من الشراكة إلى الصراع
د. يوسف مكي
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، حتى الوقت الراهن، حيث العودة مجددا لمناخات الحرب الباردة، مرت السياسة الأمريكية بمنعطفات رئيسية كان لها تأثير كبير، على التطور العلمي، الذي شهدته الساحة الدولية. ولم تكن العلوم السياسية الراهنة، ومناهج الدراسات العليا في العلوم الإنسانية، التي تدرس بالغرب، سوى نتيجة هذا التطور. لكنها في ذات الوقت حملت مخاطر فناء البشرية بسبب امتلاك سلاح الرعب النووي.
أثناء الحرب الباردة، بين المعسكرين الرأسمالي والإشتراكي، تحقق للبشرية عدة مكتسبات، بسبب التنافس الحاد بينهما. فكل إنجاز علمي يحققه معسكر، يعقبه إنجاز يحققه المعسكر الآخر. يضاف إلى ذلك، أن عدم قدرة أي فريق من المتصارعين، لحسم التنافس لصالحه، قد أسهم في ترصين العلاقات الدولية. ونتج عن ذلك انقسام حاد للعالم كله إلى محاور تحالف هذا الفريق أو ذاك، وبينهما نشأت كتلة فاعلة بالسياسة الدولية، عرفت بكتلة عدم الإنحياز. وباتت بلدان العالم الثالث، التي خاضت حروب استقلالها عن الاستعمار أقرب لهذه الكتلة.
منذ سقوط حائط برلين في نهاية الثمانينيات من القرن المنصرم، انتهت الحرب الباردة، وساد شعور عام في الغرب، أن حركة التاريخ قد توقفت. كما أشار الرئيس الأمريكي، جورج بوش الأب، في خطاب النصر على القوات العراقية، أن القرن العشرين صار أمريكي بامتياز، وأن القرن الواحد والعشرين سيكون كذلك. بل وهناك من المفكرين الأمريكيين من شطح أكثر، مثل فوكوياما، الذي تحدث عن نهاية التاريخ، بمعنى تربع النظام الديمقراطي، بالطريقة الغربية، على العالم بأسره، وإلى ما لانهاية. وكان صامويل هانتنجون، متماهيا مع أطروحة فوكوياما، ولكن بأقل حدة، حيث قال بصراع الحضارات، وأن الحضارة الغربية، ستسود العالم بأسره، لأنها الأقوى، وأيضا لأنها تستجيب لحاجات البشرية، ويعبر عنها نظام سياسي أكثر فاعلية.
ومنذ التسعينيات، بات الغرماء الدوليون شركاء. فروسيا والصين عملا جهدهما، كل وفقا لأهدافه الخاصة، لكسب ود اليانكي الأمريكي. وباتت لغة الشراكة هي السائدة بين الغرماء, و تحول الصراع الدولي من المراكز إلى الأطراف، حيث برزت تنظيمات، بمسميات مختلفة ترفض الشكل الراهن للنظام العالمي، وتستخدم ما لديها من وسائل عنفية لتغييره. وقد قادتها حيلها الدفاعية، إلى الهجرة في الزمن، والعودة إلى الماضي السحيق. وهي هجرة لها ما يناظرها بالغرب في التاريخ الحديث، ففي الستينيات من القرن الماضي، برزت ظاهرة الهيبيز التي ترفض الحضارة المادية، وتطالب بالعودة إلى الطبيعية، والشيوعية البدائية. لكنها لم تستمر طويلا، شأنها في ذلك شأن الزلازل والبراكين، التي تعصف بقوة ثم تستنزف ذاتها، وتخمد. وقد صنفت الظاهرة الجديدة بالإرهاب. ولا تزال تداعياتها تعيش معنا. ولم يتمكن الغرب، من القضاء المبرم على هذه الظاهرة حتى يومنا هذا.
وكأن الصراع قانون طبيعي، ومطلوب، فما دامت الصراعات بين الكبار قد توارت، فالبديل، هو تحول الصراع نحو الأطراف. ولأن تفرد قوة بالهيمنة على العالم، هو أمر مخالف لنواميس الكون، ونشاز في التاريخ الإنساني، لم يقدر للهيمنة الأمريكية أن تستمر طويلا.
صحيح أن العقد الذي أعقب سقوط الحرب الباردة، كان أمريكيا بامتياز، لكن التحديات لهيمنة القوة، قد بدأت مع مطالع هذا القرن، منذ أحداث سبتمبر عام 2001، حيث تم ضرب مراكز القوة الأمريكية، في مكمنيها، الإقتصاد والقوة العسكرية، ليتبعها شن حرب ضد أفغانستان لإسقاط نظام طالبان، واحتلال العراق، في مثل هذه الأيام من عام 2003م.
لكن الدب القطبي والتنين الصيني، تحركا سريعا لتغيير المعادلة القائمة، سعيا لخلق نظام دولي جديد، يعكس حقائق القوة الراهنة. وكانت نتائج الربيع العربي، وسقوط انظمة حليفة لروسيا بمثابة جرس إنذار لروسيا الاتحادية وللصين، كي يختطا سياسات جديدة، تجعل من البلدين قوتين قادرتين على تحدي الولايات المتحدة. وكانت البداية نبش الحقوق التاريخية للبلدين وإعادة تثبيت ملفاتها. ولم يمر وقت طويل، إلا والدب الروسي، يقفز فوق شبه جزيرة القرم، ويعاود المطالبة بحقوق الناطقين بالروسية في إقليم دونباس باوكرانيا. والصين تجدد بشكل أكثر قوة وتصميم على استعادة جزيرة تايوان. وفي الحالتين، يبرز معنى واحدا، هو إزاحة الهيمنة الأمريكية، عن رقبتيهما.
وإذا فالحرب الراهنة في أوكرانيا، ليست إقليمية، وليست بين روسيا وأوكرانيا، وأيضا السعي الصيني لاستعادة تايوان، بل هي من أجل خلق نظام تعددي مختلف يعكس حقائق القوة الجديدة، وتكون الصين وروسيا من أقطاب رحاه. ومع الواقع الجديد، ليس هناك مكان لمفردة الشراكة، فالصراع وحده العنصر الحاسم وهو سيد الموقف.
التعليقات مغلقة.