تهيأت الأجواء لعقد مؤتمر إقليمي في الإسكندرية لدراسة تشكيل هذه المنظمة. وخلال اجتماعات المؤتمر اتضح تباين وجهات النظر بين المجتمعين، حيث كان السوريون متحمسين لتأسيس دولة تضم عددا من الأقطار العربية، بضمنها سوريا ولبنان والأردن وفلسطين تدعى بسوريا الكبرى، بينما كان هناك اتجاه آخر، يطالب بتحقيق وحدة الهلال الخصيب، وكان الاتجاه الغالب قد فضل أن يمارس العمل العربي المشترك من خلال تأسيس جامعة الدول العربية باعتبارها حاضنة للتنسيق وتحقيق التعاون والعمل المشترك بين الأقطار المنضوية دون أن تفقد أي منها سيادتها واستقلالها.
وانطلاقا من هذا التصور، نص بروتوكول الإسكندرية الذي جرى توقيعه في 7 أكتوبر عام 1945على إنشاء جامعة للدول العربية وأن تعتمد قراراتها على قاعدة الإجماع في التصويت، وفي حالة تعذر ذلك، تكون تلك القرارات ملزمة لمن يقبلها. كما نص البروتوكول على عدم جواز اللجوء للقوة لفض المنازعات التي قد تنشأ بين عضوين أو أكثر من أعضاء الجامعة، وأعطى المجلس الحق، لأعضاء الجامعة وأمانتها العامة، في التوسط في أي خلاف أو حرب تقع بين الدول الأعضاء أو بينها وبين أي دولة أخرى خارج الجامعة، وألحق بالبروتوكول ملحقان أحدهما قرار خاص باستقلال لبنان وسيادته بحدوده القائمة، والآخر ينص على تأييد الحق العربي في فلسطين، وعلى ضرورة مساهمة الحكومات والشعوب العربية في صندوق الأمة العربية لإنقاذ أراضي العرب في فلسطين.
وفي مارس عام 1945 أعلن رسميا عن تشكيل جامعة الدول العربية، التي نص ميثاقها على أنها منظمة عربية ودولية، طبقا لبروتوكول الإسكندرية، واستنادا على الميثاق الذي وقعه سبعة من الملوك والرؤساء العرب في القاهرة في 22 مارس 1945. واقتصر التوقيع في هذا البروتوكول على الدول العربية المستقلة، باعتبارها حكومات مؤسسة لهذه المنظمة، والتي لم تتعد حتى ذلك الوقت السبعة أقطار، هي مصر والسعودية والعراق وسوريا ولبنان واليمن والأردن. وقد انضمت إلى الجامعة بقية الأقطار العربية الأخرى بعد أن تمكنت من إنجاز استقلالها السياسي.
اللافت للنظر، أن أعرافا غير مكتوبة سادت العلاقات العربية- العربية، وبضمنها أعراف تخص هيكلية وطريقة عمل جامعة الدول العربية. فمع أنه لا يوجد نص رسمي في الميثاق أو اللوائح التابعة للجامعة يشير إلى أن أمينها العام ينبغي أن يكون مصريا، لكن مصر ظلت على الدوام تحتفظ بمنصب الأمين العام لها، منذ العهد الملكي حتى يومنا هذا. الفترة الوحيدة التي جرى فيها تعيين أمين عام من خارج مصر كانت خلال فترة القطيعة العربية مع نظام الرئيس أنور السادات، إثر توقيعه معاهدة كامب ديفيد مع الكيان الصهيوني، حيث عين للأمانة العامة السيد الشاذلي القليبي، من القطر التونسي الذي أصبحت بلاده مقرا مؤقتا للجامعة.
العرف الآخر الذي جرى الأخذ به هو الإقرار بعدم جواز التدخل في الشؤون الداخلية، واحترام سيادة كل قطر من قبل الأقطار العربية الأخرى. لكن في كل الأحوال، كانت هناك استثناءات وخروقات سواء لما جرى الاتفاق عليه بموجب الميثاق، أو ما تم التوافق عليه عرفيا.
كانت الجامعة في حقيقتها انعكاساً موضوعياً وحقيقياً لواقع النظام العربي الرسمي وطبيعة العلاقات بين الأقطار العربية، وكانت الخلافات بين قطرين رئيسيين من الأقطار العربية كافية لأن تشل عمل الجامعة وتعطل حركتها.
