نحو رؤية حضارية للصراع العربي- الصهيوني

0 176

في الثامن والعشرين من هذا الشهر أيلول/ سبتمبر تدخل الانتفاضة الفلسطينية الباسلة عامها الرابع، برصيد حافل بالإنجازات. فمن خلالها تمكن الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة من تسجيل ملاحم بطولية معمدة بالدم، مضيفا إلى تاريخ النضال الفلسطيني محطة رئيسية أخرى من محطاته الزاخرة بالتضحية والفداء.

 

ولعل أبسط الواجب في الوفاء لأرواح الشهداء والأبطال الذين سقطوا في هذه الانتفاضة دفاعا عن الوجود والشرف، والكرامة العربية أن نقف في هذا المنعطف من مسيرة الكفاح لتحرير الأرض لنقيم حصيلة الصراع المرير الذي خاضته الأمة مع العدو الصهيوني، منذ انطلاق مشروعه في النصف الأخير من القرن التاسع عشر حتى يومنا هذا.

 

ولا شك أن القراءة الواعية لمجريات الصراع مع الصهاينة تؤكد أن العرب منذ البداية لم يمتلكوا استراتيجية واضحة وممكنة لهزيمة المشروع الصهيوني، وأن جل ما قام به القادة العرب كانت استجابات انفعالية، وأسيرة للحظة، لمواجهة تحديات متحققة على أرض الواقع. ولذلك غيب في تلك المواجهات والحروب التخطيط والإرادة والقدرة على الفعل. وقد اتسم مسلسل المواجهات في الحروب التي خضناها طيلة الخمسين عاما المنصرمة في الغالب بالتسرع والعاطفية وعدم وضوح الأهداف. فكانت النتيجة هزائم وكوارث متلاحقة للجيوش العربية، وتقدماً مطردا وحثيثاً للمشروع الصهيوني على طريق تحقيق شعاره “أرضكم يا بني صهيون من النيل إلى الفرات”.

 

وعلى الرغم من أن القضية الفلسطينية ما زالت حية وراسخة في الضمير والوجدان العربي، وأن الالتزام بها كان وما يزال يشكل أهم البوصلات لمشروعية النظام العربي الرسمي، ورغم البذل السخي والمتواصل للشعب الفلسطيني، فإن العرب اليوم هم أبعد ما يكونون عن الاقتراب من هدف التحرير، خاصة بعد أن أعلن الحكام العرب المعنيون مباشرة بإدارة الصراع، أن خيارهم الإستراتيجي هو السلام وليس الأمن، وأن المقاومة خرافة وأن حرب التحرير، أصبحت شيئا من الماضي، وبعد أن فتحت الأبواب مشرعة للكيان الصهيوني، للتسلل في وضح النهار في العمق العربي وأطرافه، حيث استطاع هذا الكيان تسجيل إصابات قوية في مرمانا العربي نتج عنها الاعتراف من قبل حكومات عربية بمشروعية اغتصابه لأرض فلسطين، وإقامة علاقات دبلوماسية كاملة معه، وحيث يتوسع هذا الكيان في فتح كثير من النوافذ والأبواب، في عدد لا يستهان به من العواصم العربية.

 

لا مناص إذا من التسليم بصعوبة التعويل على الأنظمة العربية لقيادة الصراع مع الصهاينة، ولا مناص أيضا من القول بعدم إمكانية أية مواجهة عسكرية مع العدو في ظل هيمنة القطب الواحد والخلل الشامل في موازين الصراع، وعلى كل الأصعدة بين هذا العدو وبين العرب والفلسطينيين.

 

كيف السبيل إذن للخروج من المأزق الراهن، وتسجيل إصابات ممكنة ومباشرة ضد الكيان الصهيوني؟. لا بد في هذا الصدد من إعادة تشخيص لطبيعة الصراع مع هذا الكيان، والارتقاء بهذا التشخيص إلى مستوى أكثر حضارية وعلمية ووعيا. ولا بد أن يهدف هذا التشخيص إلى تحجيم وإضعاف القوى التي يتكئ عليها هذا المشروع. ومن ثم لا بد من تحديد الأهداف وصياغة استراتيجيات المواجهة على ضوء هذا التشخيص.

 

وفي هذا الصدد ينبغي التذكير بأن القيادات العربية التي تصدت للمشروع الصهيوني، قد عانت من مراوحة كبيرة، ومن طرح شعارات ثبت بالدليل عجز تلك القيادات عن تجسيدها في الواقع. كانت هناك عنتريات وشعارات ضخمة ولاءات كبيرة، ما لبثت أن تكشف عجزها، لينتقل بعد ذلك التكتيك، أو الشعار لا فرق، إلى انبطاح وتسليم كامل بشروط العدو. وكان هناك أيضا، بسبب من مواريث تاريخية ورؤى ثيولوجية خاطئة لا تمت إلى العصر بصلة، خلط بين الصهيونية واليهودية، ومن خلال هذا الخلط جرى التعامل مع اليهود في الأقطار العربية، من قبل الحكام والجمهور على السواء، باستثناءات نادرة، ليس بوصفهم مواطنين عربا، لهم كامل الحقوق والأهلية في المواطنة بالبلدان التي نشأوا فيها، بل باعتبارهم رصيدا بشريا احتياطيا للحركة الصهيونية. وهكذا جرى التعامل معهم بنظرة دونية مزدرية، وكان مصير كثير منهم الاضطهاد والطرد، وكانت القيادات العربية، بذلك السلوك وتلك التصرفات، تضيف رصيدا آخر لإمكانية إنجاح المشروع الصهيوني. وهكذا غادر كثير من اليهود العرب من العراق واليمن وسوريا ومصر وليبيا وتونس والمغرب إلى الأرض الفلسطينية ليضيفوا إلى أزمة الفلسطينيين وليضاعفوا من معاناتهم.

