مواجهة استراتيجية أم حرب تحريك؟!
لقد تكشف لاحقا أن الحرب برمتها هدفت إلى كسر الجمود المتمثل في حالة اللاسلم واللاحرب، والتي أريد لها أن تمثل انتقالا استراتيجيا، ليس فقط في التوجه إلى التفاوض السلمي مع الصهاينة، ولكن أيضا في تغيير خارطة التحالفات الدولية والإقليمية، حيث أصبحت بعدها مجمل “أوراق اللعبة” بيد إدارة الرئيس الأمريكي، ريتشارد نيكسون، ومستشاره لشؤون الأمن القومي، هنري كيسنجر.
كان من نتائج تلك الحرب المحدودة، إعادة تنشيط التحرك السياسي، وحدوث فصل للقوات على الجبهتين المصرية والسورية، ومن ثم تحقيق فك ارتباط آخر على الجبهة المصرية، والمضي قدما بالعملية السلمية حتى توقيع اتفاقية كامب ديفيد عام 1978.
إذن فحرب التحريك، هي عملية عسكرية محدودة تتيح الفرصة للأطراف الدولية الكبرى للدخول على الخط، وتوجيه المفاوضات بدرجات متفاوتة، تبعا لأوراق الضغط المتاحة، لدى الأطراف المعنية بالصراع. ومن المفترض أن يؤدي تدخل الأطراف الدولية إلى تحقيق انفراج في الموقف، وربما أسهمت في تغيير خارطة التحالفات، وخلق معادلات جديدة سياسية نقيضة لتلك التي كانت سائدة قبل إطلاق شرارة الحرب.
هذه المقدمة تقودنا إلى الصخب الدائر الآن حول البرنامج النووي الإيراني، والذي كانت لنا وقفة معه في الحديثين السابقين (الحلقة الأولى، الحلقة الثانية). وقد خلصنا فيهما إلى صعوبة قيام الإدارة الأمريكية بشن حرب شاملة على إيران، لأسباب تعرضنا لذكرها بشيء من التفصيل. وأمام استنتاج صعوبة قيام الإدارة الأمريكية بمهاجمة إيران، كان السؤال عن السيناريو، أو السيناريوهات البديلة التي يمكن أن تلجأ لها الإدارة الأمريكية، والكيان الصهيوني لكبح جماح الطموحات النووية الإيرانية، وما هي الأوراق التي بحوزتهم في حالة اللجوء لمغامرة الحرب.
وإذا أجزنا لأنفسنا أن نبدأ من النهاية، فإن الذي لا شك فيه أن أهم ورقة تملكها الإدارة الأمريكية هي قدرتها على إلحاق تدمير شامل بالبنية التحتية لإيران، وإعادتها للعصر الحجري، بنفس العنف و”صدمة الرعب” التي جرى تطبيقها في العراق. وبالتأكيد، ومن منطلق براجماتي وعملي لن تقبل القيادة الإيرانية أن تضع نفسها في موقف كهذا، بعد تجربة مريرة من الحرب مع العراق، استمرت ثماني سنوات، وبعد أن عملت بقوة على استعادة مكانتها الإقليمية خلال العقدين المنصرمين. وإذن فالتلويح بالحرب من قبل الإدارة الأمريكية هو أكبر ورقة ضغط في مواجهة إيران، ولا بد أن الأخيرة قد تعاملت معها بجدية، بغض النظر عن تصريحات الاستهجان التي يطلقها قادة إيرانيون بين فينة وأخرى.
أما فيما يتعلق بالأوراق الإيرانية، فإننا شهدنا هذا الأسبوع جملة من التطورات، ستساعدنا في الكشف عن السيناريو الذي ربما يكون أكثر حظية، من حيث توفر إمكانيات تطبيقه، بحد أدنى ومقبول، من الخسائر.
لعل أهم التطورات التي أخذت مكانها هذا الأسبوع في سياق حديثنا، هي إعلان خبراء عسكريين أمريكيين أن إيران خدعت العالم بتجاربها الصاروخية، وأن ما بث من صور هو استنساخ لتجارب قديمة، أضيف لها صاروخ آخر. وفي هذا الاتجاه، شكك خبراء أمريكيون آخرون في مدى تقدم البرنامج الصاروخي الإيراني. ومن جهة أخرى، سرب خبر قيام السلاح الجوي الإسرائيلي بمناورات في سماء العراق من أجل التحضير للهجوم على إيران، من قواعد أمريكية هناك. ورغم أن الإدارتين الأمريكية والإسرائيلية قد نفتا الخبر، فإن من الصعوبة الجزم ببراءة تلك التسريبات.
ومن جانب آخر، نسبت صحيفة بريطانية لمسؤول بالبنتاجون قوله إن الرئيس الأمريكي بوش أبلغ تل أبيب بأنه ربما يكون جاهزا للموافقة على ضربة عسكرية للمنشآت النووية الإيرانية في حال فشل المباحثات مع طهران. ونقلت الصنداي تايمز عن هذا المسؤول قوله إنه رغم المعارضة التي يبديها الجنرالات الأمريكيون لهذا الإجراء، ورغم الشكوك حول جاهزية واشنطون للمخاطرة بتوجيه ضربات جوية لإيران, فإن الرئيس أعطى “الضوء الأصفر” لخطة إسرائيلية لمهاجمة المواقع النووية الإيرانية الأساسية. وقد فسر ذلك بالقول إنه يعني أن يستمر الإسرائيليون في استعداداتهم، وأن يبقوا على أهبة الاستعداد للهجوم الفوري “وأن يخبرونا متى ما كانوا جاهزين للتصرف”. لكن ذلك تزامن مع إبلاغ الإسرائيليين بأن عليهم ألا يتوقعوا مساعدة من القوات الأمريكية، كما أنهم لن يحظوا بأي مساعدة لوجستية من القواعد الأمريكية بالعراق.
في باريس، التقى الرئيس السوري، بشار الأسد، بدعم من الرئيس الفرنسي، نيقولا ساركوزي بالرئيس اللبناني، ميشيل سليمان واتفقا على فتح سفارة سورية بلبنان، وتحسين العلاقات بين البلدين. كما أجرى الرئيس الفرنسي مصالحة بين الرئيسين السوري والمصري. وقد أخذت هذه التطورات مكانها، في سياقات أخرى، تشي بتهدئة الموقف في حوض البحر الأبيض المتوسط. فقد تزامنت هذه التطورات مع تصريحات متبادلة أصدرها رئيس الوزراء الصهيوني، والرئيس السوري أكدت على جدية موقفهما تجاه التوصل إلى حلول سلمية للصراع حول استعادة هضبة الجولان السورية. وقد نقل رئيس الوزراء التركي، رجب طيب أوردغان رسالة من أولمرت أثناء لقائه به على هامش قمة الاتحاد المتوسطي في باريس.
جاءت هذه التطورات وسط انفراج آخر بين حزب الله والصهاينة، تمثل في تبادل الأسرى، ورفات القتلى من الإسرائيليين، والشهداء اللبنانيين والفلسطينيين إلى ذويهم.
إن التفسير الوحيد والممكن لهذه التطورات، هو أن هناك سعياً حثيثاً لتحييد الأوراق الإيرانية في حوض البحر الأبيض المتوسط، والمتمثلة في سوريا وحزب الله. يتزامن ذلك مع تأهيل القيادة السورية للعودة للنظام العربي الرسمي، من خلال استعادة علاقاتها الطبيعية مع دول مجلس التعاون الخليجي ومصر ولبنان.
وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار، جملة النقاط التي أشرنا لها في الحديثين السابقين (الحديث الأول، الحديث الثاني)، ووضعنا نصب أعيننا التطورات الدولية المتمثلة في التهديد الروسي بمواجهة عسكرية، في حالة نصب الدرع الصاروخي في التشيك، واستخدام الروس والصينيين حق الفيتو باتجاه القرار الصادر من مجلس الأمن بفرض عقوبات على زمبابوي تأكد لنا أن الأمريكيين ليسوا في وارد مواجهة عسكرية مع إيران، من شأنها أن تجعل المنطقة الفاصلة بين روسيا ومنطقة الخليج العربي رخوة، وقابلة للاختراق.
وإذا فالبديل الممكن هو قيام الكيان الصهيوني، بضربة جوية عسكرية، محدودة على غرار قصف مفاعل تموز العراقي في أوائل الثمانينيات. والأقرب أن إيران ستحتوي الضربة، ولن ترد عليها، بسبب إدراكها لمخاطر ذلك على أمنها الإقليمي، ولكنها ستؤكد احتفاظها بحق الرد وتحديد مكانه وزمانه. ويخرج مجلس الأمن الدولي بقرار يطالب فيه الأطراف المعنية بضبط النفس والابتعاد عن العنف، ومن ثم تتدخل الولايات المتحدة كوسيط بين الطرفين، مقدمة حوافز بديلة لإيران، تضمن استمرار شراكتهما في العراق وأفغانستان، وتؤمن البنية التحتية الإيرانية، وتسمح لها ببعض الأنشطة النووية ذات الطابع السلمي، ولكن برعاية وإشراف غربي. وبذلك تحقق الإدارة الأمريكية اختراقات أخرى جديدة، وذلك هو السيناريو الأكثر احتمالا، وسوف تتكفل الأيام القادمة بتأكيده أو نفيه. وهكذا فإن المتوقع من وجهة نظرنا، أن ما سوف تشهده المنطقة هو حرب تحريك محدودة وليست مواجهة استراتيجية.
وتبقى مواصلة مناقشة هذا الموضوع في غاية الأهمية، في أحاديث قادمة بإذن الله.