وفي هذا الصدد فإن الخروقات والأزمات كبيرة وكثيرة يستعصي إحصاؤها في هذه العجالة. كانت الأحلاف والعلاقات الحميمة موسمية، سرعان ما تنهار إثر تعرضها للرياح.. ومن سوء طالع هذه الأمة أن الرياح والأعاصير التي تواجهها كانت ولا تزال كثيرة، وكانت الأحداث تأخذ مكانها بسرعة مذهلة. ومع كل حدث كان هناك موقف عربي رسمي وشعبي مؤيد أو مناوئ، وكان الحدث الواحد بمفرده يشكل محطة رئيسية في صياغة العلاقات السياسية والاقتصادية بين هذا النظام أو ذاك، والمحطات كثر.!
قامت على سبيل المثال لا الحصر، ثورة مصر، وجرى تأميم قناة السويس وكسر احتكار السلاح وبناء السد العالي، وحدث العدوان الثلاثي على بورسعيد، وتحققت الوحدة السورية المصرية، وقامت ثورة 14 يوليو في العراق ومن ثم الانفصال عام 1961، فثورة اليمن، فانقلابا حزب البعث في 8 فبراير في العراق و 8 مارس في سوريا عام 1963، وجرى تأميم البنوك والفعاليات الاقتصادية الرئيسية في عدد من الأقطار العربية، واستقلت الجزائر بعد أن قدمت أكثر من مليون شهيد، وحدثت نكسة يونيو عام 1967، ومن ثم تحقق تأميم النفط في بعض الأقطار العربية، وقامت معركة العبور في أكتوبر عام 1973، وجرى استخدام النفط لأول مرة لتعضيد العمل السياسي العربي. ومن ثم خرج أكبر قطر عربي عن الإجماع العربي، واتجه للصلح مع الكيان الصهيوني، وقامت الثورة الإيرانية، وحدثت الحرب العراقية الإيرانية التي استمر أوارها ثماني سنوات، وقام الكيان الصهيوني بغزو بيروت واحتل أول عاصمة عربية، وخرج المقاتلون الفلسطينيون إلى منفى آخر، واندلعت الانتفاضة الفلسطينية الأولى الباسلة. ومع مطلع التسعينيات حدث زلزال الخليج، حين اجتاح الجيش العراقي دولة الكويت، واتجه الفلسطينيون ومعهم العرب، في لهاث مستمر لتحقيق تسوية مع الكيان الصهيوني، في مدريد ووادي عربة وأوسلو وواي ريفير وشرم الشيخ.. وفشلت كل المحاولات واندلعت الانتفاضة الفلسطينية مرة أخرى، بشكل أكثر عنفا وقسوة ومراسا. وجاء العدوان الأمريكي على العراق واحتلاله، ليكون أول قطر عربي، أو ربما أول بقعة في العالم يعاد احتلالها في القرن الواحد والعشرين بالطريقة الاستعمارية التقليدية.
وعند كل محطة من هذه المحطات كانت هناك علاقة حميمة جديدة بين أقطار عربية تنشأ وأخرى تنهار. وكانت التحالفات تقوم وتسقط بين ليلة وضحاها. ففي الخمسينيات، كانت الحرب الباردة تمزق العلاقات بين الدول العربية وتقسمها ذات اليمين وذات الشمال. فذلك النظام تابع لحلف بغداد، والثاني مناوئ له ويشن حربا لا هوادة فيها عليه. وكان هناك الصراع بين الفكر “التقدمي” والفكر “المحافظ”، وكل يغني على ليلاه.
كان النظام العربي الرسمي مشغولا في مشكلاته الخاصة، بينما كان المشروع الصهيوني يتقدم، ويستكمل بنيانه بالتمدد والتوسع السكاني والمكاني. ولم تستطع الهياكل والمؤسسات العربية التي أنشئت في نهاية النصف الأول من القرن الماضي أن تتقدم خطوة واحدة على طريق تحقيق الأماني والآمال المشروعة للشعب العربي. أين نقاط الضعف؟ وكيف يمكن تجاوزها؟ بمعنى آخر، ما هي الصياغة المنهجية الجديدة التي ينبغي أن تتحقق للعلاقات العربية- العربية؟ هذه الأسئلة، وأسئلة أخرى ذات علاقة ستكون محاور مناقشاتنا في أحاديث قادمة بإذن الله.
yousifsite2020@gmail.com
د. يوسف مكي
تاريخ الماده:- 2003-08-21