 

لا بد إذا من التمييز بين اليهودية والصهيونية، وهذا التمييز يشكل خطوة عملية ورئيسية في إعادة النظر إلى طبيعة الصراع، وتحديد الممكنات وصولا إلى صياغة استراتيجية صحيحة لدحر المشروع الصهيوني. وهذا الاتجاه يجدر التنويه إلى أن فكرة اغتصاب فلسطين كانت في الأساس فكرة أوروبية، وكان أول من تنبه إلى أهمية موقفها هو نابليون حين زحفت جيوشه على مصر، وحين وصل إلى حدود فلسطين قادما من شبه جزيرة سيناء، ولا شك أن قيام محمد علي باشا باحتلال بلاد الشام وتحقيق انفصال مصر عن السلطنة العثمانية قد نبه الأوربيين من جديد إلى أهمية الاستيلاء على المنطقة التي تشكل نقطة الوصل بين المشرق العربي ومغربه، وتربط القارة الإفريقية بالقارة الآسيوية، وكان ذلك هو أحد الوسائل المانعة لالتقاء المشرق العربي ومغربه في وحدة قومية، اتفقت القوى الاستعمارية على أنها ربما تشكل المدخل الصحيح لقيام إمبراطورية عربية قوية ومتينة، وذلك ما لا يمكن السماح به والتغاضي عنه.

 

ومن هنا كان المشروع الصهيوني في جوهره مشروعا استعماريا استيطانيا أوروبيا، تماما كالمشروع الذي نفذه الأوروبيون العنصريون في جنوب إفريقيا، وتماما كمحاولات الاستعمار الفرنسي لفرنسة الجزائر عن طريق تشجيع المواطنين الفرنسيين على الهجرة للجزائر وبناء المستوطنات فيها، والعبث بهويتها وتاريخها وموروثاتها ومقاوماتها ومنظومة دفاعاتها الثقافية. وعلى هذا الأساس ينبغي تشخيص الصراع على أنه في حقيقته استعمار استيطاني أوروبي وأن يعاد الاعتبار لضحايا هذا الصراع من عرب وفلسطينيين ويهود.

 

وعلى الرغم مما يبدو في هذا الطرح من غرابة، فإن واقع الصراعات الإثنية والطبقية داخل المجتمع اليهودي “الإسرائيلي” تؤكد على إمكانية الأخذ بهذا التشخيص وتعميمه. فلم يعد سراً الصراعات بين الإشكنازيين والسفارديين، وهي صراعات تجسد حقيقة النظرة العنصرية والفوقية للمستوطنين الأوروبيين تجاه اليهود من الأجناس والقوميات الأخرى. ولذلك يصبح مهما التمييز بين اليهود الذين غرر بهم ودفعوا دفعا إلى الهجرة لأرض فلسطين، على حساب سكانها الأصليين، وبين رواد الحركة الصهيونية الذين اجتمعوا في بازل ورسموا الخطط والإستراتيجيات، ووضعوا رؤوس الأموال وأقاموا التحالفات الدولية، وشجعوا اليهود للهجرة لأرض فلسطين على طريق الإعداد لاغتصابها في خطوات لاحقة.

 

ولعل من الأهمية في هذا التمييز أن يعاد الاعتبار لمفهوم المواطنة لليهود العرب، وأن يجري العمل على فصلهم عن المشروع الصهيوني، وإلحاقهم بالقافلة العربية، فقد ولدوا على هذه الأرض، وعاشوا فيها مئات السنين، وتشبعوا بعاداتها وثقافاتها، ولذلك فليس هناك من الأسباب ما يجعل من المنطقي والعقلاني نفيهم واستبعادهم. بل على النقيض من ذلك تماما، فمثل هذا النفي هو الذي ساهم ويساهم في ترسيخ انتمائهم للهوية الصهيونية، ووضعهم في الخندق المضاد للتطلعات والأماني القومية للعرب جميعا. ولعلي أضيف إلى هذا أهمية أن يصار إلى إعادة النظر في إتاحة المجال لهم للعودة إلى ديارهم في الأقطار العربية التي أجبروا على الرحيل عنها، إما تحت ضغط الصهيونية العالمية، أو بالممارسات الخاطئة التي لحقت بهم في تلك الأقطار.

 

والواقع أن مؤشرات كثيرة تشجع على مثل هذا الاستنتاج. فعلى سبيل المثال، رفض كثير من اليهود المصريين الهجرة إلى فلسطين، ورحلوا أثناء التهديد النازي باحتلال مصر، إلى الأرجنتين، ولا يزال أبناؤهم يتعلمون العربية ويتكلمون بها حتى يومنا هذا. وأثناء حرب لبنان عام 1982م رفض كثير من الجنود من أصول مغربية المشاركة في الحرب على الفلسطينيين مما عرَّض بعضهم إلى الاعتقال والملاحقة. وكان لليهود العراقيين المقيمين في الكيان العبري موقف واضح رافض للحصار الذي فرضته الولايات المتحدة الأمريكية منذ عام 1990 عليه.

 

ويبقى أن نؤكد على أن هذا الحديث هو محاولة لصياغة رؤية جديدة، نأمل أن يكون نصيبها الصواب، وهي رؤية لم تستكمل بعد، فعسى أن نواصلها في حديث آخر بإذن الله.

 

 

 

 

 

 

 

 

د. يوسف مكي

تاريخ الماده:- 2003-10-01

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

20 − 8 =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي