نحو تأطير نظري لمفهوم المجتمع المدني

0 225

في هذه المرحلة التي ترتفع فيها الدعوة إلى الإصلاح عالية، يكاد المرء لا يجد بيانا سياسيا أو نشرة أو دورية ذات علاقة إلا والحديث فيها يتطرق إلى أهمية دور المجتمع المدني في تحقيق عملية الإصلاح والدفع بها لأخذ مكانها اللائق، بما يتجانس مع الحراك العالمي المتجه نحو الديمقراطية والمشاركة الشعبية في صناعة القرار السياسي. لقد تحدث إصلاحيون ليبراليون في عدد من الأقطار العربية عن ضرورة وجود هذا المجتمع وتفعيل دوره في عملية التطوير التي ترتفع الدعوات باتجاهها على قدم وساق، فكان جواب المحافطين، الذين لا يرون أن بالإمكان تحقيق أفضل مما كان، بأن المجتمع المدني موجود لدينا في المنطقة العربية منذ آلاف السنين. كيف لا ومدينة دمشق قد تجاوز عمرها الخمسة آلاف عام، وهناك مدن أخرى كبيرة، كأم القرى ويثرب والإسكندرية وحلوان والطائف وبغداد والقاهرة والموصل وصنعاء وصفاقس قد تجاوزت من العمر في الحد الأدنى ألف عام، ومن المؤكد أن هذه المدن كانت، طيلة تاريخها، عامرة بالحياة والحركة، وبمختلف أوجه النشاطات الإجتماعية. وإذن فالمجتمع المدني ليس فكرة دخيلة على البلدان العربية، أو وليدة فيها.

 

 

 

ووسط الصخب وضبابية الرؤية تتيه في الزحمة أسئلة مهمة وملحة حول ماهية هذا المجتمع الذي نتحدث عنه وطبيعة الدور المنوط به ، بل ويغيب السؤال عن ما هو بالدقة هذا المجتمع المدني الذي يجري الحديث عنه الآن بقوة في الدوريات والندوات والمحافل السياسية.

 

 

 

وهنا ينبغي القول إن مفهوم المجتمع المدني قد استخدم بمدلولات سياسية واجتماعية، وأنه أيضا تعبير وافد ليس المقصود منه تقرير ما إذا كانت هناك تجمعات بشرية في بقعة ما من الكرة الأرضية اضطلعت بدور هام في صناعة الإمبراطوريات والحضارات التي سادت عبر التاريخ حتى يومنا هذا. إن المقصود على وجه الدقة هو القيمة التي يضفيها وجود هذه الكتل البشرية على صناعة القرار السياسي، وصياغة توجهات الدولة. وعلى هذا الأساس، يتحدد عمق أداء المجتمع المدني من خلال إسهاماته المباشرة وغير المباشرة في العملية السياسية برمتها.

 

 

 

ولعل من الجدير ذكره أن الفلاسفة اليونان، وفي مقدمتهم أرسطو هم أول من استخدم تعبير المجتمع المدني في أدبياتهم. ففي كتابه السياسة ناقش أرسطو دور المجتمع الأثيني في صناعة القرار. لكن أرسطو، على أية حال، كان ينطلق من واقع موضوعي وموقف تاريخي، جعله يقسم المجتمع الأثيني إلى عدة شرائح، يقصر تعريف المجتمع المدني على شريحة واحدة فقط من ذلك المجتمع، هي طبقة الأشراف والنبلاء، أولئك الذين يملكون الأهلية لكي يكونوا مكتملين إنسانيا. أما النساء والعبيد وما أطلق عليهم بالبرابرة فهم لا يحوزون على ذات الأهلية التي يملكها النبلاء والأشراف، ولذلك فهم مستبعدون من العملية السياسية. ودورهم لا يتعدى القيام على خدمة الطبقة “المؤهلة إنسانيا”.

 

 

 

في الثورات الإجتماعية الحديثة الكبرى، وبخاصة الثورتين الفرنسية والإنجليزية تطور مفهوم المجتمع المدني ليشمل شرائح أوسع، ولكنه أبقى على نظام العبودية، ولم يتم تجاوزه إلا مؤخرا، بعد معركة تحرير العبيد التي قادها أبراهام لينكولن في أمريكا الشمالية، والتي كانت في أحد أوجهها تعبيرا عن أفول مرحلة الإقطاع، وانطلاق مرحلة التصنيع في أوروبا وأمريكا بشكل غير مسبوق. وخلال هذه المرحلة أنيط بمؤسسات المجتمع المدني تقاسم السلطة، على أسس طبقية ومهنية ودينية وحرفية. وأعلن الدستور الفرنسي لأول مرة أن الناس يولدون أحرارا، وأنهم أمام القانون متساوون في الحقوق والواجبات.

 

 

 

في الثورات الإشتراكية، بهت دور مؤسسات المجتمع المدني، بالمفهوم الليبرالي طبعا، وأصبح الحزب الطليعي هو الذي يضطلع بمهام قيادة المجتمع والدولة. واقتصر دور الإتحادات المهنية والنقابية والطلابية وبقية المؤسسات على أن تكون تابعة للحزب، وبالتالي للدولة. ومن خلال تغييب دور هذه المؤسسات، وتحويلها إلى أنساخ كاريكاتورية مشوهة، غيبت الحريات وهيمنت أنظمة شمولية في بقاع واسعة من كوكبا الأرضي.

 

 

 

هكذا فنحن حين نتحدث عن مجتمع مدني، لا نتحدث عن مفهوم ساكن غير خاضح لقوانين التطور والحركة، بل عن تشكلات اجتماعية فرض وجودها التطور التاريخي، وأصبح من غير الممكن على صانع القرار تخطي أدوارها.

 

 

 

لكن هناك سؤال آخر لا يقل أهمية، يظل يلح على جواب، هو هل إن دور مؤسسات المجتمع المدني هي دائما إيجابية، وتصب في خدمة التطور والتنمية؟ أم أن الأمر يحتمل مجموعة مغايرة من الأجوبة؟. والجواب يحتمل كثير من التفسير وتأويل، وهو أيضا رهن لشروط موضوعية، ومنوط أيضا بطبيعة الدور الذي تمارسه هذه المؤسسات.

 

 

 

ولكي لا نذهب بعيدا في التنظير، سنأخذ على سبيل الأمثلة لا الحصر، دور بعض مؤسسات المجتمع المدني في الولايات المتحدة الأمريكية. ويمكن أن نختزل هذه المؤسسات إلى عدة فئات، تشكل مجتمعة قوة الضغط على صانع القرار، ولها دورها الذي لا يستهان به في الوصول إلى سدة الحكم. فهناك قوة ضغط العملية ARTICULATE GROUP وتضم كبار الموظفين، وهؤلاء لهم تأثير مباشر على صناعة القرار، وهناك مجموعة المصالح INTEREST GROUP وتضم الإتحادات المهنية كاتحاد عمال سكة الحديد، وعمال النفط ومناجم الفحم، ومزارعي القمح وبقية الإتحادات المهنية الأخرى. وهناك أيضا قوى ضغط أخرى، تتبنى الدفاع عن حقوق أثنية ودينية، يأتي في مقدمتها الدور الكبير الذي تضطلع به المؤسسة الكنسية، واللوبي الصهيوني (الإيباك) في صناعة القرار. وليس سرا، أنه منذ عهد الرئيس هاري ترومان في نهاية الأربعينيات حتى يومنا هذا، وربما باستثناء الرئيس أيزنهاور، لم يتمكن مرشح أمريكي للرئاسة من الوصول إلى سدة الحكم دون مباركة اللوبي الصهيوني، وبمساعدة ودعم من قوى ضغط أخرى.

 

 

 

إن النقطة الجديرة بالتسجيل هنا هي أنه في ظل سيادة مؤسسات المجتمع المدني، فإن من المتوقع أن تتحلق كل شريحة اجتماعية حول بعضها البعض، سواء تكونت على أساس طبقي أو حرفي أو ديني أو إثني. إن المهمة الأساسية لهذه الشريحة هي الدفاع عن منتسبيها، وليس عن المجتمع بأسره. ومن هنا تضيع حقوق الطبقات الدنيا التي لم تنتظم بعد في عملية تأسيس المجتمع المدني، ويصادر دورها.

 

 

 

لقد أدرك عدد من المفكرين خطورة هذا الجانب على عملية صناعة القرار السياسي، فعالجوا ذلك بالدعوة إلى تأسيس أحزاب سياسية، مهمتها طرح البرامج الشاملة، لتطوير المجتمع بشكل أفقي، بحيث تشمل نتائج خطط التنمية القاعدة العريضة من الجمهور. وهكذا تجري العملية الإنتخابية على أساس برامج حزبية يتنافس عليها المرشحون، سواء في انتخابات المجالس النيابية أو الإقتراع على الرئاسة. في الولايات المتحدة، مرة أخرى على سبيل المثال، هناك حزبان رئيسيان يتنافسان على الحكم منذ أكثر من قرن هما الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي. الأول يمثل الكارتلات النفطية وملاك البيوت والطبقة الرأسمالية، والثاني يمثل الطبقة المتوسطة. وبالإمكان عند إدراك ذلك، منذ اللحظة الأولى القول إن الأول يدعو إلى خفظ الضرائب، وتقليل المصروفات على الخدمات الإجتماعية كالسكن والتعليم والعلاج، وأن فترة حكمه في العادة تكون مصحوبة بانكماش اقتصادي، في حين يدعو الآخر إلى نقيض ذلك تماما، إلى زيادة في الضرائب وإنفاق، وزيادة في عدد موظفي الدولة، وزيادة في الإنفاق على الخدمات والتأمينات الإجتماعية، من صحة وتعليم وسكن. هنا يبدو أن شريحة ثالثة مغيبة تماما عن العملية الإنتخابية وعن برامجها، رغم أنها نظريا مشمولة بهذه العملية، هي الشريحة الدنيا في المجتمع. وهذه بحكم طبيعة تكوينها الإجتماعي وأوضاعها الطبقية، لا تملك من المؤهلات المالية والعملية ما يجعلها قادرة على التنافس للوصول ببرامجها إلى سدة الحكم. وهكذا في أعرق الديمقراطيات يتم تداول السلطة بين شريحتين الأولى في أعلى سلم الهرم الإجتماعي والثانية في الوسط منه، ويغيب دور الشريحة الدنيا في الهرم، وهي الشريحة الأعرض والأعظم. وفي طغيان الصراع بين هذه الشرائح، يبهت دور الحزب السياسي، وتصبح برامجه مجرد أصداء لإرادات وافدة من هاتين الشريحتين.

 

 

 

وهكذا تصبح العملية السياسية برمتها في كل الحالات في أوضاع لا تحسد عليها، فالمجتمع المدني إما مهمش تماما كما هو في الأنظمة المحافظة والشمولية، بحيث يصبح القائد الفرد أو الحزب الطليعي هو البديل عن مؤسسات المجتمع المدني، أو أن تلعب هذه المؤسسات دورا حرفيا، يكسب فيه الصراع أحد الشرائح الإجتماعية، ويغيب فيه حقوق الشرائح الأخرى، ويبهت دور البرنامج السياسي والتنموي الشامل، لتحل محله برامج فئوية، تختزل المجتمع في مصالحها الذاتية ونزعاتها الأنانية، وتغيب حقوق المجتمع بأسره. هل من سبيل لمعالجة هذه الثنائية، وكيف يتحقق ذلك؟ ذلك ما سوف نحاول مناقشة في أحاديث أخرى بإذن الله.

 

yousifsite2020@gmail.com

 

 

 

 

 

 

 

 

د. يوسف مكي

تاريخ الماده:- 2005-04-27

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

اثنان × 3 =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي