نحو تجديد الفكر القومي

0 173

 

كثيرة هي المحاور التي نوقشت في ندوة “من أجل الوحدة العربية: رؤية للمستقبل”، التي احتضنها مركز دراسات الوحدة العربية، وعقدت بمدينة بيروت في الفترة من 23- 26 فبراير/ شباط، وشارك فيها أكثر من سبعين مفكراً وباحثاً. لقد كانت الندوة ثرية جداً، من حيث الأوراق التي تمت مناقشتها، ومن حيث التعقيبات الرئيسية التي قدمت فيها، وأيضاً من حيث عمق الأفكار التي طرحها المشاركون.

 

 

وما يهم في هذا الحديث، ليس تناول ما جرى في تلك المناقشات، من محاور على أهميتها وحيويتها، فتلك من مهمات مركز دراسات الوحدة العربية، الذي اعتاد نشر ندواته في كتب بعد إعادة ترتيبها وتنقيحها. إن ما يهم هنا هو علاقة ما طرح في هذه الندوة باستشراف مستقبل الفكر القومي، ومشروع الوحدة العربية.

 

وإذا كانت العبرة بالنتائج، كما هي في مأثور القول، فإن الذي لا شك فيه أن المشروع القومي بدأت ملامحه بالتشكل، منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر في بلاد الشام. وقد جاء كرد فعل غاضب على النهج العنصري الذي مارسه الأتراك بحق العرب. وتواصل كفاح دعاته، بعد طرد الأتراك في مواجهة إفرازات الحرب العالمية الأولى، من اتفاقيات ومعاهدات، وضعت المشرق العربي تحت هيمنة قوى استعمارية أشد شراسة وأكثر فتوة، هي قوى الاستعمار الغربي. وفي الخمسينات كانت معظم البلدان العربية قد أنجزت استقلالها السياسي، وتصاعد النضال من أجل تحقيق الوحدة. لكن المشروع القومي لم يتمكن حتى هذه اللحظة، من المضي قدماً في إنجاز مشروعه الوحدوي.

 

إن حالة العجز هذه، كانت من المواضيع الأثيرة لدى عدد كبير من الكتاب والمهتمين، ومن مختلف المشارب والاتجاهات، أعداء وموالين لقضية الوحدة. قيل إن الوحدة مشروع رومانسي، يستند إلى الذاكرة التاريخية، وقيل في المقابل إن الأمم هي نتاج سيرورة تاريخية، وإن عناصر تكونها هي اللغة والجغرافيا والتاريخ، وإن المشكلة تكمن في قوة رسوخ الكيانات المحلية، وتجذر فكرة الدولة القطرية، التي هي نتاج واقع التجزئة، من وجهة نظر البعض، وهي واقع موضوعي، سابق على الاحتلال الأجنبي، من وجهة نظر البعض الآخر.

 

وللأسف لم يخرج الجدل المحتدم، ولا الحوارات الساخنة، حول موضوع الوحدة العربية، والفكر القومي في معظم الأحيان عن المماحكات اللفظية والتصورات الذهنية. وكانت في نتائجها إفصاحاً عن ارتباكات في الأجوبة، كما هي ارتباكات في الأسئلة، وتعبير عن تلازم تهاوي التنظير، في مقدماته ونتائجه.

 

لقد أصبح واضحاً أنه ليس يكفي الحديث عن هجمة كولونيالية، وهي صحيحة إلى حد كبير، في مواجهة المشروع الحضاري للأمة، فتلك من بديهيات المواجهة، والفشل في إدراكها هو كارثة بكل المقاييس. كما أنه من غير المفيد كثيراً الاعتراف بضعف التشكيلات الاجتماعية العربية، وبهيمنة شبكة من العلاقات والكيانات البطركية ما قبل التاريخية، على الواقع العربي، بما يفرض استتباعاً قدرياً، لتلك البنيات، ولتجليات علاقاتها بالخارج. فذلك مهما بلغ في دقة شروحه، لا يخرج عن التوصيف والتحليل، ولا ينقل الفكر القومي إلى دائرة الفعل.

 

صحيح أن عناصر تكوين الأمم الحديثة، التي أشارت إليها الأدبيات السياسية، والتي ارتبطت ببروز الدول القومية، متوفرة في واقعنا العربي. فنحن في الغالب نتكلم لغة واحدة هي العربية، ويربطنا تاريخ واحد، وجغرافيا واحدة، ويجمعنا أن منطقتنا هي منطلق الأديان السماوية الثلاثة، وأن غالبيتنا تعتنق الإسلام ديناً، وتجد فيه مصدراً رئيسياً للتشريع والثقافة، وأحد عناصر المقاومة الرئيسية في وجه محاولات التغريب. وكانت هذه العناصر، مجتمعة أو فرادى قد أسهمت في تجييش العواطف، وخلقت حالات من النهوض والغليان أثناء الأزمات والهزات العنيفة التي تعرضت لها الأمة، مجسدة عمق ومستوى العلاقة ومعنى التلاحم بين الجسد الواحد.

 

كانت الأمة، ولا تزال تنتخي عند كل نازلة لتشد عضد المصاب. وكانت الشعوب تتظاهر في معظم العواصم والمدن العربية الرئيسية، عند كل حدث مزلزل تتعرض له مراكز إشعاعها. حدث ذلك قبيل الحرب العالمية الأولى، وأثناء معارك التحرر الوطني، بين الحربين. وحدث ذلك أيضاً أثناء نكبة فلسطين عام 1948 وأثناء العدوان الثلاثي الغاشم عام 1956 وفي نكسة يونيو/ حزيران عام 1967 وأثناء الغزو “الإسرائيلي” لبيروت في صيف 1982 وأثناء احتلال العراق عام 2003 وخلال حرب تموز على لبنان عام 2006 وأثناء حرب الإبادة على قطاع غزة عام 2009 وفي مناسبات كثيرة أخرى يصعب حصرها. لكن هذه المشاعر الجياشة لم ترق حتى اللحظة، إلى فعل يتخطى الموقف التضامني، وينتقل بالمشروع القومي من موقع الحلم إلى فعل الإرادة.

 

الطريحة التي يمكن أن نخلص إليها، من هذه المقدمة، أن العلاقة الرومانسية، ووجود روابط وجدانية، بين أفراد الأمة، ومن ضمنها كل عناصر ومقومات نشوء الدولة القومية، لا تحتم قيام هذه الدولة، ولا تسهم في التسليم بيقينياتها. والدليل الواضح على ذلك، هو أن الدول القومية الأوروبية، لم تكن بحاجة إلى كل هذه العناصر، لكي تستكمل وحدتها. لقد كان المحرض على الوحدة الأوروبية شيئاً آخر تماماً، مختلف عن هذه المسلّمات والبديهيات، خلاصته بزوغ قوى اجتماعية جديدة، وجدت من مصلحتها كسر الحواجز الجمركية والانطلاق إلى اقتصادات الأبعاد الكبيرة. وتمكنت من كنس كل المعوقات التي وقفت في طريقها. ولم يعد هناك مفر سوى تجاوز البنى القديمة، عشائرية وقبلية ونظام إقطاعي، وقيام دول حديثة على أسس تعاقدية، تم فيها الفصل بشكل واضح بين ما للكنيسة وما لقيصر.

 

وهنا نكتفي في البقية من هذا الحديث بالتركيز على ثلاث نقاط رئيسية، نعتبرها مركزية في مجال تجديد الفكر القومي:

 

* أولاها، تتعلق بالموقف من الدولة القطرية. وكان الموقف منها طوال قرن منصرم، قد اتسم بالعداء والسلبية. ورغم ضعف كياناتها وفشلها في أداء وظائفها التنموية والاجتماعية، فإنها بقيت ماثلة أمامنا، لم تتزحزح، وبقي الحلم الوحدوي مؤجلاً حتى إشعار آخر. مكمن الخلل هنا، أن الفكر القومي قد تخلى عن وظيفة رئيسية من وظائفه التوحيدية، حين غيب مهماته في تحقيق الاندماج الوطني، بين مختلف مكونات النسيج الاجتماعي القطري، ولم يسهم، مع غيره من المكونات السياسية المدنية، ببرنامج عملي في محاربة التوجهات الطائفية والعشائرية والفئوية في البلد الواحد.

 

والنتيجة الموضوعية لذلك هي أن الموقف السلبي من الدولة القطرية أصبح إسهاماً في إضعاف التوجه القومي بدلاً من تقويته. بل إن الواقع العربي، بعد وصول المحافظين الجدد إلى سدة الحكم بالولايات المتحدة أصبح مهدداً بمزيد من التشظي، وأصبحت الدولة القطرية ذاتها، مستهدفة في وجودها، بما يضاعف من صعوبة عملية انتقال مشروع الوحدة من إرادة كامنة، إلى واقع متحقق.

 

إن ذلك يقتضي في أبسط أبجدياته، الانطلاق من الدولة القطرية، كواقع وطني، يبنى عليه، ومن خلاله بالمزيد من التضامن، والمزيد من المشاريع الوحدوية، التي لا تنتقص من الهوية الوطنية، ولكن تضيف إليها. وصولاً إلى تحقيق إجماع عربي على “ما ينفع الناس”.

 

* و”ما ينفع الناس” ينقلنا مباشرة، إلى النقطة الرئيسية الثانية، وهي المدخل الاقتصادي للوحدة. فهذا المدخل، يتعامل مع مشروع الوحدة، ليس بنظرة توق لتحقيق ماض سلف، ولكن باعتباره ضرورة حضارية وتاريخية، للنهوض بهذا الجزء من العالم. وهو يجرد الدعوة الوحدوية من الأهواء العاطفية المحضة، ويضفي عليها طابعاً علمياً. فالاقتصاد، من بين العلوم الاجتماعية، هو الأكثر دقة، ويستطيع أن يتوصل إلى استنتاجات من خلال بناء نماذج وتحليل فكري متقن. وبالتالي، فإن بإمكانه المساعدة على التبشير بأهمية تحقيق الوحدة العربية، بصيغ تتماهى مع روح العصر، وتنقل مشروعها من الاندماج إلى اللامركزية. ومن التماثل إلى التكامل. ومن خلال عملية التكامل الاقتصادي، يصبح الإيمان بالوحدة، ليس مجرد توق معنوي إلى تاريخ وثقافة وتواصل، بل ضرورة حضارية للعرب إذا ما رغبوا في أن يأخذوا مكانهم في مسيرة الإنسانية الصاعدة إلى الأمام. وتصبح الوحدة في هذا السياق، سبيلاً لتحقيق قدر أعلى من التطور والكفاءة الإنتاجية، والنهوض بالمجتمع العربي في كافة المجالات، وعلى جميع الصعد، وتجاوز التشرنق في الهويات السحيقة والمعوقة.. وذلك هو جوهر الوحدة.

 

* النقطة الرئيسية الأخيرة، هي طمأنة الكيانات القطرية، والشعوب العربية، الى أن الوحدة لا تنتقص من حقوقها، بل تضيف إليها، وتلك مسألة أخرى بحاجة إلى المزيد من التأصيل والتفصيل، في أحاديث أخرى، لكن خلاصتها قيام اتحاد عربي، لا تلغى فيه الكيانات، ولا الأنظمة السياسية القائمة، بل يتحقق فيه التكامل التنموي والاقتصادي والسياسي. وبما “ينفع الناس”.

 

eitor@arabrenewal.com

 

اضف تعليق

اسمك بريدك الالكتروني

 

تعليقك:

تعليقات

 

* تعليق #1 (ارسل بواسطة علي مفلح حسين السدح)

 

أقتباس (النقطة الرئيسية الأخيرة، هي طمأنة الكيانات القطرية، والشعوب العربية، الى أن الوحدة لا تنتقص من حقوقها، بل تضيف إليها، وتلك مسألة أخرى بحاجة إلى المزيد من التأصيل والتفصيل، في أحاديث أخرى، لكن خلاصتها قيام اتحاد عربي، لا تلغى فيه الكيانات، ولا الأنظمة السياسية القائمة، بل يتحقق فيه التكامل التنموي والاقتصادي والسياسي. وبما “ينفع الناس) نهاية الاقتباس

بالفعل فأن الوحدة العربية لا تنتقص من حقوق او امتيازات احدا من وان ذلك مجرد تصورات غير صحيحة

اتقدم بالشكر لادارة الموقوع والدكتور

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

أربعة عشر − ستة =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي