نحو إصلاح جذري للنظام الاقتصادي العالمي
لا بد من العمل على تحجيم تبعية بلدان العالم لمركز اقتصادي واحد. فقد رأينا خلال الأسابيع المنصرمة النتائج الكارثية التي ترتبت على ارتباط أمم العالم بالاقتصاد الأمريكي. لقد أعلنت مجموعة من البنوك في أوروبا وآسيا عن إفلاسها، وانهارت أسواق البورصة في جميع بلدان العالم، ومن ضمنها وطننا العربي، وتراجعت بشكل كبير أسعار النفط الخام، لما يقترب من الثمانين دولاراً للبرميل الواحد. وخسر الناس العاديون جدا، مصادر قوتهم وما حصلوا عليه بكدهم وعرق جبينهم. إضافة إلى ذلك، فإن العالم أجمع مهدد بسيادة حالة كساد قاسية، لا يستبعد أن يطل منها شبح الفقر والجوع على أجزاء كبيرة من كوكبنا الأرضي.
ولذلك فإنه بالقدر الذي نتطلع فيه إلى قيام نظام عالمي سياسي جديد، متوازن ومتعدد الأقطاب، فإننا نتطلع بنفس القدر إلى قيام نظام اقتصادي عالمي متوازن لا يكون صنع القرار فيه حكرا على دولة واحدة، مهما تعددت قوتها، نظام أكثر قوة ونزاهة وعدلا.
إن ذلك يستوجب في أبسط أبجدياته إعادة النظر في مختلف الأهداف التي بشرت بها الإدارة الأمريكية بقوة، بعد نهاية الحرب الباردة، وتفردها بصناعة القرار الأممي، وبضمنها إعادة النظر في المفهوم الرأسمالي الاقتصادي، بكل تفاصيله. فقد أثبت هذا النظام عدم فاعليته، وافقتاره القدرة على تضييق الفجوة بين الدول الصناعية المتقدمة والعالم الثالث. وكانت نتيجة تراكم أخطائه لجوء منظريه إلى رأسمالية الدولة، وهي خطوة طالما اتهمت الأنظمة الشمولية والشيوعية باحتكارها، فإذا بها الآن تصبح الحل السحري الذي يتبناه دعاة تحرير الاقتصاد وتحرير السوق، من عتاة الليبراليين الجدد، كمنقذ لا مفر منه لعبور الأزمة.
ولا شك أن إعادة النظر في هيكلة الاقتصاد، في بلدان المركز، بإعادة الاعتبار للتدخل المباشر للدولة في إدارة شؤون الاقتصاد يستوجب المراجعة وإعادة النظر في الأساسيات التي ارتكزت عليها منظمة التجارة العالمية (الجات)، انطلاقا من القول المأثور: ما بني على باطل فهو باطل. فقد انطلقت منظمة الجات من ذات الأفكار التي بشرت بها الإدارة الأمريكية، بعد تفردها على عرش الهيمنة العالمية، وفي مقدمتها كسر الحواجز الجمركية وتحرير التجارة، وجملة أخرى من الشروط التي تصب في اتجاه المزيد من المكاسب والأرباح للدول الصناعية، ولمجموعة الثماني دول بشكل خاص, كما يتوجب العودة عما أصبح معروفا بالشرق الأوسط الجديد، وقد نشرت تفاصيله في وثيقة صدرت في حينه، وجرت ترجمتها إلى العربية، وتناولت نصوصها عدة صحف عربية، وكلها تصب في اتجاه تحرير التجارة، وربط الاقتصاد العربي مباشرة بالكيان الصهيوني، وبالدول الصناعية في أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية. ولا تختلف في بنودها عما طرحته بنود منظمة التجارة الدولية إلا من حيث تركيزها على تحقيق اندماج الاقتصاد العربي بالاقتصاد الصهيوني.
ومن جانب آخر، فإن لجوء الإدارة الأمريكية، ومعها معظم دول أوروبا الغربية واليابان والدول الآسيوية إلى حلول كانت حتى وقت قريب تعتبر فرية، وجريمة غير مقبولة، تمثلت في تأميم البنوك وضمان ودائع المستثمرين، وشراء القروض غير العاملة يقتضي إعادة التفكير في دور الدولة في عملية الاقتصاد، بدلا عن الإصرار في إنكار الدور الإيجابي الذي يمكن أن تضطلع به لصالح تأمين مصالح وحقوق الناس.
لقد انهار الخيار الاشتراكي، لأنه شل فاعلية الإبداع والحوافز والمبادرة، وأديرت عملية الاقتصاد فيه من خلال جهاز بيروقراطي فاشل وكسول. وقد انهارت أنظمته بفعل عفنها وشيخوختها. لكن النظام الرأسمالي بطريقة تطبيقه، ووفقا لأولريخ تيلمان نائب مدير معهد أخلاقيات الأعمال التجارية في جامعة سانت غالن السويسرية، أثبت أنه متوحش وغير عادل. وقد أثبتت الأسابيع الأخيرة أنه يفوق في خزيه كل وصف. ففي العقود الأخيرة اكتسبت الأسواق المالية نفوذا هائلا أدى إلى سيادة نمط من عدم المساواة. بنت هذه الأسواق كازينوات ضخمة سمحت بها السلطات التنظيمية، بل وشجعتها كذلك، وكانت النتائج خسائر كبيرة سيفرض على دافعي الضرائب من المواطنين العاديين تسديدها.
إن الأزمة الحالية، من وجهة نظر تيلمان ترقى إلى مستوى الفضيحة. إن الحلول التي جرى تبنيها من قبل الإدارة الأمريكية والدول الأوروبية، من كما يرى عدد من المحللين الاقتصاديين هي حلول غير واقعية، وهي أشبه باللجوء إلى تدريبات مكافحة الحرائق لمنع أزمة اقتصادية عالمية. إن كون رأس المال ليس مجرد لعبة بين أيادي حملة الأسهم، بل يرتبط بالاقتصاد الحقيقي، أي إلى سوق الائتمان، يجعل بقية الناس رهائن بطريقة ما، لحركة أسواق البورصة. وربما تكون الخيارات التي تم اللجوء لها مقبولة بشكل مؤقت، لكن ينبغي الحذر من الركون لها باستمرار إلى ما لا نهاية. إن ترك الحبل على الغارب، سيؤدي إلى مبادرة جميع العملاء إلى سحب مدخراتهم، ومن شأن ذلك أن يعيد كارثة عام 1929، لذلك يغدو بديهيا أن تتدخل الدولة وتعلن ضمانها لتلك الأموال.
ويرى اختصاصيون آخرون أنه ينبغي إقامة نظام محاسبة عادل، لا يسمح بالنصب أو الاحتيال، ولا يتيح لمدراء البنوك وصانعي القرار ممارسة سلوكيات من شأنها أن تؤدي إلى أزمات اقتصادية حادة، كما حدث مع أزمة الرهن العقاري، في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا. وفي هذا السياق، لا مناص من إعادة الاعتبار للأعمال التجارية المرتبطة بالعمل، وليس بتداول الأوراق التجارية. إن من شأن ذلك أن يحد من الجري الجشع وغير المسؤول خلف الربح أو المكافأة. إن السبب الأعمق للأزمة الحالية هو الثقة غير المحدودة وغير المتحسبة بالسوق، واقتناع البعض أنه كلما ازداد الجشع، كلما كان ذلك أفضل. ولا يرى هؤلاء مانعا من خَصخَصة الأرباح الطائلة لسنوات طويلة بين قلة من المُنتفعين، بينما تتحمل الغالبية من الناس تحمّل الخسائر. هذه المفاهم ينبغي أن تتغير وأن تتغير المناهج التعليمية التي تشجع عليها بشكل جذري، وأن يعاد صياغتها بما يحقق التكافؤ والعدل.
ومن جهته يرى ألكسي كودرين، نائب رئيس الوزراء ووزير المالية الروسي، أن هناك ضرورة للتمسك بتحرير الاقتصاد، لكن ذلك لا يعني عدم الأخذ بعين الاعتبار أن الأزمة المالية العالمية الحالية تقتضي تكبير دور الدولة في المجال الاقتصادي.
وإذا كان إصلاح النظام الاقتصادي العالمي قد أصبح مطلبا ملحا في الدول الصناعية المتقدمة، أو ليس جديرا بدول العالم الثالث، وبضمنها الدول العربية، أن تعيد النظر في سياساتها الاقتصادية، بشكل يحقق التوازن بين مفهوم الحرية الاقتصادية وتلبية المتطلبات الأساسية لمواطنهيم، دون خضوع لمشاريع الهيمنة التي تجري محاولة فرضها من الخارج.