من هو المستفيد من خلق الفتنة في مصر
ليلة عيد الميلاد، وشعوب العالم المحبة للسلام، تعيش أفراح قدوم عام جديد، حدثت جريمة التفجير في كنيسة القديسين بالاسكندرية. كان حصادها إزهاق أرواح الأبرياء، وانتشار حالة من الخوف والفزع، وتسعير الاحتراب الطائفي والمذهبي وتعميم ظاهرة الفتنة بين أبناء الوطن الواحد. والهدف هو إلحاق مصر، قلب العروبة النابض، بأتون محرقة الحروب الأهلية المشتعلة الآن في عدد من الأقطار العربية. الجريمة في شكلها متماهية حد التطابق،
مع ما حدث ويحدث في العراق، منذ احتلاله في نيسان عام 2003م، وما حدث في لبنان خلال الحرب الأهلية بالسبعينات من القرن المنصرم، وشبيهة تماما بالأعمال التي تنسب |لى القاعدة. سيارة مخففة، توضع في غفلة قريبا جدا من المكان المستهدف، فتنفجر عند ساعة محددة، يكون الناس فيها في حالة جمهرة، لتصيب أكبر عدد من البشر، ممن يجرهم حظهم العاثر إلى مكان الانفجار. وكان الهدف هذه المرة كنيسة قبطية رئيسية، وعشية عيد الميلاد، وقبل أسبوع من عيد الأقباط. وكالعادة، تبقى ملفات التحقيق مفتوحة، ويغيب الجاني الحقيقي عن الصورة.
من هو المستفيد من ارتكاب هذه الجريمة؟ سؤال بحاجة إلى تفكيك وإعادة نظر فيما يجري من حولنا، وفي محيطنا الإقليمي، وأيضا ضمن مشروع الهيمنة الدولي. وأمامنا في هذا السياق جملة من الفرضيات، ولكل فرضية مبررات تدعمها، وتمنحها أرجحية على ما عداها.
هناك تقرير مؤسسة راند، الذي صدر بعد الاحتلال الأمريكي للعراق مباشرة، تحت عنوان الإستراتيجية الكبرى. وقد قيل أن التقرير أعد ضمن إستراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية، لما بعد الحرب الباردة، وحمل إنذارا واضحا بتفتيت المملكة العربية السعودية، إن لم تتوقف عن دعم الجمعيات الإسلامية، وتغير مناهجها الدراسية، وبرامجها الإعلامية. ووقعه مجموعة من صقور الإدارات الأمريكية المختلفة، منذ السبعينيات من القرن المنصرم، من ضمنهم الكيسندر هيج ودان كويل وهنري كيسنجر وبريجنسكي. وقد اعتبرت “الإستراتيجية الكبرى” احتلال العراق خطوة تكتيكية، أما الإنذار بتفتيت السعودية، فهو من وجهة نظر التقرير، مواجهة للإرهاب. وبالنسبة لمصر، أشار التقرير بوضوح إلى أنها ستكون الجائزة الكبرى.
أتمنى على القارئ الكريم، أن لا يعتبر فرضيتنا هذه، والفرضيات اللاحقة، جزء من عقلية المؤامرة التي يتهم بها معظم العرب. فما أوردته في هذه الفرضية، والفرضيات التالية ليس من صياغة المخيلة، بل هو مدون ومكتوب بالخط العريض. وما على من يرغب في زيادة واستزادة، والتأكد مما ورد في هذه الفرضية سوى زيارة موقع راند للدراسات الإستراتيجية. وبه تقارير كثيرة متاح الإطلاع عليها للجميع.
وإذا افترضنا صحة هذه الفرضية، وهو مجرد افتراض، فإن مشروع الهيمنة على المنطقة لا يتم وفق صيغة أو تراتبية واحدة. فتفتيت العراق، حدث بصيغة تكليف جيش أمريكي جرار، عبر المحيطات ليحتل عاصمة العباسيين، بينما يجري تفتيت السودان تحت شعار حق تقرير المصير للجنوبيين، وتأمين حقوق الإنسان ومنع جرائم الإبادة في دارفور. وفي اليمن يأخذ التفتيت شكل حرب أهلية بين الحكومة المركزية والحوثيين، وبينها أيضا وبين الحراك الجنوبي، والقاعدة. وفي الصومال، يحدث الصراع بين قوى إسلامية متناحرة، وهكذا دواليك، لكل حالة أسلوبا خاصا، لكن الهدف يبقى واحدا، ويتلخص في تفتيت الأمة إلى كانتونات ودويلات، تقوم على أسس التوافق والقسمة بين الاثنيات والطوائف.
الفرضية الأخرى، وتستند إلى وقائع أخذت مكانها بالشهر الذي مضى، وعرف بها الجميع، وهي إلقاء القبض على عدد من شبكات التجسس الإسرائيلية، يمتد دور بعضها في التجسس على مصر، إلى أكثر من عشرين عاما. ويتزامن الكشف عن هذه الشبكات، مع اتهامات إسرائيلية لمصر، بأنها تسعى لحيازة التكنولوجيا النووية. في هذا الصدد يمكننا الافتراض، بأن الكيان الصهيوني، أراد صرف الأنظار عن افتضاح جريمة زرع شبكات التجسس في مصر، بجريمة أخرى، يكون من شأنها خلق حالة الاقتتال بين المصريين.
وضمن هذا التصور، ليس من المستبعد أن تتزايد الحوادث من هذا النوع ضد مساجد مصر وكنائسها، وضد منشآتها ومبانيها وأمنها. وإذا كان الذين نفذوا عملية التفجير هم عملاء الموساد، فإن سجل جرائم أفراد هذه المؤسسة، في معظم البلدان العربية، يؤكد قدرتهم الاستثنائية على الهروب من مواجهة الحساب. وتأخذ هذه الفرضية على سلطات الأمن المصرية، عدم التعامل مع التهديدات الإسرائيلية بمحمل الجد.
لقد قدم مدير المخابرات العسكرية الإسرائيلية، كشف الحساب، عن إنجازات الموساد في مصر ومن أخطرها الاعتراف بترتيب الفتنة الطائفية وتمزيق المجتمع المصري حتى لا تقوم له قائمة. وقد نشرت معلومات عن تورط مسئولين عرب بالتوطؤ مع إسرائيل والولايات المتحدة. وكان المفترض أن تتعامل الحكومة المصرية مع تقرير عاموس بايدين بجدية، لإن معنى التقرير الإسرائيلي، إن صدق، هو أن مصر مستهدفة في وجودها، ومستهدفة في وحدة أراضيها.
وهناك فرضية ثالثة، تقول بأن قادة معسكر تصنيع السلاح الخفيف في أمريكا، يرغبون في التخلص من السلاح المتكدس لديهم عن طريق تسويق بعضه لمصر. وأن تنفيذ عمليات إرهابية في مصر، من شأنه أن يجبر حكومتها على عقد صفقات لشراء كميات ضخمة من الأسلحة الخفيفة لمواجهة الإرهاب، وللتصدي لأعمال العنف التي تستتبع حتما استمرار عمليات التفجير. ويستدل على صحة هذه الفرضية، بما ورد في موقع ويكيليكس قبل ساعات من التفجير. وثيقة مثيرة تقول إنه يجب أن يكون الجيش المصري على استعداد للتسلح الأمريكي ليواجه “الإرهاب”. بمعنى أن الأمريكيين يريدون أن يحددوا دور وعقيدة الجيش المصري وفق القراءة الأمريكية في القضايا الداخلية والإقليمية.
وهناك فرضية رابعة، تقول بأن تنظيم القاعدة وجه إنذارا قبل شهرين من هذا التاريخ لأقباط مصر، بتنفيذ عمليات تفجير ضدهم إن هم منعوا أبناءهم عن اعتناق الإسلام. وأعيد تكرار ذلك في إنذارات أخرى. وإذا سلمنا بهذه الفرضية، فإن الذي حدث هو أن تنظيم القاعدة نفذ ما وعد بتنفيذه.
وبالنسبة لنا، فليس من شك في أن المستفيد من التفجير والتسعير الطائفي هم أعداء الأمة، والإستراتيجية العدوانية الصهيونية والقوى الاستعمارية التي لم تعد تخفي مخططاتها الرامية تفتيت المنطقة بأسرها، دونما حاجة في الاستغراق بالمزيد من التفاصيل. إن الأقباط، هم جزء أصيل من النسيج المصري، بل هم أصل مصر. والكنسية القبطية، أثبتت على مر العصور استقلاليتها، ووطنيتا، ورفضها للتفريط بالحقوق العربية، وتضحياتها الجسمية من أجل مصر، وقد تجلى ذلك بوضوح في الموقف الشجاع للبابا شنودة من معاهدة كامب ديفيد، وليس بمقدر أي كان أن يشكك في وطنيتها وعروبتها، ونزاهة وصلابة مواقفها.
تفجير الاسكندرية، يأتي للأسف متسقا مع الشحن الطائفي المتصاعد في عدد من بلداننا العربية، والذي بلغ ذروته في العراق، بعد احتلاله من قبل الأمريكيين، وتشكيل حكومة انتقالية، وإعلان دستور يقسم السلطة السياسية والثروة، على أساس المحاصصات الطائفية والإثنية، وقد أصبح من المألوف في أرض السواد، قتل الأبرياء، على الهوية. وعلى هذا الأساس، فإن جريمة تفجير كنسية القديسين، وتداعياتها، تشكل خطرا محدقا على مستقبل مصر، وسيادتها ووحدتها الوطنية، وعلى الأمة العربية جمعاء.
لا مناص من التصدي لحالة التسعير الطائفي والاحتقانات التي تنتج عنها ومعالجتها، فكريا وسياسيا واجتماعيا وإعلاميا، بصيغة متكاملة، تسند المعالجة الأمنية وتتفاعل معها، ولا تكون بديلا عنها. إنها تتطلب كما اقترح بيان المؤتمر القومي العربي، الذي صدر إثر الجريمة، نوعاً من “حالة طوارئ” بين نخب الأمة ومفكّريها ومراجعها الدينية وتياراتها السياسية ومنتدياتها الثقافية، تغوص في أعماق هذه الظواهر واقتراح آليات مواجهتها وبرامج عمل لتجاوزها، تنفّذ بعضها السلطات الحاكمة، وينفّذ بعضها الآخر قوى المجتمع الحيّة المدعّوة إلى الانخراط فعلاً في حملة تحصين مجتمعاتنا على مختلف المستويات”.
لقد هب شعب مصر بأسره في إدانته للجريمة، واتضح للجميع وجود إجماع وطني مصري، على رفض العنف الطائفي، الغريب على تراث مصر وتاريخها الوطني وهويتها الجامعة. لكن ذلك وحده لا يكفي لقبر المؤامرة. ولن يتحقق ذلك إلا بتحول الهبة الشعبية إلى مسار عمل دائم يعالج كل ثغرة، ويرصد كل إساءة، ويواجه كل فتنة كامنة أو معلنة.
وينبغي أن يرفد هبة مصر، عمل عربي مشترك، عمل وطني وقومي، رسمي وشعبي ينطلق من التسليم بمفهوم المواطنة، وبناء دولة المؤسسات، في جميع الأقطار العربية، ومحاربة سياسة الإقصاء واحتكار السلطة، والتصدي للفساد، بمختلف أوجهه، وتأسيس نظام اجتماعي يستند على العدل والندية والتكافؤ، إن ذلك وحده السبيل لوقف حالة الانهيار ومواجهة الأزمات المستعصية ومحاولات التفتيت التي تمر بها عدد من بلداننا العربية… لا بد من وقفة عربية شاملة، على كل المستويات، لوقف الفتنة الطائفية، والإعلان صراحة أن استهداف وحدة مصر وأمنها القومي هو استهداف لوحدة الأمة بأسرها ولأمنها القومي.
ومرة أخرى، لن نكل ولن نمل من الدعوة مجددا إلى بعث التضامن العربي، وتفعيل ميثاق جامعة الدول العربية، وتحقيق التكامل الاقتصادي العربي، وميثاق الأمن القومي الجماعي ومعاهدة الدفاع العربي المشترك، وصولا إلى تحقيق نوع من التكامل العربي الشامل. والسؤال المطروح أمامنا بحدة هو أن نكون أو لا نكون، وحين تكون الكينونة هي الخيار، فلا مناص من دفع استحقاقاتها.