نحو تجديد الفكر التنموي العربي
في بداية هذا القرن، عقد مؤتمر فكري، رعته مؤسسة عبدالحميد شومان، بالعاصمة الأردنية عمان، وقد صدرت بحوثه، في كتاب صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر. حمل عنوان حوارات في الفكر العربي المعاصر: الواقع العربي وتحديات الألفية الثانية، شارك فيه نخبة من المفكرين العرب. تناول الكتاب قضايا عدة بينها ظاهرة العولمة، والتنمية، وتجديد المشروع النهضوي العربي، وأزمة الفكر العربي المعاصر.
ورغم أهمية هذه المواضيع، فإن مبحث التنمية، باعتقادي هو الأهم بينها, فالأزمة العربية الراهنة، في معظم تجلياتها، كما نراها تختزل في غياب التنمية الحقيقية بالوطن العربي، وغياب الاقتصاد المنتج، وسيادة الاقتصاد الريعي. فضعف الهياكل الاجتماعية، وغياب نشوء الدولة بشكلها المعاصر، وسيطرة العلاقات البطركية، وتقهقر المشروع الحداثي، كلها تعود أسبابها، إلى حد كبير، في غياب تنمية حقيقية بالمجتمع العربي.
لقد طرح موضوع التنمية بحدة في العالم الثالث، ومن ضمنه الوطن العربي، منذ قرابة سبعين عاما، أثناء معركة الاستقلال، حيث اعتبر وجود الاستعمار في المنطقة، نتاج غياب التنمية في الوطن العربي، وتمكين الاقتصاد الأجنبي من التسلل بسهولة إلى المنطقة العربية، والقضاء المبرم على الصناعات الحرفية، التي كانت سائدة، وسهلت عملية الاحتلال الغربي للبلدان العربية فيما بعد. وكان من نتيجة الاحتلال، استمرار حالة الإعاقة للنهضة العربية، والخروج من نفق التخلف.
إثر نهاية الحرب العالمية الثانية، انقسم العالم إلى معسكرين رأسمالي واشتراكي. ولأن شعوب العالم الثالث، بسبب من إعاقة نموها التاريخي، لم تكن صانعة للفكر، والنظريات الاقتصادية، فإنها انقسمت في رؤيتها للتنمية، تبعا للإنقسام العالمي الحاد، آنذاك.
فقد وجدت البلدان التي استقلت حديثا، أن مهمتها الأساسية، هي التخلص من التركة الثقيلة التي خلفها الاستعمار وراءه، وتحقيق النهوض السياسي والاقتصادي والاجتماعي، والبدء بتنفيذ خطط للتنمية الشاملة. وفي هذا الاتجاه كان الخيار بين نموذجين سائدين… بين سيطرة الدولة على وسائل الانتاج، كما ساد بالمعسكر الشرقي وبين الاقتصاد الحر كما هو في الغرب.
ورغم مضي أكثر من سبعين عاما، منذ بدأت هذه الدول في انجاز استقلالها السياسي، فإنها لم تتمكن بعد، من تجاوز واقع التخلف. وبقي الحال على ما هو عليه. فالمجاعات والأمراض والأمية لا زالت تجثم على صدور الملايين من البشر، في بقاع كثيرة من العالم. والسياسات الاقتصادية ظلت خاضعة لسياسات البنوك الأجنبة والدائنين من الدول الكبرى. والحلم الكبير الذي راود شعوب العالم، بوطن حر كريم، ومجتمع سعيد، تهاوى تحت مأساوية هذا الواقع. لقد أكد الواقع المرير، أن السبل التي سلكت لتحقيق التنمية، لم تقدم الحلول المطلوبة للخروج من مأزق التخلف.
قبل عدة عقود، كانت الصناعة الثقيلة غاية المطلب، وقد تطلب التوجه نحوها، رساميل كبيرة، بما يجعل التنمية عسيرة بالبلدان الفقيرة، من غير حضور اقتصاد الأبعاد الكبرى. ولم يكن بمقدور البلدان الفقيرة، توفير مستلزماته. وقد حال غياب التنسيق والتكامل بين البلدان العربية، دون إيجاد حل لخلق اقتصادات الأبعاد الكبيرة، التي تتطلب نشوء كتل كبرى، قادرة على التناقس في الأسواق المحلية، فضلا عن الأسواق العالمية.
لكن تغيرات مذهلة منذ العقدين الأخيرين، من القرن المنصرم غيرت كثيرا من المفاهيم التقليدية للتنمية، معتبرة أهم عنصر فيها، توفر المعرفة. وجاءت الثورة الرقمية، لتحدث ثورات أخرى، في هذا المجال، ومجالات العلوم الأخرى، بحيث باتت تنمية المعرفة الشرط الأساس، في تغيير الواقع الاقتصادي والاجتماعي في العالم.
وكان من نتائج هذا التحول المذهل، تغير الخارطة الاقتصادية العالمية، والانتقال السريع في رؤوس الأموال، نحو عولمة غير متكافئة، وتغيرات كبرى، في العوامل المحركة للاقتصاد. ودخول بلدان جديدة، وبقوة على خريطة التنافس الاقتصادي وصراع القوة، كالصين والهند. وإيجادة تعريفات جديدة للأمية والفقر والعدل، تتسق مع التحولات الجديدة، التي نتجت عن الثورة الرقمية في العلوم والاقتصاد,
الفكر العربي، مطالب بالولوج بقوة في اقتصاد المعرفة، لأن هذا الاقتصاد بات السبيل للتماهي مع التطورات الدراماتيكية التي شهدها العالم، في العقود الأربعة المنصرمة. لا من تجاوز المثنوية في الرؤية إلى التطور الاقتصادي. ثبت بالدليل أن سقوط الكتلة الاشتراكية، وتفرد النظام الرأسمالي قد جعل الاقتصاد الحر أكثر فتكا وتوحشا.
حان الوقت لنجعل من اقتصاد المعرفة قاطرة للتطور في منطقتنا العربية، من أجل نظام تتحقق فيه الكفاءة الانتاجية، نظام يعزز النمو في كافة المجالات السياسية والاجتماعية، ويكون أكثر رحابة وإنسانية وعدلا.