من مواجهة الاستعباد الى مواجهة الاستبداد
حين يأخذ منك الزمن مأخذه، ولا تجد حواليك من حوادث، على مستوى الوطن الكبير، ما يبعث في نفسك البهجة والفرح.
يأسرك الحنين إلى الماضي، وتحاول أن تجد في بعض أحداثه الجليلة عزاء لك.
ولكي تحقق شيئا من التوازن النفسي، يدفعك الحنين إلى نبش الماضي، باحثاً عن أمل ورجاء.
تعود إلى أوراقك، وكتبك القديمة تستعيد ذكريات كفاح وانتصارات أمة، وكيف تدافعت الأحداث في لحظة من شموخ التاريخ لتصنع حقبة نهوض عبرت عن نفسها في ترابط ونسيج آخاذ.
في حالة الارتباك والفوضى والتمزق التي تمر بها الأمة، في معظم أركانها قادت الحيلة إلى العلامة عبد الرحمن الكواكبي، وكتابه طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، وكانت علاقتي مع هذا الكتاب قد مضى عليها أكثر من أربعة عقود، لكن قراءتي الأولى كانت قراءة شاب يافع يتقد حماساً وحيوية، وينتمي إلى فترة تدافع وصخب وغليان، وانتصارات أيضا. وكانت القراءات في عمومها أسيرة للحظات الفعل والتجلي التي عمت منطقتنا العربية خلال عقدي الخمسينات والستينات من القرن المنصرم.
وبدت لي قراءتي القديمة أمام القراءة الجديدة بسيطة وساذجة.
فلم أتمكن حينها من الربط بين كتابات هذا المفكر الواسع الخبرة والعلم، وبين السياق التاريخي والأحداث العاصفة التي كان المشرق العربي يمور بها أثناء حقبة تأليف الكتاب.
واكتشفت من خلال القراءة الجديدة والمقارنة، والمقاربات التي توصلت إليها أن هناك الكثير مما يجب أن يقال حول المؤلف والكاتب، وأن ذلك ليس مجرد وفاء لتراث سياسي جاء في مرحلة حرجة، ومحطة انتقال من تاريخ الأمة، ولكن لأن ما قدم من معلومة وتحليل واستنتاج لا يزال كثير منه ينطبق على حال أمتنا الآن.
ولذلك يصبح هذا السفر الخالد مرجعاً مهماً في تشخيص واقع ما يجري في منطقتنا، ومحرضاً على العمل من أجل الخروج من الأزمة، وعنق الزجاجة، الكابح لتطلعات وأماني العرب جميعا في الحرية والنهوض والتقدم.
فتح الكواكبي عينيه على الدنيا للمرة الأولى عام 1854 في فترة تعاقبت فيها على مصر أحداث جسيمة.
فقد شهدت مصر في نهايات القرن الثامن عشر قيام نابليون بونابرت بحملة عسكرية واسعة عليها، تمكن خلالها من احتلال البلاد. وشاءت المصادفة أن يقوم شاب مجاهد في عام 1880 السنة الأولى للقرن التاسع عشر، يدعى سليمان بن محمد أمين الحلبي، هاجر إلى القاهرة لتلقي العلوم الدينية في جامع الأزهر، باغتيال الحاكم العسكري للحملة الفرنسية على مصر، الجنرال كليبر، احتجاجا على الاحتلال الفرنسي لمصر ودفاعا عن حرية شعبها، وثأراً للشيخ الذي أهانه كليبر.
وقبيل ذلك بوقت قصير، بدت ملامح الضعف والشيخوخة والفساد واضحة على السلطنة العثمانية.
وعبرت تلك الملامح عن نفسها في انتصار الحركات الاستقلالية في بلاد البلقان، وقيام حركات أخرى مماثلة في بلاد الشام وجزيرة العرب.
وقد أخذت تلك الحركات تنهش في جسم السلطنة، وتحيل الرجل المريض في الأستانة إلى حاكم عاجز، ليس فقط في حماية ممتلكات الدولة، ولكن أيضا في توفير المستلزمات المالية لتسيير شؤونها، مما ألجأ الحكومة المركزية للمديونية من البيوت المالية الأوروبية، بشروط مجحفة وباهظة، وضعت المزيد من ممتلكات السلطنة رهينة بيد الدائنين.
ومن جهة أخرى، كان المماليك، في مصر يعيثون فسادا واستبداداً وطغياناً. ويحملون الشعب المصري من الأعباء والإتاوات ما لا طاقة له بها.
تشاء المصادفة مرة أخرى، أن يكون الكواكبي، القادم من حلب الشهباء، والذي كنى نفسه ب”الفراتي” وآثر توقيع كتاباته بهذه الكنية، أن يتصدى، كما تصدى سليمان الحلبي من قبل، كل بطريقته الخاصة، للاستبداد والطغيان في مصر.
اختار سليمان خنجرا طعن به رمز الطغيان والاستعباد، ممثلا في الجنرال الفرنسي، واختار الفراتي أن يحارب بالكلمة والقلم. وبقي الرمح والقلم يعبران عن انتماء عربي أصيل ووشائج دينية وقومية بين الشعبين العربيين الشقيقين، عمدت وحدتهما بدماء المجاهدين في كلا البلدين وتضحياتهم.
وحين نعيد قراءة الكواكبي، سيكون من العصي علينا ألا نستحضر مقاربات أخرى، نطبقها على واقع التردي والتشرذم الذي نمر به في هذا المنعطف الخطير من تاريخنا.
هل صدفة حقا، أن يحضر الخديوي إسماعيل في أرض الكنانة منذ منتصف السبعينات. ورغم التسليم بأن التاريخ لا يعيد نفسه، لكن ما حدث في كلتا الحقبتين، متشابه إلى حد يصعب فيه على المتتبع لمسار الحركة التاريخية المصرية التمييز بين كلتيهما.
فالتجربة الخديوية أخذت مكانها مباشرة بعد هزيمة مشروع محمد علي، بينما حلت الثانية، قبل أقل من مرور عقد على هزيمة الجيوش العربية مجتمعة في الخامس من يونيو/حزيران، وفشل مشروع التنمية الذي بدأت ملامحه في التشكل منذ منتصف الخمسينات.
كلتا الهزيمتين أعقبهما سيادة نمط استهلاكي على مستوى المنطقة، وتغييب كامل لاستقلالية القرار السياسي في بنائهما الفوقي، وتبعية اقتصادية، تصل حد الاندماج في الأسواق العالمية، وضعف للعملية الإنتاجية، وتراجع لدور التصدير، وضعف في كفاءة الموانئ البحرية، وتجريد كامل للسلاح، وتبنٍ لسياسات واستراتيجيات، مفروضة بقوانين القوة، وليس بسيادة القانون.
إن التشابه هنا يصل حد التطابق، ولعل المسؤولين أرادوه أن يكون كاملا، فأعادوا بناء دار الأوبرا التي شيدها إسماعيل الخديوي، والتي أحرقت في يوم ريح عاصف من أيام الغضب المصري عام 1952.
وكما كان سقوط التجربة الأولى، مقدمة لضياع المنطقة بأسرها وسقوطها في نفق التفتت والفوضى، وانبعاث المرحلة الأولى من مراحل التصدي العربي للهيمنة العثمانية، وقيام الثورة العربية التي انطلقت شرارتها من مكة المكرمة ضد العثمانيين، والغدر الفرنسي البريطاني، الذي انتهى ب”سايكس – بيكو” و”وعد بلفور”، فإن مرحلة السبعينات أدخلت المنطقة بأسرها في نفق التسوية، وكانت نتائجها توقيع اتفاقية “كامب ديفيد” و”اتفاقية أوسلو” و”واتفاقية “وادي عربة” بين مصر وفلسطين والأردن”، وبين الكيان الصهيوني. وقد بلغت المديونية لدى كثير من البلدان العربية، وتدخل صندوق النقد الدولي والدوائر السياسية التي تقف خلفه، وضعاً مرعباً وغير مسبوق.
وليس من شك في أننا الآن نعيش أسوأ حالاتنا، فقد تم احتلال العراق من قبل الأمريكان، وتدميره هوية وكياناً، وإعادة تأهيله محلياً على أسس ومحاصصات إثنية وطائفية، وإضعاف دوره العربي.
وانطلق الخريف العربي منذ عشر سنوات ليقضي على الأخضر واليابس، وليسهم في تدمبر كيانات عرببة وتعطيل تقدمها ونموها.
والتهديدات الامريكبة لا تزال مستمرة بحق عدد آخر من الأقطار العربية، والحملات الإعلامية الصهيونية والأمريكية تتصاعد كل يوم، رغم التغيرات الملحوظة في موازين القوة الدولبة،لا بد من إيقاف حالة التدهور والانهيار في أمتنا العربية، ولا شك أن مقدمات الخروج من الأزمة الراهنة، تعيدنا إلى الجذور.. إلى أدب الكواكبي، وهو يتحدث عن عقد اجتماعي، وعن رأي حر، ومشاركة في صناعة القرار، وعن دولة يحكمها القانون، ويكون فيها المرء سيد نفسه.
هذه الدولة هي وحدها القادرة على إخماد الفتن، وتحقيق السلم الاجتماعي ومواجهة التطرف والغلو ونهج التكفير، وبناء تنمية سياسية واقتصادية واجتماعية حقيقية متينة، وجيش قوي قادر على الدفاع عن الوطن.
إن تنمية القوى البشرية، هي المدخل الصحيح للتنمية الشاملة، ومن دون ذلك لن يكون هناك إنسان عربي حر، قادر على ممارسة حقوقه الأساسية بعيدًا عن الضغط والإكراه. وبعيدا أيضا عن طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، لن يكون هناك مستقبل واعد لأجيالنا..
وسيستمر الخريف طويلاً وعاتياً.