ميليس: كشف للجناة أم تحضير للعدوان؟!
وخلال هذا الأسبوع (20 أكتوبر)، قدم ميليس، تقريره إلى مجلس الأمن الدولي. خلص التقرير إلى أن خيوطا كثيرة تشير بشكل مباشر إلى تورط مسوؤلي أمن سوريين في الاغتيال، وإلى وجود تواطؤ من قبل أجهزة الأمن اللبنانية. وأشار التقرير في ثناياه إلى قائمة من الاتصالات الهاتفية التي أجراها عدد من الأشخاص قبل الاغتيال منها مكالمة بين أحد المشتبه فيهم وهو الشيخ أحمد عبد العال والرئيس اللبناني إميل لحود، عن طريق الاتصال بالهاتف المباشر المحمول للرئيس لحود، كما اتهم وزير الخارجية السوري فاروق الشرع بمحاولته تضليل التحقيق. وأوضح التقرير أن التحقيق لم يكتمل ولا تزال خيوط عدة بحاجة إلى تعقب ومتابعة. لكنه أكد أن جريمة الاغتيال كانت منظمة تنظيما واسعا وذات موارد وقدرات كبيرة، مشيرا إلى أنها أعد لها على مدار بضعة أشهر.
إن أهمية الحديث عن هذا التقرير لا تكمن في كونه وثيقة قانونية أصدرتها لجنة لتقصي الحقائق، ولكن في الأبعاد السياسية التي تحيط به. وأيضا من خلال ربطه بجملة أخرى من المشاريع والاستراتيجيات والمواقف والأهداف التي تتبناها وتسعى من أجل تنفيذها الإدارة الأمريكية، في سوريا ولبنان. ولذلك فإن حديثنا هذا لا ينتقص أبدا من موقف الإدانة للجريمة التي ارتكبت بحق الراحل، رفيق الحريري. فتلك الجريمة مدانة بكل المقاييس والاعتبارات الأخلاقية والسياسية. ولكن المدان هنا هو استخدام هذا الحدث المحزن كحصان طروادة للنيل من استقرار لبنان والعدوان على سوريا. حيث تتكثف السحب الآن فوق سماء الشام منذرة بريح عاتية لا تبقي ولا تذر.
ولعل ما يعطي لهذه الخشية مبرراتها هو سرعة التعجل الأمريكي والفرنسي لدعوة مجلس الأمن الدولي للانعقاد لمناقشة التقرير، وإشارة وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس إلى أن المجلس ينبغي أن يتخذ عقوبات صارمة بحق سوريا، بسبب عدم تعاونها مع لجنة التحقيق، على حد قولها.
كما يبرر هذه الخشية بعض الفقرات التي وردت في التقرير والتي تشير، دون اهتمام بالاعتبارات القانونية، إلى اتهام للإدارة السورية في لبنان بالضلوع في مخطط الاغتيال. فعلى سبيل المثال، جاء في المادة الثانية من ديباجة التقرير أن “من المعروف أن للاستخبارات العسكرية السورية وجوداً واسعاً في لبنان، على الأقل حتى انسحاب القوات السورية، بموجب القرار 1559. وكان كبار مسؤولي الأمن اللبنانيين السابقين قد عيّنهم جهاز الاستخبارات السورية هذا. ولما كانت أجهزة الاستخبار السورية واللبنانية العاملة معاً متغلغلة في المؤسسات والمجتمع في لبنان، فإنه يصعب تخيّل أن يكون هذا الاغتيال المعد له قد ارتكب من دون معرفتها.”
ومثل هذا القول، لا يستقيم مع منطق، ذلك أن الوجود السوري، الأمني والاستخباراتي في لبنان كان متحققا بشكل علني منذ عام 1975. وخلال هذه الفترة الطويلة اغتيل عدد كبير من المسؤولين اللبنانيين، بينهم أثنان من رؤساء الجمهورية، ورئيس للوزارة، وأيضا بينهم عدد كبير من حلفاء النظام السوري. وإذا سلمنا بما ورد في ديباجة التقرير فإن النظام السوري يصبح مسؤولا عن جميع محاولات الاغتيال التي جرت في لبنان، بما في ذلك الاغتيالات التي شملت حلفاءه، وبعض الاغتيالات التي اعترف الكيان الصهيوني بارتكابها، وهذا أمر لا يستقيم مع عقل أو منطق.
إن تقرير لجنة ميليس يتراجع في الفقرة (21) من مقدمة التقرير عن ديباجته فيقول بالنص أن “اللجنة أسست حقائق وحددت مشتبهاً بهم على أساس الدلائل التي جمعتها والتي وفرت لها. وقامت اللجنة بتفحص واختبار هذه الأدلة بأفضل طرق المعرفة التي لديها. وقبل اكتمال التحقيق، وتحليل كل المفاتيح والأدلة بالكامل، وإنشاء ادعاء مستقل وغير متحيز، فإن المرء لا يمكنه معرفة القصة الكاملة لما حصل، وكيف حصل ومن المسؤول عن اغتيال رفيق الحريري وقتل 22 شخصاً بريئاً آخر. لذلك فإن افتراض البراءة يبقى قائماً”. هنا لا نجد اتهاما للاستخبارات أو أجهزة الأمن السورية، بل نجد تأكيدا على صعوبة معرفة القصة الكاملة للاغتيال، وكيف حصل ومن المسؤول عن تنفيذه، وأن افتراض البراءة لا يزال قائما.
لكن التقرير لا يبتعد كثيرا عن الدور المنوط به لتسهيل عملية العدوان على سوريا، فيعود للحديث عن العلاقات بين سوريا والحريري، فيشير في المادة (26) بالنص إلى خلاف ظهر خلال لقاء في دمشق بين الحريري والرئيس الأسد في 26 أغسطس 2004، حيث أعلم الرئيس الأسد الحريري الذي كان وقتها لا يزال رئيسا للوزراء، بضرورة أن يصار إلى تمديد ولاية الرئيس لحود، وهو أمر عارضه الراحل الحريري. وأن الرئيس السوري قد هدد الحريري بتدميره.
إن أمامنا هنا قصة ربما تكون جيدة لإنتاج دراما سينمائية، ولكنها بالتأكيد لا تصلح لأن تكون مرافعة قانونية في التعامل مع جريمة لها أبعاد سياسية كثيرة، وتعقيدات خاصة، وتتشابك فيها أطراف عديدة تختلف في مواقفها ورؤاها، كما هي قضية اغتيال الرئيس الحريري.
وبغض النظر عن الملاحظات القانونية والتقنية العديدة التي تسجل على التقرير، والتي جعلت منه وثيقة مرتبكة ورغم الطابع التمهيدي لهذا التقرير، الذي اعتبره المحقق الدولي نفسه بداية وليست نهاية مشدداً على ضرورة استكمال التحقيق الذي قد يأخذ أشهراً أو حتى سنوات، ورغم أن التقرير ذاته، وحتى بعد استكمال التحقيق، لن يكون أكثر من قرار ظني يقدم لمحاكمة عادلة وشفافة، فإن الإدارة الأمريكية، ممثلة برئيسها ووزيرة خارجيتها وممثلها في الأمم المتحدة ومجلس الأمن سارعت بطلب إصدار عقوبات ضد سوريا. وذلك يكشف بوضوح الأغراض السياسية الواضحة التي تريد استخدام الجريمة مدخلا للنيل من سوريا.
إن هذا الاستعجال الأمريكي، والذي يترافق مع ضغوط حادة لنزع السلاح عن المقاومة الفلسطينية المتواجدة في سوريا ولبنان، يذّكر بشكل لا لبس فيه بالذرائع الأمريكية للعدوان على العراق، وبعربات أسلحة الدمار الشامل والخرائط والعلاقات مع القاعدة التي تقدم بها وزير الخارجية الأمريكي، كولن باول لمجلس الأمن، قبل الاحتلال بفترة وجيزة، وكيف تهاوت تلك الذرائع مجتمعة، ولكن بعد خراب البصرة وفوات الأوان.
فكما تذرعت الإدارة الأمريكية في عدوانها على العراق واحتلالها له بادعاءات كاذبة، وشهادات مزيفة “لمنشقين” حول وجود أسلحة دمار شامل، ولجان تفتيش دولية منحازة ومعلومات محرضة من الموساد الصهيوني، فإنها تعيد الآن تكرار سيناريو مماثل، ولكن ضد سوريا هذه المرة، في إطار استراتيجيتها الكونية المعلنة ” الفوضى البناءة” لتدمير الكيانات الوطنية وسلب الشعوب استقلالها وهويتها ووحدتها، تحت ذرائع واهية وقرائن غير مثبتة قانونيا، وعلى شهادات زور لن تلبث أن يتكشف بطلانها.
إن هذا الانقضاض الأمريكي، المدفوع بضغوط من قوى صهيونية متنفذة، على سوريا انطلاقاً من لبنان يتطلب تنبها وحذراً من كل الجهات والتيارات السياسية في لبنان وأن تدرك، بغض النظر عن مساحات الاختلاف بين بعضها والقيادة السورية، أن أي أذى يلحق بسوريا سيلحق بلبنان حتما، وبكل دول المنطقة، ولذلك ينبغي رفض استخدام لبنان، وجريمة الاغتيال بالذات، كمنصة صهيو – أمريكية ضد بلد شقيق، وشعب شقيق.
وإذا كانت الإدارة الأمريكية الحالية، لم تتعلم من درس العراق، الذي تتكبد فيه خسائر ضخمة يوميا، والذي بات الخروج السريع منه مطلبا لأغلبية الأمريكيين، فإن على القيادات والقوى والتيارات اللبنانية والعربية أن تتنبه من الوقوع في الفخ المنصوب لها، وأن تتجاوز كل الحساسيات والرواسب السلبية فيما بينها، لكي لا تتكرر محنة العراق وفلسطين في سوريا ولبنان وكل دول المنطقة. ولكي لا يقال عنا نحن العرب… إننا لا نتعلم من التاريخ…