نحن وإيران
بعض الردود التي وردت على المقالات التي نشرتها، متناولة الأزمة الإيرانية المحتدمة، حملت أسئلة لجوجة عن سر الاهتمام بما يجري في داخل إيران… هل حلت جل المشاكل المستعصية في منطقتنا، ولم يعد لدينا ما يشغلنا سوى مشاكل إيران؟!. وهل تخدم قضية الأمة أن تخسر أصدقاءها وتوسع من دائرة أعدائها، وتوجه بوصلة الصراع، إلى جهة إيران، بينما الصراع مع الصهاينة يتطلب تحشيد جهود العرب والمسلمين لاستعادة الحقوق والمقدسات؟!
الأسئلة بالطريقة التي طرحت، رغم ظاهرها المنطقي، حملت نفسا تحريضيا وانحيازيا، رقى عند البعض إلى الشبهة في النوايا التي توجه التركيز على شأن من خارج المكان… خارج شؤوننا الخاصة. وذهبت بعض الردود إلى أكثر من ذلك، فاعتبرت الأحاديث المنشورة تدخلا في شؤون داخلية لبلد مسلم مجاور، تقتضي المصلحة ومبدأ حسن الجوار، أن نخاطبه دائما بالحسنى. ورأى آخرون فيما كتب شماتة وضغينة واضحة على الجمهورية الإسلامية.
والواقع أن ما طرح من تساؤلات وتعليقات سلبية، حول أسباب الاهتمام بالموضوع الإيراني، هو من نسج خيالات الذين طرحوها. وتناول الموضوع الداخلي الإيراني، من وجهة نظرنا، بالقراءة والتحليل والتفكيك، في جوهره ملح ومشروع، ومناقشته ليست من باب الرياضة الذهنية، والترف الفكري.
فإيران ليست في صحراء التبت، من حيث بعد المسافة، وليست أيضا بـ “واد غير ذي زرع”. فقد شاءت حقائق الجغرافيا والتاريخ أن نكون على صلة مباشرة بما يجري فيها ومن حولها، كما شاءت حقائق الجغرافيا والتاريخ أيضا، أن تكون علاقتنا بها في معظم الأحيان، علاقة متوترة رغم التشابك الديني والثقافي، والتلاقح الحضاري. ولسوء الحظ، فإن ثقل التاريخ وحضوره القوي وإسقاطاته، ما زالت حتى هذه اللحظة، تحكم سلوك النخبة الحاكمة في إيران، على اختلاف توجهاتها ومساربها، كما تحكم تشعباتها والقوى التي تستمد حضورها من مرجعية قم. وحين نقرر ذلك، لا ننطلق من موقف شوفيني أو رؤية عنصرية، لسبب بسيط هو أن ثقل التاريخ، كما نراه، لم يكن عبئا على مسيرتنا الحضارية، ولا على مواريثنا أو منظوماتنا الثقافية والفكرية، بل كان أثناء العصر الذهبي للعرب والمسلمين، مع جملة أخرى من العناصر، عامل إثراء وتخصيب للنهضة العربية. لم يكن ذلك هو الحال، بالنسبة لبلاد فارس، فقد كانت تجليات النهضة العربية، وتوتراتها وتفاعلاتها، عوامل تذويب وتضعضع للإرث القديم، وللتركة الساسانية.
كانت ردة فعل الشعوب الفارسية، عندما اقتحمت جيوش المسلمين بلادهم في معركة القادسية، بقيادة الصحابي الجليل، سعد بن أبي وقاص هي القبول “عنوة” بالإسلام، ورفض العربية. وقد أسست تلك البداية، لقيام أكبر متراس بشري مانع، حال دون الامتداد الجغرافي للأمة العربية باتجاه الشرق، مع أن الإسلام وصل إلى السند وحدود الصين في ذلك الاتجاه.
وتبدو المقاربة أكثر وضوحا، حين نستحضر ما حصل للجيوش العربية الفاتحة، التي اتجهت شمالا حيث وصلت إلى أضنة، قريبا من هضبة الأناضول. وأيضا وبصورة أقوى، ما حدث للجيوش المتجهة غربا، من مصر وعبرها إلى بلاد المغرب. فقد تم تعريب جميع المناطق التي اعتنقت الإسلام، وصولا إلى جبل طارق، بل وصلت تلك الفتوحات إلى الأندلس، التي تعربت أجزاء كبيرة منها، وبقيت كذلك لعدة قرون. وبالمقابل تعطلت عملية التعريب شرقا عند أبواب فارس. كان التصادم مريرا بين عراقة حضارية ساسانية، وبين الجيوش الفاتحة، لدرجة جعلت عملية الفتح، من أطول الحروب الجهادية التي قام بها العرب أثناء خلافة أمير المؤمنين، عمر بن الخطاب، وأكثرها ضراوة. وقد تركت عقدة التفوق حاجزا نفسيا كبيرا، بين مواريث الإمبراطورية التي غربت، والحضارة التي أشرقت شمسها. وترك ذلك بصماته واضحة في نزوع استعلائي مستمر، وصدامات متتالية، أسهمت في دحر الحقبة الأموية، وقيام الخلافة العباسية، وأيضا في صراعات متتالية، أثناء تلك الحقبة، بدءا من أبي مسلم الخراساني، واستمرارا بالبرامكة، إلى مصرع الخليفة الأمين بن هارون الرشيد.
لم يكن ذلك الموقف، على أية حال، خروجا على نواميس الكون، فالأمم كما يرى المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي، حين تواجه بهزائم وتحديات، تستنهض إرثها ومخزونها الحضاري، ويصبح استمرار وجودها، مرتبطا بالشعور بالتحدي، وبنوعية الاستجابة والتحفز المطلوبين لاستمرارية الحضور التاريخي.
لن نستغرق بعيدا في التاريخ، ولن نتابع صفحات الصراع الصفوي العثماني، وإسقاطاته على المنطقة. والمؤكد أن الأجدى، هو تناول الحاضر، والانطلاق منه أملا في أن يتجاوز الجميع عقد التاريخ، وأن يسلموا بأن تركة التاريخ، ينبغي ألا تكون على حساب استحقاقات الجغرافيا، وأن عدم التدخل في الشؤون الداخلية، هو غاية المطلب شرط أن يكون ذلك هدفا للجميع، لا أن يكون ذريعة للمزيد من التدخلات.
ولا يذهبن بنا الظن أبدا، في التصور بأن تآكل الأطراف ليس له تأثير على العمق الاستراتيجي للأمة. وإذا اعتبرنا ذلك مسلمة وبديهية، فإيران الآن تسهم بامتياز في تآكل أطراف الأمة، وتعتدي على القلب منها.
فهي على سبيل المثال، تحتل أرضا عربية، يعرفها العرب أحيانا بالمحمرة وأحيانا بالأحواز، تضم مدنا عربية عدة، كعبادان والحويزة والأحواز والمحمرة. وهذا اللواء هو بحجم ثلاثة أضعاف فلسطين، وسكان يتجاوزون ستة ملايين من العرب. كما تحتل جزرا عربية: أبو موسى وطنب الصغرى والكبرى، وتتدخل في كل شاردة وواردة في العراق الشقيق، منسقة مع قوات الاحتلال الأمريكي، ومسهمة عن عمد في تشظيه وتفتيته. وتروج أيضا لمشاريع التفتيت الأمريكية، في المنطقة من خلال إحلال الانتماءات الطائفية، بديلا عن الهويات الوطنية. وتخلق في هذا المضمار، بؤرا للفتنة في اليمن والمغرب والجزائر ومصر ولبنان وسوريا والسودان وتونس ومنطقة الخليج العربي. كما تقوم بصناعة معارضات عربية، على أسس طائفية وإثنية، مهددة أمن الوطن العربي واستقراره، عدا عن تدخلاتها الفاضحة في بلدان إسلامية أخرى غير عربية، كأفغانستان.
في المقابل، لا يحتل العرب سنتيمترا واحدا من الأراضي الإيرانية، ولا يتدخلون في شؤونها، مهددين أمنها واستقرارها. وليس في إيران، معارضة واحدة تحتمي بأي نظام عربي. والجميع في الطرف العربي ينشد الأمن والسلامة. ولا يطلب العرب من إيران، أي شيء سوى أن ترفع أيديها عن التدخل في قضاياهم، وتحترم اختياراتهم السياسية وحقوقهم التاريخية. ورغم أنها مطالب بسيطة جدا، فإنها أمام نزعة الاستعلاء وأطماع التوسع لا تزال بعيدة المنال. نناقش ما جرى ويجري في إيران، لأن لذلك تأثيراً مباشراً على أمننا واستقرارنا. ولسنا في وارد تقرير ما ينبغي أن يكون، ولن يكون علينا سوى احترام خيارات شعوب إيران وإرادتها، شرط ألا تكون تلك الخيارات على حساب حقوقنا وأمننا. ونتطلع إلى علاقات متكافئة، واحترام لمبادئ العدل والقانون، وشرعة الأمم. ولن نكل رغم ثقل التاريخ وإسقاطاته عن التطلع إلى تعاون مثمر بين أمتنا وبين كافة الشعوب المجاورة حين تختار السلام ولغة الحوار، بديلا عن لغة التهديد والقوة وفرض سياسة الأمر الواقع.
اضف تعليق
اسمك بريدك الالكتروني
تعليقك:
تعليقات
* تعليق #1 (ارسل بواسطة um zainab)
كنت احترم هذا الموقع…كنت أقول هناك عربي ترفع اخيرا وعفي من عقدة الجاهلية العربيه…ولكن للأسف اكتشفت بأن عقدة التفوق الفارسي على مر التاريخ والي يومنا هذه مازالت مستشريه في اعماق اعماق خلايا وجينات ذراري ابي سفيان وعتبه والوليد وعتبه والعباس وابي جهل…
هل راجعت مقالك قبل نشره…لا اتوقع ذلك…من هؤلاء العلماء المسلمين الذين برزوا في كل مجالات العلوم الانسانيه…كم كان عدد العربي منهم…نحن نشير اليهم بالمسلمين افتخارا بالاسلام وانتم تصرون انهم اغلبيتهم عرب..
ثم تصر كغيرك من الجهال على الحقبة الصفوية والعثمانية…وتنسون الى اي درك وصلت الخلافة العثمانية بسبب فساد حكامة مثلهم مثل الحقبة الاموية والعباسية ومن كان يتآمر على من بسبب الدنيا الزائله…ارجوك ان تراجع مراجع “معتبره” عن سقوط الخلافة العثمانية والدسائس السعودية وغيرهم وافعل نفس الشيء عن الحقبة الاموية والعباسية الفاسدة…لا يستاهل هذا الموقع ان ابذل فية وقت طويل لفضح حقائق انت اعلم بها منا ولكن هي العصبية القبلية الجاهلية الملبسه باسلام ظاهري لا غير…
فوبيا الفرس كان ولا زال في نفوس مريضة ضعيفة بسبب الصعود في مجالات العلوم والتقدم التقني والحضاري والانساني وحتى الحقوقي والاخلاقي والديني…ظهر الاسلام في العرب…ولكن ترعرع وازدهر وانتشر من الفرس وهم من يحافظون على الاسلام المحمدي وليس الاسلام الوهابي والارهابي راجع كتبك ان كنت تملك منها شيء لتتأكد وانا أعلم بأنك تعلم أكثر مما أعلمه انا…
ثم اذا كان الفرس دخلوا الاسلام عنوة فمابالك بالطلقاء من ابناء ابي سفيان وذراري غيرهم..وهم من غيروا وابدعوا ودسوا وبدلو في الاسلام المحمدي الذي لو بقي كما نزل منذ يومهم لكنا نتربع على العالم اليوم..ومابالك بالمنافقين ومن دخل الاسلام طمعا بالدنيا الزائلة…والقران يفضحهم ويخاطب الرسول انت لا تعلمهم نحن نعلمهم…وها هم ابنائهم ينشرون سمومهم في المنتديات وهم من شوهوا الاسلام امام العالم…
واذا كانت ايران تسهم في تآكل اطراف الامة اذن انت اعمى واصم ولا تعيش في حكومات العرب او تتعامى عن الدرك الاسفل الذي وصلنا اليه نحن من نعيش تحت امرة حكومات فاسدة تنخر في كل شيء حي في دولنا وتتآمر على الاراضي والسيادة والموارد العربيه…ارجوك نحن نعيش في عالم صغير نرى ونسمع ونحلل فكفوا عن حجج واهية عريقة في التاريخ منذ الازل تجملون فساد السلطة لدنيا زائلة ونحن نسير الى حساب وكتاب ورب لا يسهو ولا ينسى شيء من اعمالنا وهناك الخسران المهين لمن جمل عمل الظلام لمصالح دنيوية امام رب عادل يوم لا ينغع مال ولا بنون الا من اتى الله بقلب سليم…