من يحاسب من؟!!

0 179

صوت الكونجرس الأمريكي هذا الأسبوع على ما دعي بقانون محاسبة سوريا. وإذا ما تم التصديق على هذا القانون من قبل الرئيس الأمريكي وأصبح ساري التنفيذ، فإن ذلك يعني فرض مجموعة من العقوبات على القطر السوري، تأتي في مقدمتها حرمانه من استيراد السلع وفرض نوع من الحصار الاقتصادي والسياسي عليه.

الأسباب التي ذكرت كمبررات لصدور هذا القانون تركزت على ثلاثة قضايا رئيسية. الأولى، دعم القيادة السورية للمقاومة الفلسطينية، وبخاصة حركتي حماس والجهاد والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والتي أصبحت مصنفة من زاوية الرؤية الأمريكية والصهيونية، باعتبارها منظمات إرهابية. والثانية، دعم المقاومة اللبنانية للإحتلال الإسرائيلي، وبخاصة حزب الله، الذي أصبح على رأس قائمة منظمات الإرهاب، من وجهة النظر الأمريكية والصهيونية أيضا. والثالثة، التدخل في الشؤون العراقية، والسماح للمقاومين العرب بالتوجه إلى العراق عبر الحدود السورية لمقاتلة الأمريكيين. وبعد هذه القائمة، تأتي قائمة أخرى مدعمة لهذه القائمة الرئيسية، ولكنها تبدو ثانوية، كمسألة حقوق الإنسان، وامتلاك أسلحة الدمار الشامل، وتخزين أسلحة دمار شامل وأموال، قدرت بمليارات الدولارات، تابعة للقيادة العراقية السابقة داخل الأراضي السورية، وتواجد الجيش السوري بلبنان والتدخل في شؤونه، ورفض الدخول في مفاوضات سلمية مباشرة مع العدو الصهيوني.

 

والملاحظ هنا أن اللائحة المذكورة قد تركزت على اتهام القيادة السورية بالضلوع في التعاون مع الإرهاب. وهو اتهام يبدو أنه مرتبط في معظم جوانبه، وإلى حد كبير، بالموقف الأمريكي من الصراع العربي- الصهيوني، هذا الموقف المتسم بالتحيز الكامل لمغتصبي أرض فلسطين، واتهام كل من يرفع عقيرته مطالبا بتحرير الأرض بالضلوع في ممارسة الإرهاب. والملاحظ أيضا، أن كثيرا من الإتهامات التي وردت في لائحة الكونجرس الأمريكي ضد سوري قد صدرت بأثر رجعي.

 

ففيما يتعلق بالاتهام بدعم المقاومة الفلسطينية، غيبت لائحة الاتهام حقيقة أن العلاقة بين القيادة السورية وحركة المقاومة الفلسطينية هي علاقة تاريخية، وأن هذه العلاقة كانت في كثير من المناسبات صمام أمان وعامل ترصين، وأنها قد حالت في أوقات كثيرة دون تدهور الأوضاع وانفلاتها في المنطقة بأسرها. كما تجاهلت حقيقة الدور السوري في كبح جماح هذه المنظمات، وأنها قد فرضت عليها، منذ عدة شهور قيودا وضوابط حددت حركتها ليس فقط داخل الأراضي السورية، بل في لبنان وأقطار الجوار، بحيث يمكن القول أن دورها حاليا في هذه الأقطار أصبح مقتصرا على الجوانب الإعلامية. كما تناست لائحة الاتهام الأمريكية، أن هناك احتلالا إسرائيليا متحققا على الأرض، في الضفة الغربية وقطاع غزة، هذا إذا سلمنا باغتصاب الصهاينة لأرض فلسطين التاريخية، ومما لا شك فيه أن ذلك يشكل خطرا جسيما على الأمن القومي العربي. وفي المجال الوطني فإن الكيان الصهيوني لا يزال يحتل هضبة الجولان، وهذا الاحتلال، إضافة إلى كونه تعديا على السيادة والاستقلال السوري، فإنه تهديد مباشر للأمن الوطني وسلامة الأراضي السورية.

 

وعلى هذا الأساس، فإن الموقف الطبيعي والمنطقي والأخلاقي المفترض تبنيه من قبل الإدارة الأمريكية، هو أن يجرى التعامل مع العلة، لا مع نتائجها. والعلة، كما هو واضح، تكمن في الاحتلال الصهيوني للأراضي العربية، والتنكر لحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم، ورفض التسليم بحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير وإقامة دولته المستقلة. ومنذ عام 1973، بعد حرب أكتوبر مباشرة، قبلت القيادة السورية بالقرار 338 الصادر عن مجلس الأمن الدولي الذي قضى بوقف إطلاق النار بين المتحاربين، وعودة الأراضي العربية المحتلة إلى أصحابها وإنهاء حالة الحرب.

 

ومن خلال التسليم بهذا القرار، وافقت القيادة السورية على الحضور في المؤتمر الدولي للسلام في الشرق الأوسط. واستقبل رئيسها الراحل، حافظ الأسد في مقره، هنرى كيسنجر مستشار الرئيس نيكسون للأمن القومي ووزير خارجيته فيما بعد. وجرى أول فصل رئيسي للقوات السورية والإسرائيلية، تحت وساطة وإشراف أمريكيين. وبعد حرب الخليج الثانية عام 1990، وإثر إطلاق الرئيس الأمريكي، جورج بوش الأب مبادرته السلمية التي عرفت بمبادرة مدريد، قبلت سوريا بتلك المبادرة وشاركت في مؤتمر مدريد إلى نهاياته. وبعد تعثر تلك المبادرة، أكد السوريون من جديد، موقفهم الثابت والواضح، وهو التمسك بالسلام كخيار استراتيجي، وضرورة مواصلة مفاوضات التسوية مع الصهاينة من حيث انتهت في مؤتمر مدريد، وهو أمر لا زالت الإدارة الإسرائيلية، وبدعم من الحكومة الأمريكية، تماطل في تطبيقه حتى يومنا هذا.

 

وبالنسبة للدعم السوري لحركة المقاومة اللبنانية، فقد قاوم اللبنانيون احتلالا إسرائيليا استمر 22 عاما، وصدرت قرارات كونية عدة من مجلس الأمن الدولي وهيئة الأمم المتحدة، باعتباره احتلالا باطلا واعتداء صارخا على سيادة لبنان، وطالبت مجموعة من القرارات الدولية بخروج المحتلين من لبنان دون قيد أو شرط. وفي ظل الإعتراف الدولي بحق المقاومة في تحرير الأرض واصل اللبنانيون مقاومتهم للغزاة، وتمكنوا من دحرهم، ولم يتبق تحت الإحتلال الآن سوى مزارع شبعا.

 

وللعلم فإن أحدا من القوى الدولية، بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية ذاتها، لم تتجرأ سابقا على اتهام المقاومة اللبنانية بممارسة الإرهاب، فقد قاتلت المحتلين، بشجاعة وبسالة، منسجمة في ذلك مع مبادئ القانون الدولي وحق الدفاع عن النفس، وتأييد دولي واسع لروح المقاومة وأهدافها. ولذلك فمن الغريب أن يجري الآن وضع الأمريكان لحزب الله على قائمة منظمات الإرهاب.

 

وحين نأتي إلى القضية الثالثة، المتمثلة في اتهام سوريا بمساعدة المقاومين العراقيين، فإنه لمن المثير للإشمئزاز والمرارة أن الأمريكان الذين تحدوا كل دول العالم، وقاموا باحتلال دولة مستقلة وعضو في مختلف الهيئات الكونية، بما في ذلك هيئة الأمم المتحدة وكتلة دول عدم الإنحياز ومنظمة المؤتمر الإسلامي وجامعة الدول العربية، واستخدموا في ذلك مختلف وأبشع أسلحة القتل والفتك والدمار، يتحدثون عن تدخل دول عربية شقيقة للعراق في شؤونه الداخلية، وهذه الدول تربطها بالعراق روابط الدم والتاريخ والجغرافيا واللغة والثقافة والدين والجوار والمعاناة المشتركة.. ومعاهدات واتفاقيات ومواثيق، صادقت عليها هيئة الأمم المتحدة، بضمنها معاهدة الدفاع العربي المشترك وميثاق الأمن القومي العربي الجماعي الذي يعتبر الاعتداء على أي قطر عربي، اعتداء على الأمة العربية بأسرها.

 

إن التدخل المرفوض أخلاقيا وقانونيا، ليس التدخل السوري في شؤون العراق، وهو تدخل لم يثبت بعد، ولكنه القرصنة الأمريكية ومصادرة هوية العراق وسرقة تاريخه ومياهه وثرواته، واستباحة أرضه من قبل الصهاينة وأذنابهم.

 

أما التعلل بحقوق الإنسان وامتلاك أسلحة الدمار الشامل، فهي اسطوانات مشروخة، انفضح زيفها وكذبها، ليس في الوطن العربي فحسب، بل في أوكار الكذابين وقلاعهم. حيث يجري الحديث علنا عن كذب إدارة الرئيس بوش وإدارة رئيس الوزراء البريطاني، طوني بلير، وحيث تصبح هذه القضايا محور اتهامات رئيسية في التنافس الدائر بين الجمهوريين والديمقراطيين على سدة الرئاسة في المرحلة القادمة. لقد ثبت بطلان الادعاء بوجود أسلحة الدمار الشامل، وأنه لم يكن سوى ذريعة لشن الحرب وممارسة العدوان. وهو افتراء لا يختلف كثيرا عن القول بتعاون سوري مع القيادة العراقية السابقة، وهو افتراء تعلم الإدارة الأمريكية، قبل غيرها، زيفه وكذبه، بحكم ضلوعها في كثير من المشاكل والأزمات التي نشأت بين النظامين في العراق وسوريا خلال العقدين المنصرمين. وليس ببعيد عن الذاكرة، موقف القيادة السورية من الحرب العراقية الإيرانية، وموقفها من غزو العراق للكويت، واصطفاف الجيش السوري إلى جانب القوات الأمريكية، في حرب الخليج الثانية التي شنت تحت ذريعة تحرير الكويت من الاحتلال العراقي. وليس ببعيد أيضا، عمليات الاغتيالات والتفجير والتخريب في دمشق وبغداد التي أخذت مكانها في السبعينيات من القرن الماضي، والتي اتهمت المخابرات العراقية والسورية بتدبيرها، وقد مثلت تلك الحوادث قمة التداعي والانهيار للعلاقات السياسية بين نظامي الحكم في سوريا والعراق.

 

أما حقوق الإنسان العربي، فقد بقيت منزوعة وغير معترف بها لعقود وعقود، وكان للأمريكان أنفسهم حصة الأسد في حماية أنظمة الإستبداد والديكتاتوريات العربية، بما يعري أي ادعاء بالحرص على كرامة الإنسان وحقوقه.. وفي كل الحالات فإن ذلك الوعي قد جاء متأخرا جدا.. فقد وصل مع وقت الأفول..!

 

وعلى هذا الأساس، فإن المحاسبة، ضمن القانون الدولي ومبادئ العدل والمنطق يجب أن تكون عربية، ويجب أن توجه لائحة الإتهامات للغزاة الصهاينة والمحتلين الأمريكان، وليس للمستضعفين الذين يدافعون عن أنفسهم وكرامتهم. وعلى العالم المتحضر، أن يرفض الإستخدام الأمريكي المسطح والساذج لتعبير لإرهاب، والذي يقتصر توجيهه على المنظمات والدول التي لا تنسجم مع المواقف والسياسات الأمريكية، ويستثني من التعريف الأعمال الإرهابية التي تكون الإدارة الأمريكية وربيبتها إسرائيل ضالعتين فيها، أو داعمتين لها. والتي تعتبر إبادة الفلسطينيين من قبل الإسرائيليين في صبرا وشاتيلا، وبقر بطون النساء وقتل الأطفال، عمل مشروع ودفاع عن النفس، في حين ترى أن تعرض قوات المارينز الأمريكية والمستوطنين الصهاينة المحتلة لهجمات المقاومين اللبنانيين وحشية وإرهابا.

 

ومع تسليمنا بأن موضوع الإرهاب وتعريفه، لا يزال يشكل معضلة منهجية في الفكر السياسي وفي القانون الدولي، حيث تبدو فيه التعاريف فضفاضة ومتحيزة، حين تركز على إرهاب المنظمات السياسية، في بنيتها التحتية، وتتناسى الإرهاب الذي تمارسه الدول. وحين تغيب في تلك التعريفات فكرة الحقوق وميزان العدل، ومبادئ المساواة وتقرير المصير، لتركز على جانب واحد فقط، هو التعرض لحياة المدنيين.. حتى وإن كانوا غزاة ومحتلين. فإننا من جهة أخرى، نرى ازدواجية فاضحة في المعايير، حتى مع التسليم بهذه التعريفات الفضفاضة. فالمستوطن الصهيوني، على سبيل المثال، يمكن أن يقوم بذات الفعل الذي يقوم به الفلسطيني المقاوم، فيتعرض إلى المدنيين الفلسطينيين بالقتل العمد، ولكن ذلك لا يدخل في التعريف الأمريكي باعتباره إرهابا، لسبب بسيط هو أن الفاعل هنا صهيوني ومستوطن. وفي النتيجة، فإنه ليس أمام المقاوم والمظلوم سوى مواصلة النضال من أجل نيل حقوقه، مهما كلف ذلك من عطاء وبذل وتضحيات، وأي تكن العناوين والتوصيفات التي يطلقها ويروج لها المحتل بحق عمليات المقاومة وحركات التحرير.

 

إن إضاعة الوقت في الحديث عن الإرهاب، واستمرار شن العدوان على الأمة العربية، تحت ذريعة الحرب عليه، سوف لن يجلب الأمن والسلام لا للصهاينة ولا للأمريكيين، بل سيساهم في تصعيد حالة التوتر في المنطقة بأسرها، والأمثلة ماثلة وحية في أفغانستان والعراق..

 

ليس هناك بديلا، أمام الأمريكيين والصهاينة، إذا ما أردوا الحفاظ على أرواحهم وإيقاف شلالات الدم سوى التسليم بإرادة شعوب هذه المنطقة. أما استمرار التلويح والتهديد بالقتل والمباشرة فيه، فإنها ربما تمكن المحتلين من التواجد بقواتهم على الأرض، والتمتع إلى حين بنشوة النصر، كما هو حادث الآن في فلسطين والعراق وأفغانستان، ولكن تحقيق ذلك ليس العبرة، بل العبرة في القدرة على ضمان الأمن والسلم، وهذا ما لم، ولن يتحقق في ظل الظلم الفادح الذي تعاني منه شعوب المنطقة.

 

لترتفع الأصوات عاليا في وجه الإحتلال والظلم، وليرحل المحتلون إلى ديارهم، وعندها فقط ستقفل إلى الأبد كل المنافذ والطرق على أعمال العنف والإرهاب. وحتى يحين ذلك سيبقى السؤال، قائما وأزليا: من يحاسب من؟!!

 

yousifsite2020@gmail.com

د. يوسف مكي

تاريخ الماده:- 2003-10-22

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

واحد + 19 =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي