نحو تفعيل عربي لمفهوم الدولة

0 461
الدولة مفهوم معاصر، ارتبط بالتحولات السياسية والاجتماعية الكبرى، التي أخذت مكانها في القارة الأوروبية، في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وبشكل خاص الثورتين الفرنسية والانجليزية، وانطلاق الثورة الصناعية.
ويعود بعض الكتاب بالمفهوم، إلى اتقاقية ويستفاليا، عام 1648، حين اتفقت الحكومات الأوربية الست، التي شاركت في توقيع الاتفاقية، على إنهاء حالة الحرب بينها، وتحقيق المساواة بين الدول المسيحية.
والاعتراف بالتوازن الدولي، عاملا رئيسييا لتحقيق السلم.
لكن الدولة بمفهومها المعاصر، لا تستمد وجودها، من الاعتراف الدولي بحدودها، وحقها في السيادة على أراضيها فحسب، بل أيضا بقضايا أخرى، لا تقل أهمية، ومن ضمنها علاقاتها التعاقدية في الداخل، ووجود سلطة يقبل بها معظم أفراد السكان، وبقدرة هذه السلطة على تأمين المستلتزمات الأساسية لمواطنيها، ومن ضمنها قدرتها على الدفاع عن الاستقلال والسيادة.
بل إن البعض يعتبر وجود الدستور، وسيادة دولة القانون، ورعاية سلطتها للتمنية وتأمين الرعاية الصحية والتعليم والسكن، شروطا أساسية لاكتمال عناصر وجود الدولة المعاصرة.
والثابت أن مفهوم الدولة، شأنه شأن المفاهيم الأخرى، في العلوم الاجتماعية، لا يحكمه تعريف واحد، واضح ومحدد. وما لدينا من مفاهيم للدولة، شأنها شأن المفاهيم الأخرى، ليست ساكنة، بل خاضعة للتطور والتغيير، والتغيرات التاريخية.
إلا أن ذلك لا ينفى حداثة المفهوم.
ويمكن القول، إن الدولة بالمفهوم الذي أشرنا له، بقيت حكرا حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى، على القارة الأوروبية، وأمريكا الشمالية.
ولم تدخل ضمن النطاق الدولي، إلا بعد تأسيس عصبة الأمم المتحدة، حين ألغي حق الفتح، وأقر مبدئي الاستقلال وحق تقرير المصير، واعتبر الاستعمار التقليدي، عملا بغيضا، غير مقبول أخلاقيا، لكن ذلك لم يغير كثيرا في الواقع العربي، فقد بقيت معظم البلدان العربية، تحت السيطرة المباشرة للاستعمار الغربي، حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، حين تمكن عدد من الأقطار العربية، من انجاز استقلاله، بالقسر أو التراضي.
قلنا أن مفهوم الدولة، هو مفهوم إشكالي، من حيث تعدد التعريفات، وبلوغها حد التناقض.
لكن المؤكد أن غالبية علماء السياسة يجمعون، على عدم إمكانية عزل هذا المفهوم، عن التطورات القومية والتنظيمية، التي أخذت مكانها في الأربعة قرون المنصرمة، والمنبثقة عن أفكار مكيافيلي، وهوبز وهيجل وبودان.
في هذا السياق، يشير نزيه الأيوبي، في كتابه تضخيم الدولة العربية، إلى أن هيجل هو الأوسع تأثيرا، في تحديد مفهوم الدولة، حيث يحددها في انتصار الوحدة على الاختلاف، والعام على الخاص، والمصلحة العامة على الخاصة.
هذا التعريف، مضاد تماما لرؤية ماركس، الذي رأى في الدولة حارسا للطبقة المهيمنة، واعتبرها أداة فاعلة في تأجيج الصراع الطبقي.
إن تعريف هيجل للدولة، كما رآة هو “مفهوم الدولة عن نفسها”.
إن جهاز الدولة كيان يمكن تمييزه، لكن من الصعب فصله عن المجتمع، والقوى المهيمنة فيه.
هذه المفاهيم تطورت لاحقا، على يد أشخاص كغرامشي وفيبر وميتشل، حين جرى ربط المفهوم بالتشاركية والانشطة الاقتصادية.
في الوطن العربي، ظل مفهوم الدولة مغيبا، لحقب طويلة.
ومرد ذلك أن معظم الأقطار العربية، كانت تحت الهيمنة العثمانية، إلى ما قبل نهاية الحرب العالمية الأولى، ولم يكن لها يد في الاحكام بمقدراتها السياسية والاقتصادية.
وحين أوقفت المدافع، كانت ممتلكات السلطنة العثمانية، قد وتم تقاسمها بين المنتصرين. وجرى تقسيم المشرق العربي، وفقا لاتفاقية سايكس- بيكو.
كانت الأقطار العربية، قبل الحرب العالمية الأولى، ضمن الإطار الإسلامي العام، كجزء من “أمة” وبتعبير أكثر دقة، جزءا من امبراطورية تتلفع بالإسلام. وحين انطلقت حركة اليقظة العربية، تبنت شعار الأمة العربية الواحدة.
وطغى الشعار القومي، على قضايا أخرى، ومنها شكل الكيان الموحد المرتقب. ولم يحظ مفهوم الدولة، بأي اهتمام، من قبل المفكرين العرب، في تلك اللحظة من التاريخ.
ظل النظر للدولة القطرية سلبيا، باعتبارها نتاج الهيمنة الغربية، والتأمر على الأمة.
ورأى معظم المفكرين العرب، أن الخروج من نفق التخلف، والأزمة التي عانت منها الأمة، بعد توقيع اتفاقية سايكس بيكو، وإعلان وعد بلفو، لن يتم تجاوزها إلا بوحدة عربية شاملة.
إلا أن حقبة السبعيينات من القرن الماضي، واستمرارا حتى يومنا هذا، شهدت انتعاشا للدولة الوطنية، وبروز المطالبات بتشكلها، على أسس عصرية.
لكن ذلك لم يعزز بأنشطة فكرية واسعة، تعيد الاعتبار لمفهوم الدولة، رغم حيوية هذا الموضوع. إن الانطلاق لتأسيس دولة عصرية، على مستوى الوطن العربي، يتطلب تحديد المفاهيم والأدوات وصياغة الاستراتيجيات، بما يخدم النهضة والبناء العربيين.
​​​​​​​​د. يوسف مكي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

أربعة × 3 =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي