نحو بناء تربية المستقبل
د. يوسف مكي
عنوان هذا الحديث كان تصديرا للكتاب الموسوم بـ التربية في البلاد العربية حاضرها ومشكلاتها ومستقبلها تأليف الدكتور عبد الله عبد الدائم. كان هذا الكتاب قد صدر في بداية عام 1979. وقد دعى الكاتب في تصديره العرب أن ينضوا عنهم بنية التخلف، التي خلفتها عصور طويلة من ركود الحضارة ومن غلبة القوى الأجنبية الدخيلة، ومواجهة التحديات واللحاق بالعصر، وصياغة مستقبل منطلق متعدد الأبعاد، يشمل شتى جوانب الحياة، مؤكدا على أن محور الجهد يجب أن ينصب على تنمية الموارد البشرية.
جالت مواضيع هذا الكتاب، بتحليله العميق والرصين، في خاطري وأنا أحاول صياغة بعض السطور لهذه الدورية الغراء. وفي الحال استحضرت ذاكرتي تقريرا كنت قد قرأته في أوائل الثمانينيات من القرن العشرين يشير إلى أن البشرية قد أضافت من إنجازاتها وإبداعاتها بالخمسين سنة المنصرمة، منذ عام 1930 حتى عام 1980 ما يعادل الضعف، وقد ورد نص التقرير في كتاب البديل، للمفكر الفرنسي روجيه جارودي. أي أن تاريخ البشرية المعروف لنا، منذ نشأة الكون، قد تضاعفت إنجازاته خلال خمسين سنة الأخيرة فقط. كان كتاب الدكتور الدائم والتقرير الذي أشرت إليه قد صدرا منذ سبعة وثلاثين عاما. وخلال هذه الفترة، سالت على السطح مياه كثيرة، وتغيرت صورة العالم بشكل كبير ومثير.
انتهت الحرب الباردة، وانتهى معها النظام العالمي الذي ارتبط بنتائج الحرب العالمية الثانية، وبلغ الكشف الإنساني في مجالات الفضاء آفاقا واسعة، وحط الإنسان أجهزته ومختبراته في مدارات وكواكب جديدة. واختزلت المسافات، وتواصل التطور العلمي، وبلغ مناطق غير مسبوقة، محدثا ثورات جديدة في مجالات التقانة والإتصالات والبيولوجيا، ونشطت حركة الإبداع الفني والثقافي مستخدمة أساليب وأدوات جديدة. أصبح الحاسب الآلي في كل بيت، ومعه دخل الإنترنيت والبريد الإلكتروني، والقنوات الفضائية، من كل المسارب والإتجاهات. وجرى لأول مرة في التاريخ رسم خارطة بيولوجية للإنسان، وتم استنساخ الحيوانات.. وعلى الصعيد العسكري، حدث تطور هائل في مجال الأسلحة الموجهة والإلكترونية وحرب النجوم. والثورات الإنسانية، في كافة المجالات، رغم هولها وقوتها، لم تزل في بدايتها بعد. ونحن لازلنا نبحث عن مواضع لأقدامنا.. بل وعن بوصلة تضيء لنا عتمة ما نحن غارقون فيه من الظلمة والضياع وهدر للكرامة والحقوق.
كيف لنا عربيا، ومن الموقع التربوي أن نتجاوز واقع الحال، وأن نلحق بركب التطور الذي يحاصرنا في جميع المواقع. وكيف يتأتى لنا الإنتقال من استهلاك منتجات الحضارة الإنسانية، إلى المساهمة في صنعها؟ كيف.. وكيف وكثيرة هي الأسئلة التي تلح على العقل والوجدان، محرضة على الخروج من المأزق الراهن، مأزق التطفل على الحضارة والبقاء في الهامش منها.
هذه الكيف، تتطلب منا في المقام الأول موقفا شجاعا وجريئا مع الذات. ذلك لأن من غير الممكن اقتحام هذا العالم، وأخذ المكان اللائق فيه، دون مواجهة لأنفسنا… ودون قراءة نقدية وعملية تفكيك معمقة لأسلوب حياتنا وأنماط تفكيرنا، والوعي بحقيقة موقعنا الراهن في وطننا الغالي، وفي المنظومة الإقليمية التي نرتبط بها بحكم الجوار والعادات والأواصر المشتركة، وضمن الأمة العربية التي ننتمي إليها في اللغة والثقافة والتاريخ والدين والمعاناة، وأيضا ضمن العالم الفوار والمتحرك، الذي نشاطره العيش المشترك على هذا الكوكب.
لا بد من الإعتراف بأننا جميعا نعيش أزمة حقيقية بين افكارنا وممارساتنا، ولم نتمكن بعد من تحقيق مصالحة بين معتقداتنا وسلوكياتنا. فنحن لا نزال نفكر خارج التاريخ، بمعنى أن فكرنا ونمونا الذهني قد تكلس وأصبح عاجزا عن مجارات ما يحدث من حولنا من تطور نوعي في مجال المعرفة والفكر. أقول خارج التاريخ لأن التاريخ هو التوثيق لنبض حركة الإبداع والإنتاج، وهو الذي يحدد من خلال رصده الدقيق اتجاه بوصلة المستقبل. ومن دون حركة وعطاء وخلق لا يوجد تاريخ بالمعنى الصحيح. وبالمثل لا يوجد تعاط إيجابي مع الجغرافيا، لأن دورنا في التعامل معها دور المتلقي لا الصانع. إن غياب الموازنة في العلاقة بين الزمان والمكان قد أوجد غربة سحيقة، وانفصاما مرا جعلنا نعيش على الهامش من الزمان والمكان، ومجازا خارج التاريخ والجغرافيا، رغم أننا نعيش في القلب منهما.
ففي الجانب الثقافي، على سبيل المثال، هناك البنية البطركية، بكل مكوناتها القبلية والطائفية والعشائرية والمناطقية، وما يحمله هذا التركيب المجتمعي من عادات بالية وتقاليد عفا عليها الزمن، وتشكل هذه العناصر مجتمعمة سدا منيعا وكاسحا يحول دون كسر العلاقات الإجتماعية القديمة والخروج من شرنقتها.
ففي البيت يسود نظام الطاعة بكل قوته وجبروته، وينمو الطفل تابعا فاقدا للإستقلال والإرادة، حيث يكون قد غرست فيه نزعة الإنطوائية والإتكالية وقتلت فيه روح العطاء والإبداع، بعد أن أصبح تابعا بالمطلق لتقاليد منزله. وما أن يشب عن الطوق، ويدخل أبواب المدرسة، حتى يواجه بنظام طاعة آخر أقسى وأعتى وأكثر صرامة من ذلك الذي يواجهه في المنزل. إن نظام ومناهج التعليم في مدارسنا لا يختلف كثيرا عن تلك الأعراف والتقاليد التي ينشأ عليها الطفل داخل منزله، والتي تكرس فيه نظام الولاء والتقليد والجمود والطاعة. وهكذا يتكرر الحال، بالنسبة لأجيالنا الجديدة في دورات ميكانيكية متعاقبة، وفي إيقاع مستمر يتصف بالحوصان والدوران يتواصل معه الصخب، ولكن التاريخ، يبدو فيه متوقفا، غير قادر على التحرك إلى الأمام. وعند التخرج يواجه جيل المستقبل بحقائق أكثر مرارة وتعقيدا، يدخل ضمنها المحسوبية والواسطة والوجاهة والحسب والنسب.
إذا كان علينا أن نتجاوز واقعنا المزري الراهن، فيجب أن نعترف، دون مواربة ليس فقط بقوة ورسوخ العناصر التي تكرس التخلف في ثقافتنا، ولكن أيضا بقوة حراسها والمدافعين عنها. إن هناك أفرادا ومؤسسات قد عاشوا لفترة طويلة يقتاتون من هذا الواقع ويعيشون عليه ويرون في التعرض له مواجهة مع المقدس.. إن التخلف بالنسبة لهم هو “الحق الإلهي” الذي تهون في سبيل بقائه كل التضحيات. وسوف يستخدمون في ذلك كل الأسلحة بما في ذلك توجيه تهم الهرطقة لكل من ينشد التمدين والتحديث والتطوير وبحق كل من يدعو إلى الحرية وسيادة نهج التسامح والإبتعاد عن التكفير.
في وضع قاتم كهذا يسود الجهل وضحالة الفكر وتقديس الخرافة والتمسك بالجامد من النصوص، وتقفل أبواب الإجتهاد، وتحدث قطيعة معرفية مع العالم. وتلك للأسف تشجع على التعصب وسيادة نهج التكفير وانتشار ثقافة الرأي الواحد، وتغيب روح التسامح وتسد أبواب الحرية، ويسفه العلم الحق والعمل الحق. ومع حالة التداعي هذه، لا تبقى سوى واحدة من ثقافتين إما واحدة تذهب بعيدا في عمق التاريخ، مستمدة قوتها منه، كي تستمر وتدافع عن تكلسها، أو أن تغترب في المكان فتبرز ثقافة السوق وتنتشر الأعمال الهابطة، مهيمنة على كافة مجالات الفنون والأدب والفكر.
وفي ظل واقع مرير كهذا، تتراجع البصمات الجميلة والأصيلة من عطاءاتنا وإبداعاتنا وتتعطل عملية الخلق، ويسود خواء ساحق، وانفصام مر وقاس، ويغدو الفصل محتما بين الماضي والمستقبل… يصبح الحاضر معلقا، بين ماض راكد سحيق لجأت إليه الأمة كعامل رئيس في حيلها الدفاعية ومقاوماتها لتأخذ مكانها في عالم لا يسلم إلا بلغة القوة، وتنتفي فيه مقاييس الحق والعدل، وبين مستقبل تائه فقدت فيه الرؤية والهوية وعناصر القوة، وأصبح الفرد فيه يعيش حالة افتتان وانبهار بآسره.
ولكي ينتصر مجتمعنا في معركته مع التخلف يجب أن تكون نقطة البداية إحداث تغيير جذري وجوهري في المرتكزات الثقافية، وأن يتجه التغيير، في كل الأحوال، إلى المستقبل… إلى الأطفال، إلى الأجيال القادمة.. إلى العناصر التي يفترض فيها أن تساهم في صناعة ربيعنا الواعد وغدنا الأفضل. نحن بحاجة إلى أن نلغي نظام الطاعة من مناهجنا الدراسية، ونضع بدلا عنه نظاما قائما على الإحترام والفهم المتبادل. لا بد من كسر حاجز الخوف من الكشف لدى أجيالنا الجديدة، وأن نشجعهم على اقتحام تجربتهم الخاصة وتعلم العلم الحق والقول الحق.
لا بد أن تركز المناهج الدراسة على العلوم التطبيقية، والمعامل التجريبية، واستيعاب روح العصر، والتشجيع على المبادرة والإبداع، وإيجاد الحوافز التي تشجع على الإختراع والإبتكار. ويجب أن يمحى من مناهج التدريس كل الإيماءات التي تروج للخرافة والدجل والجهل.
وبنبغي أيضا إعمال الفكر، والقبول بالرأي والرأي الأخر، وفتح أبواب الإجتهاد، وسيادة آفاق الحوار الهادف والبناء، وإعداد الأجيال الجديدة على القبول بالحق في الإختلاف.. واعتماد المناهج الحديثة في التعليم، من أجل خلق جيل واع قادر على المساهمة في الركب الصاعد لمسيرة الإنسان. وقديما قال أجدادنا “العقل السليم في الجسم السليم”.
التعليقات مغلقة.